23 ديسمبر، 2024 10:40 م

دفعتني لسعات الهواء الليلي القارص ، بملابسي الخفيفة ، للبحث عن مكان يُقدَم فيه الدفء قبل أي طعام أو شراب ، قبل أن أجد على مقربة مني أحد المقاهي الأنيقة على الطراز اليوناني ، وإن لم تتغلب كثيرا حركة زبائنه المستمرة على شعوري بالوحدة والبرد ، ولكنها منحتني بعض الألفة الخاضعة للتأمل والاكتشاف بجدرانه الخشبية المزدانة بالكثير من الصور العتيقة ، المأخوذة من فيلم زوربا اليوناني ، الذي مثله أنتوني كوين في ستينات القرن الماضي ، جلت بنظري بين الوجوه المتشابهة  ، ولم استوعب في البداية وجها بدا لي حاضرا في لفائف الذاكرة ، وشعوري الحاد بمعرفتي بصاحب ذلك الوجه المتورد من البرد مثلي، الذي كما يبدو قد سبقني للطاولة المقابلة بدقائق قليلة ،  أعدت عملية البحث مرات ومرات بين سجلات الزمن دون أن أشعر بالملل ، دخنت الماضي مرّا مع سجائري الرخيصة ، لتحوم سحبه البيضاء فوق طاولتي المنزوية باستحياء ، ليهطل بخفة بعدها مطر الذاكرة واضحا صافيا ، مع ومضات عديدة من برق الواقع المتجلي الموجوع ، لتتشكل صورته ببطء سابحةً خلال ركام الذكريات الحبيسة منذ عقود ، وهو يدخل علينا حجرة الصف ، ببذلته الأنيقة وشاربه الكث ، كان في بداية الثلاثينات حينها ، حيث فرض وجوده بيننا كأحد أفضل المدرسين الذين لم يسقونا العلم نقيا وحسب ، بل شارك في مساعدتنا لكشف الكثير من الحقائق الغير خاضعة للفهم ، لشباب في مثل أعمارنا ، كنّا نكتشف الجيد ، فننبهر بطريقته العفوية في جعلنا نفهم ما علينا أن نفهمه بكلمات راقية ، وكنّا نكتشف السيئ فيقودنا إلى العديد من الطرق لنتجنبه ونتجاهله  ، لم يكن مدرساً للغة الإنجليزية وحسب ، كان رساما تشكيليا ، وشاعرا مفوّها ، ومربيا فاضلاً ، وكان يفتخر بعراقيته أولا ، وبقوميته الكردية ثانيا ، كان يحدثنا دائما بفخر عن قريته في شمال العراق (( …… )) ، حينما كان يدعو البعض منّا إلى المقهى البرازيلية ، في شارع الرشيد ، ليقوم بإعطائنا دروسا إضافية مجانية في ما كان يُشكل علينا في قواعد اللغة الإنجليزية ، لم يكن يكتفي بتلك الدروس المجانية ، بل كان كثيرا ما يدفع ثمن ما كنّا نتناوله من المشروبات الدافئة والباردة ، كانت دوما رائحة الدخان تفوح من ملابسه ، ولكننا لم نره قط وهو يدخن ، كانت طريقته البسيطة في التربية ، أن يدعك بنفسك تجرب الوصول إلى المطامح والمتاعب معا ، علمنا كيف نحب الوطن ، وأن نحفره كمحبوب أوحد في صدورنا ، كان كثيرا ما يسمعنا شعره المزدحم بالكثير من المفردات الجميلة في حب الوطن ، باختصار لم يكن من النوع الذي يمر مرور الكرام في حياة أي واحد منا ، حتى وإن طال الزمن، عدت إلى نفسي ولكني لم أنتبه قط كيف قادتني قدميّ مباشرة إلى طاولته لا شعوريا ، صارخا بلهفه : أستاذ رمزي كيف حالك ؟ ،  تفرّس وجهي المبرود قليلاً ، ليفاجئني بعدها ببرودة أقسى مما كنت أشكوه خارج المقهى ، بدعوتي إلى الانضمام إليه  ، مرددا أسمي ، معلنا أنني مازلت أحتل بقعة مهما كانت صغيرة ، في وديان ذاكرته الخصبة ، تكورت على المقعد المقابل له ، كتلميذ يواجه معلمه في أول يوم له في المدرسة ، متناسيا عن غير وعي أنني في منتصف الأربعينات ، وربما أحمل من الشهادات نوعا وكما أكثر مما يحمل هو بكثير ، فقد كنت ما أزال أعده معلمي الأول ،  سألني بهدوء غير معهود عن أحوالي وأوضاعي ، بطريقة الأسئلة المتدرجة والمفتوحة بحرفية الأساتذة الذين يعلمون بالضبط كيف يديرون حوارا من طرف واحد ، بدأ استغرابي من هدوءه يدفعني لأن ألملم شتات نفسي ، وأعود شيئا فشيئا إلى امتلاك زمام بعضا من الحوار الذي لم يسحرني البتة ، منتبها في الواقع لأول مرة لما طرأ عليه من تغيير ، في طريقة الكلام واللباس ، سرقنا الوقت وتحدثنا في الكثير من الأمور ، حدثني عن هجرته إلى ألمانيا  في بداية التسعينات ، وعن كفاحه المستميت هناك ، وكيف انخرط في أعمال متواضعة ، ليوفر الضروري فقط من احتياجاته المعيشية ، كان يتحدث عن ألمانيا بنفس طريقته القديمة حينما كان يتحدث عن الوطن ، إلا انه هذه المرة كان يدعم حججه وبراهينه بالكثير من المفردات الإنجليزية والألمانية ، مما أفقده تلك اللغة الجميلة الراقية التي كان يسحرنا بها ، مبدلا إياها بلغة هجينة خالية من أي تناسق أو جمالية ، كانت نوبات السعال كثيرا ما تمنعه عن مواصلة كلامه ، معللا لي أن التدخين ومكوثه في بدروم رطب لفترة طويلة ، قد سرقا من صحته الكثير ، امتلأت الطاولة بالعديد من أكواب القهوة الحلوة ، وتناثرت حبات السكر الأبيض هنا وهناك ، ولم استمع منه سوى عن سنوات كفاحه واضطهاده وتشرده إلى أن تمكّن أخيرا من الحصول على وظيفة مساعد أمين المكتبة في المدينة الصغيرة التي كان يقطنها ، وكيف أن القدر أبتسم له قبل بضع سنوات بموت أمينة المكتبة الألمانية الأصل والمولد والنسب  ، وأنه احتل مكانها بكثير من الحظ  ، للمرة الأولى في حياتي أشعرني معلمي الأثير بألوان من الملل والسأم ، وتمنيت أن قدماي لم تحملني إلى طاولته قط ، على إني لم استطع أن أفهم سر تفاخره الشديد بجنسيته الجديدة ، ولم يستطع هو أن يقنعني أو أن استوعب بنفسي أبدا حججه في شرح سبب تمسكه المستميت بمحبوبه الجديد ونبذ محبوبه القديم ، وقد أكون قد فاجأته بسؤالي عن مصير عشقه العتيق لما علّمنا أن نحب ونعشق ، فأجابني بغير اكتراث مكتفيا بتلويحة يائسة من يده ، بأنه قد طلّق بلا رجعة ذلك الحب العتيق المرتبط  بذكريات أحلاها مُر على نفسه ، وأنه لم يشعر بالانتماء الحقيقي سوى بوطنه الجديد ، مطنبا في محاولة إقناعي أو ربما إقناع نفسه المتغربة ، بأنه يشترك مع الألمان في أصله الآري ، وأنه قد عاد أخيرا إلى أصوله الحقيقية ، وبقعته الطبيعية ، غادرت المقهى بعد ساعات قضيتها في الخوض في نقاشات عقيمة خلتها دهرا ، بدا الجو في منتصف الليل أكثر برودة ووحشة ، لم ينقذني منها سوى عادتي القديمة في استدرار بعض الدفء عن طريق حلب ذاكرتي المكدودة ، وإطلاق العنان لذكرياتي مع محبوبي الأول ، الذي لا تغار منه حتى زوجتي الحبيبة ، حينما أقول لها بأنك محبوبتي الثانية من بعده ، مما جرني إلى مقارعة أرق مدمر في تلك الليلة الموحشة ، مستعرضا ألوانا شتى من محاولات الرقود الفاشلة ، التي لم تثر ولا واحدة منها ملاك النوم لتغريه بالقدوم إلى مخدعي ، على أني لا أنكر أني استفدت كثيرا من ساعات الخلوة تلك للتفكير في الأسباب الحقيقية التي دعت ذلك المعلم الفاضل ، في قلب ولاءاته رأسا على عقب ، ضاربا بعرض الحائط كل تلك المبادئ التي سقانا إياها يوما ما ، وهل العيب في العراق أم فينا ، وهل المشكلة في طريقة الزراعة أم في طريقة تسويق الحصاد  أم في نوعية التربة وخصوبتها  ؟
للوصول إلى إجابة حصيفة لهذا السؤال ، علينا الخوض مجددا في جدل سفسطائي يشبه ذاك الجدل العقيم حول أيهما وجد أولا البيضة أم الدجاجة ؟ ، فإن كان جدلا فلسفيا فسيقودنا لا محالة إلى استحالة الحصول على جواب غير عقيم ، وإن وجهّنا جدلنا باتجاه النقاش المنطقي الممتزج بنكهة التفكير الإسلامي المعتدل ، سنجد أن الجواب أبسط من أن يستغرق الكثير من التفكير ، بقوله تعالى (( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)) الذاريات _ الآية 49 ، التي تخبرنا بصورة مطلقة عن أهم قاعدة من قواعد الخلق ، والناموس الوحيد لبدء الوجود، بالإضافة إلى أن جميع كشوفات المنطق البديهي تشير إلى أن البيضة وغيرها ، خاضعة لمبادئ ارتباط الأشياء ببعضها ، وأن كل الأشياء التي تعتريها الحياة ، قائمة من خلال كونها أجزاء في تركيبات ، وارتباطات ، وتوازنات ، تؤكد نقصها وافتقارها  لغيرها على نحو يستحيل معه فقس البيضة لوحدها ، من دون الحاجة إلى الدفء والاحتضان من قبل الدجاجة نفسها ، ولعلنا نصل بنفس تلك البساطة إلى  الجواب الحقيقي الذي يدفع شخصا على شاكلة الأستاذ رمزي ، وغيره عشرات الآلاف وربما أكثر لإعادة توجيه مبادئهم وعواطفهم إلى بلد ثاني غير الذي ولدوا ونشأوا فيه ، وإعادة صياغة منهجياتهم الفكرية والأخلاقية والثقافية ،فما فعله الأستاذ لم يكن تصرفا شاذا أو فرديا مما يدفعنا إلى دراسة تلك المشكلة بالكثير من الموضوعية والمرونة الفكرية ، للتعرف على الأسباب الدافعة لنشوء ظاهرة جديدة تنتشر وتتمدد ، كالفيروس الذي يدخل ببساطة لينتشر بعدها بسرعة فائقة ، مسببا الكثير من المآسي والمشاكل ، وخشية أن تصبح هذه الظاهرة من أخطر الأمراض التي قد تهدد هوية الأمة وثقافتها في القريب العاجل  ، ومثلما توصلنا ببساطة إلى أن البيضة من الدجاجة ، بحكم الرجوع إلى القاعدة الأصلية ، بمؤداها الواضح أن الأشياء الجديدة ، لا يتم إنتاجها إلا من خلال ارتباط وتزاوج العناصر الحيوية الأولية ، قد نستطيع التوصل أيضا ، أن البحث في نتائج التقاء وتراكب وتزاوج الأفكار والثقافات ، قد يؤدي إلى تلمس الأسباب الكامنة التي دفعت بالبعض ، إلى تعمدهم في التسبب بضياع الهوية الحقيقية ، وذوبان الشخصية والانسلاخ التام ، وقطع كل الارتباطات السابقة مع قيم ومبادئ مجتمعاتهم الأصلّية ، ومحاولة الاستغراق الكامل في محاولة التكيف مع مجتمعات جديدة بكل أجزائها الصالحة والمعطوبة ، فالكثير ممن غادروا أوطانهم لأسباب قد تكون مختلفة ، إلا أنها تشترك في الهدف والرغبة الموحدة في البحث عن حياة جديدة تحقق لهم إشباعا نسبيا لقناعات شخصية فردية ، وتجاوز مرحلة سلبية ، والانتقال إلى أخرى إيجابية ، تسودها إغراءات الإثراء وتحقيق الذات ، مع نسبة انبهار عالية بما لمسوه من تقدم علمي وتقني وتنظيمي، يلقي بظلاله على مختلف جوانب الحياة اليومية هناك ، ولكن ذلك لا يعني أن المجتمعات الغربية مثالية إلى الحد الذي يقودهم إلى تجاهل العديد من جوانبها السلبية ، وأجزائها المعطوبة ، التي لا يستبعد أن تكون يوما سببا حاسما في انهيارها ، وأفول نجمها ، وسقوطها نحو الحضيض .
كما أن من الإنصاف أن نعترف بأن الحضارة الغربية الحديثة : ليست سيئة بذاتها ولا هي شرا مجردا ,وأنها تزخر بالكثير من الجوانب الإيجابية ، وخصوصا الجوانب العلمية والتقنية والتنظيمية ، وقضايا حقوق الإنسان ، وممارسة الحريات – التي مازلنا نعاني من إشكالية فهمهما وتطبيقها واستيعاب دلالاتها المختلفة وربما المتقاطعة من مجتمع لآخر – . فلا مجال بمكان ما لإنكار ما في حضارتهم من محاسن رائعة ، وانجازات مبهرة تتفرع منها الكثير من مباهج الحياة وزخرفها مما يجعلها مصائد لا حدود لها ، لإبهار الزائرين والمهاجرين، في ما تتميز به من تطاول بنيانها , وتعدد حرياتها واتساع مساحة رقعتها ، وبهرجة أضوائها , وفخامة مدنها ،وضخامة جسورها وشوارعها , وزخارف دورها، وجمال طبيعتها , ومباهجها ومتعها التي لا يحدها نصل خيال ،  ولكنها في ذات الوقت فيها الكثير من المخازي والسلبيات والخطايا والتشوهات ، التي تجعلها حضارة جامدة ، ذات فكر مادي محض ، مفتقرا بشدة إلى الكثير من الجوانب الروحية ، والأهداف الإنسانية المعنوية ، في تركيبة غير متجانسة من الأشياء الجيدة والسيئة ، والحسنات والسيئات ، والصواب والخطأ ، ولكن لا الصواب عندهم يصّوب الخطأ ، ولا الخطأ يخطّأ الصواب ، وبالنهاية لا يستطيع أحدهما إلغاء الآخر ، كما هي حال الخير والشر منذ بدء الخليقة ، لذا ؛ لا يمكن القول بأي حال من الأحوال ؛ أن كل إفرازاتها وانعكاساتها قابلة للتبني والأخذ الكامل ، أو الترك الكامل ، كما إن احتكاك وتلاقح الثقافات والهويات والأفكار والمناهج المختلفة قد يكون سلاحا ذي حدين ، حسب درجة نضج الوعي الشخصي ، فأما أن تكون عنصر انحسار وذوبان للهوية الوطنية والقومية ، كأداة هدم وتمزيق للنسيج الأوّلي ، وفك عوامل الارتباط الرئيسة مع المجتمع الأصلي، أو أن تكون منعطفا حاسما لتصحيح المسارات ، وعاملا مهما للإثراء والتنمية والتطوير، والأهم من ذلك نوع الخلفية الثقافية ، والنظرة العامة للفرد من خلال طريقة فهمه واستيعابه لمعايير وشروط وظروف ذلك الاحتكاك والتلاقح ، وإذا ما تمكّن مفكرونا ومنظرونا ، من صياغة مفاهيم جديدة ، ومعايير حديثة تجتهد في الخروج بنظرة وسطية بين فكرة الانهماك التام في تقليد الماضي ، والإصرار على ممارسة أنواعا قاصرة من التغريب الفكري والثقافي والعلمي ، وبين الاستماتة في التقليد الأعمى للغرب ، واعتباره النموذج الأمثل للإقتداء ،والإفراط في التشبع بجميع قيمه وسلوكياته ومبادئه دون تمييز ، على أن تعمل تلك النظرة الجديدة ، على توطيد الفهم الصحيح للطريقة المثالية في التعامل بمرونة وانفتاح مع الأفكار والثقافات المعاصرة ، والاستفادة منها ، وتقّبل كل ما هو عصري وحديث بعد تنقيحه وموائمته مع خصوصيات المجتمع ومتطلباته ، لنتجنب أي تشوهات قد تلحق في خصوصياتنا الدينية والفكرية والثقافية  ، على أن تمارس تلك الفكرة الوسطية أيضا لدورها الجوهري في سلوك أوضح الأساليب وأقصر الطرق في التأكيد على أن الثبات على المبادئ والقيم ، ليست جمودا أو حدودا مانعة للتطور والتغيير الإيجابي الحسن ، ولكنها أداة فاعلة لإبقاء ذلك التغيير تحت السيطرة ، وتوجيه أي انحرافات فجائية قد تطرأ عليه ، وإبقاءه دوما في الاتجاه الصحيح ، إذ أن الجوهر قد ينخر بعض جوانبه الصدأ والعطب ، مما يدفع باتجاه التخلي عن بعض الأجزاء المعطوبة التي ما عاد بعضها اليوم يواكب حاجات الأمة المُلّحة ، وكذلك التأكيد على مبدأ ((الحكمة ضالة المؤمن، فخذ ضالتك حيثما وجدتها)) ، فلا ضرر من انتزاع الجزء الجيد وترك الجزء الضار ، كفكرة استخلاص العنبر الخام من قيء الحوت الذي يخرج من جوفه ، أما أن يخرج علينا كل يوم العشرات من هؤلاء المتمادين في التخلي المهين عن هوياتهم الحقيقية ، ممن هم على شاكلة صاحبنا ، رافعين معاولهم الهدّامة ، مجتهدين في نشر نموذجا شديد السمّية لفكرهم المهزوم ، ومبادئهم المحدودبة بثقل الانبهار المخزي ، والتبعية المطلقة لحضارة الغرب , وفكر الغرب, وعادات الغرب, وتقاليد الغرب, وتقاليع الغرب ، وسلوكيات الغرب ، ممن يؤمنون بأن أخذها كما هي بخيرها وشرها ضربا من ضروب الحداثة والعصرنة والتقدم ، وتركها بمجملها ، وتجنّب بعضا من أجزائها ، مدخلا مظلما من مداخل التخلف والجمود والضعف  ، فهذا برأيي الخطر عينه ، وعلى مفكرينا ومنظرينا أن ينيروا لأجيالنا المعاصرة سبل التعلق ببنائهم الأصلي القائم على أعمدة راسخة وعظيمة من مبادئ حضارتنا العربية الإسلامية ،  ليدركوا  من خلالها أن أية مدّنية معاصرة ، أو حضارة مُبهِرة – مهما كانت متقدمة – ولكنها تفتقر إلى الجوانب الروحية والأخلاقية ، ولا تتحلى بالسامي من المبادئ والقيم  ، فأنها لا تستحق أن نكشف عوراتنا من أجلها ،وأن نختبئ خلف بريقها الزائف ،وجاهليتها الحديثة ، وفنائها القادم آجلا أم عاجلا ، بأدلة السياقات التاريخية ، بوقائعها الدامغة التي جرت على أمم وحضارات سابقة انهارت وتبخّرت ، وانضمت إلى قوائم الأمم الفانية ، بسبب إعلائها الجوانب المادية والاستهلاكية على حساب الجوانب الأخلاقية والروحية .
 لا شك أن مشاعر انتماء الفرد لمجتمعه ، ومضامين حبه لوطنه ، تُعَدُ من أكثر العواطف قوة وفورة ووضوحا ، وأن مفهوم حب الوطن والتمسك به ، لا يعني فقط أنه ذلك المكان الذي نولد ونسكن فيه إلى حين رغما عنّا ،بل هو مسؤولية جسيمة يحملها المرء على عاتقه لحظة ولادته ، وليس الوطن كأي شيء ممكن أن نفقده أو نفرط به أو نتخلى عنه ، الوطن امتداد خفي وارتباط متغلغل في النفس البشرية يصعب وصفه أو حصره في مفهوم ، وأن العيب ليس بالوطن ، بل العيب في ترك المفاهيم الخاطئة على عواهنها لتقود لاحقا إلى سلوكيات خاطئة ، العيب في عقليات لم تربى جيدا على مفهوم الانتماء الوطني الراسخ ، والمضامين الحقيقية لمعنى الولاء المسُتحق لحمل حقوق وواجبات المواطنة المُثلى ،وسيبقى السؤال مطروحا : هل سنتمكن من إيجاد الحل المناسب في الوقت المناسب ، قبل تعالي تلك الأصوات النشاز ، إلى الدرجة التي سيصعب معها إخراسها وإسكاتها ؟ ، لنخسر المزيد من العقول والكفاءات التي تترك البلد بالمئات يوميا ، تحت عنوان البحث عن طريقة جديدة لرسم مستقبل أفضل ، وصورة جديدة لوطن مستقبلي يمكّنهم من الاقتراب من منابع الثروة وأماكن إعادة بناء الذات والتمتع بمباهج الحياة ، وحسب، وأخيرا دعونا نوحد أصواتنا لنقول لكل أولئك المسحورين والمهووسين بالتنكر لأهلهم وعروبتهم : أنهم سحروكم بتلك النظارات الضبابية ، التي لا ترون من خلالها  سوى سفينة أنيقة ، تعلوها زينة فارهة ، فيها من الزخارف والمباهج الكثير ، ولكنها تسير على غير هدى في بحر الهوى ، لا هدف لها ولا مرسى ، وأنهم بلا شك سيأخذون منكم أضعاف ما سيقدمون لكم ، وتذكروا قول الله تعالى : ((إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ))،لا تبخلوا على أوطانكم ، بعلمكم وعلومكم وعقولكم المستنيرة ، انزعوا عنكم نظاراتكم السوداء ومدّوا يديكم لمن مدّها لكم ، فلولا الوطن ما كنّا ولا كنتم ، والله المستعان على ما تصفون .