بات الأفراد ضمن الشعوب يميلون نحو الأنطواء والأنعزالية أكثر من أي وقت مضى , ليحملوا أعراض ظاهرة اضطرابات طيف التوحد التي تفشت بين الناس في حالة لم يسبق لها مثيل .تعددت الأسباب والنتيجة هي ارتفاع نسبة الميول العدوانية لدى المجتمعات والتي أفضت لتتقطع أواصر التواصل فيما بينها , لتبدء بالتلاشي في أرقى صور التفاعل بين الناس ألا وهي , الصداقة.هذا المفهوم المجتمعي الذي لا يمكن إختزاله باقوال فاض بها الحكماء والشعراء ليصفوا معانيه , فهي عنصر أساسي يُعدُ محركاً مركزيًا في تصور مجتمع فاضل ، فالقانون وحده لا يبني الثقة بين الأفراد , كما أن رابطة الدم وحدها لم تكن يوما بديلاً عن أتخاذ الرفقة , فالأخ لا تختاره أنت بأرادتك , ولكن الصديق أنت من تنتخبه ليكون قرين لك , ومن هنا تولدت أواصر فاقت في قوتها بين الأصدقاء عما هي بين الأشقاء .ولسنا هنا بصدد سرد ما أورده الحكماء والشعراء من أقوال وصفوا فيها معنى الصداقة , والسبب أنها لن تحرك ساكناً ولن تحاكي مشاعر تلبدت , وعواطف جفت في زمن قست فيه القلوب وغلِفت بقشرة من الجفاء .فقد سادت الغلظة والفضاضة في التعامل بين الناس ولم تعد الإبتسامة وسيلة للمحاكاة , حتى تفشت أزمة حس أنساني بين الشعوب , في ظل تصاعد لوتيرة الحداثة وتسيد للأيديولوجيات في العقود الأخيرة ، ما جعل المصلحة والمنفعة هي معيار للتواصل وليس التوافق والألفة ، فالمادية قضت على الروابط الوجدانية بين البشر وقادتهم لانتحار عاطفي جماعي ، ما أدى بالتالي للقضاء على منظومة القيم والسكينة النفسية ، فتقطعت الروابط بين الناس وزادت معدلات الجريمة وسائر مظاهر الجنوح السلوكي ، وهو ما يفسر لنا إحصاء نحو 500 ألف جريمة قتل بدوافع جنائية ترتكب في شتى أنحاء العالم خلال سنة واحدة بحسب تقرير لمكتب الأمم المتحدة .الدكتور “جراي سمول” من جامعة كاليفورنيا قال : إن التعرض اليومي للتكنولوجيا الرقمية مثل الهواتف المحمولة والإنترنت قد يغير من الطريقة التي تعمل بها عقولنا , مبيننا إن قضاء وقت طويل في التعامل مع الوسائل التكنولوجية ، وعلى الجانب الأخر قضاء وقت أقل في التعامل مع الأشخاص الحقيقيين , جعلنا نفقد تدريجياً المهارات الأساسية في التعامل الاجتماعي مع الناس , كما أفقدنا القدرة على قراءة وفهم التعبيرات على وجوه الناس والتي تظهر أثناء المحادثة معهم .وتتجلى هذه الصورة في أكثر الدول تقدما صناعيا , فقد نشرت مجلة “نيو ساينتيست” نتائج استطلاع عن الصداقة ، جاء فيه “أنه بين عامَي 1985 و2004 انخفض متوسط عدد الأصدقاء المقرَّبين ممن يعتمد عليهم وقت الشدة وفي الأزمات لدى المواطن الأمريكي من ثلاثة إلى اثنين ، وزادت نسبة الأشخاص الذين لا يملكون أصدقاء على الإطلاق من 8% إلى 32% ” .هناك مثلٌ يقول ” من السهل الحصول على صديق , ولكن من الصعب الأحتفاظ به ” وهو قول يلخص مجمل مشاكل مر بها الكثيرون عِبر تجارب يمكن وصفها بالصادمة مع أناس كانوا اصدقاء مميزين ومقربين, فتتخالج المشاعر بأن ما جرى كان نتيجة سوء الأختيار , ما ولد حالة مفادها العزوف عن الاختلاط , فيما ينصح الأديب المُحنَّك عبد الله بن المقفّع بالقول ” اعلم أن انقباضكَ عن الناسِ يُكسبكَ العداوةَ , وأن انبساطكَ إليهم يكسبكَ صديق السوء , وسوءُ الأصدقاء أضر من بغضِ الأعداء “.ولكن وفي ظل أشكال من التحدي على أرض الواقع ووجود مجتمع تلبدت مشاعره , وغلبت السلوكيات التي تتصف بالعنف على أشكال التعامل بين أفراده , حتى عاد الكثير منه لا يخشى الرقيب الألهي فيما تلاشىت الرهبة لدى أخرين من رقيب تأنيب الضمير لتتشكل ظواهر كانت الأبدان في الأمس القريب تقشعر لمجرد سماع رواية عن أحداثها وأن جرت في قرونٍ مضت , فلا يمكن على سبيل المثال أجتزاء حالة دون أخرى , لنقول أنه من الممكن أن نجد شخصا وفياً في صداقته ولكن هناك ثلمة في تصرفاته وهي إنه عاق لوالديه !! .تسيّد الغلضة في التعامل نجم عنه حالة من الأحباط لدى جمهور واسع , ما دفع للبحث عن بدائل أو ما يضنه البعض بالبدائل لتعويض الحاجة الملحة للرفقة والتواصل , فكانت على سبيل المثال غرف الدردشة والهواتف المحمولة وسائل لاذ بها الكثيرون , وهي من وسائل التكنولوجيا التي أنتشرت بسبب ضعف العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة رغم ما فيها من سلبيات ستدفع لزيادة في نسبة العزلة الاجتماعية وإدمان في استخدام الانترنت , وهو ما تؤكدة الأحصائية التي تقول أن ” 15% من مستخدمي الإنترنت يرتادون غرفة الدردشة أو الشات لينتج عنه تفاقم في الإنهيار الأخلاقي والتوازن المجتمعي بعد ارتفاع نسبة المستخدمين للإنترنت على مستوى العالم إلى 10% ممن يقضون نحو 15 ساعة أسبوعياً أمام المواقع الإباحية.ما يجري يعد انهياراً عظيماً كما وصفه “فوكوياما” الأمريكي في كتاب صدر له مؤخراً, والذي شخّص فيه حالة العصيان المدني الذي اتسم بتدهورٍ خطير في الظروف الإجتماعية وتسارعٍ لانهيار الروابط، ليتمخض عنها انخفاض حاد بمعدلات الخصوبة في معظم دول العالم, حتى باتت تنذر بانقراض هذه الشعوب مع تراجع لمعدلات الزواج وقلة المواليد إلى حد أن ثلث الأطفال بالولايات المتحدة ينشأون خارج مؤسسة الزواج، في حين تبلغ هذه النسبة 50% في الدول الاسكندنافية, ولا نستبعد أن تدرج دول عربية عما قريب ضمن قوائم بهكذا نوع من الإحصائيات في ظل الانفتاح الغير مدروسٍ على العالم وبالتزامن مع تقوقعٍ وانغلاقٍ للفرد العربي على نفسه .