مطر يغسل غبارنا، يعيد الحياة للغزل والعيون والنهر، يقبلُ الأرض حين تهلل وجوه الفلاحين ، يبشر القداح بضيافة الربيع، وأحيانا يساعد الباكوّن على تسريب دموعهم دون رقابة ، حين يخالطها المطر ..!
كان النهر يمتلئ حين يهطل المطر ، الشوارع تمتلئ بصراخنا نحن الصغار ، وكمّ داعبتنا البراءة والوهم ايضا ً ونحن نطلب من المطر الحلبيّ ان ” يُعبّر” بنات الجلبي ..!
جاءنا “الجلبي “.. ، جفّ المطر و حلّ الغبار والأحمر القاني .
في بغداد مطر اسئلة تنزل مثل حباته الثقال المتأخرة .
” مطر كلش مطر ..والشارع مغوّش حچي (حَكيّ ) “
هكذا تقول نبوءة العراف مظفر النواب قبل سنين ، وهذا الضباب لن يمحى عن العيون لو استمر المطر مائة يوم ، هذا رماد التاريخ ينفجر مرة واحدة ، فلا نهر ينفع ولامطر يصلح ..ولاحتى قصائد السياب يمكن ان تمنح الذاكرة بعض الأمل .
مطر في بغداد ووحشة الطرقات تعلن عن موسم حزن إضافي ، ليل ينهض قبل موعده ودفء لامعنى له ونحن على بُعد أسبوع من آذار ، مطر يزيد ” الطين ” بلّة …!
شعوب الأرض التي لاتملك نازحين، تفرح للمطر وتغني بوجدان يتماهى ولحظات التطهر في عناق المطر ، مطر يدفع للعشق والنشوة والتأمل في معنى ان تتكامل دورة الروح حين تغرق الأرض بالغيث ،وتكرر السماء دورة رعايتها للأرض وماعليها ..!
برق يضيء عتمة المساكن المهجورة من الضوء ، رعدٌ يدويّ لاتترشح عنه دماء ولاأيتام أو ثكالى ، وهذا الشذا المتصاعد من تراب الأرض يذكرك بانك حي ّ، لم تفقد كل حواسك بعد، هاأنت تميز رائحة الأرض بعد المطر .
مطر يدعوك ان تستفيق ، تتذكر وصايا الراحلين ، بأن القوانين تمارس لعبتها دون توقف ، و خداع الأزمنة أوطوارئ السنين لن تغير من سنن الوجود ،… وصت السماء ينادي بلا توقف ” تلك الأيام نداولها بين الناس “، لاثبات في هذه الدنيا ، لاسيادة نهائية للخطأ أو الفرح أو الموت… الطبيعة ترفض ذلك مهما استبد الوجع والإغتراب وتلونت الفوضى .
مطر في بغداد ، ستنبت الأرض من جديد ، وذاك الشارع الممتلئ بالكلام “المغوّش” والصمت المر ّ،سيعطي ثماره بحكمة جميلة نافعة ، سترقص مع المطر في أحضان بغداد وجداول الأناشيد والزهر والشجر ، وينشد الصغار مجددا على ضفاف دجلة ؛
مطر مطر حيل حيل ..عبرت بنات الكحيل .
ويبقى صوت النواب يكرر الترنيمة ..” مطر كلش مطر …والشارع مغوش حچي “