نيرون الإمبراطور الروماني الطاغية ،أمر بإحراق روما ثم جلس على مرتفع يداعب قيثارته ويغنّي ، بهذه الصورة قدّمه التاريخ وتداوله المؤرخون من دون أية تساؤلات عن حقيقة حادثة لم تعد تعني أحداً إلا باستحضارها كمثال للطغاة واستهتارهم بمن أوقعهم القدر تحت رحمتهم .
ورغم أن بعض المؤرخين أورد( ثلمة ) في تلك الواقعة لمحّ فيها إن المتدينين ( المسيحيين الأوائل ) قد يكونون هم من أحرق أو ساهم بإحراق روما إنتقاماً لمن قذفوا عنوة في الحلبة لتفترسهم الأسود أمام تشجيع وحماس المشاهدين من سكّان روما، وبالتالي تبدو تلك (الثلمة ) معقولة كتفسير منطقي لتسلسل الأحداث أكثر من فعل نيرون الذي لامصلحة له بإحراق المدينة ، إلا أن صورة الإمبراطور الشوهاء بقيت كما رسمها المؤرخون ، وهي تشابه إلى حدّ ما ، الصورة التي غلبت على أعظم خلفاء بني العباس (هرون الرشيد-1) العابث اللاهي والسكير الفاسق ، متجاهلين عبادته وتقواه وتضرّعه لله درجة قال فيها أحد علماء عصره بعد أن رآه يصلي 🙁 انظروا جبار الأرض يتضرع لجبار السماء) .
لكن لم يتساءل أحد إن كان الرشيد لاهياً فاسقاً ، فكيف أصبحت الدولة الإسلامية في عهده هي الأعظم والأقوى والأوسع إنتشاراً ؟ ولماذا كانت بغداد أكثرالمدن منعة وتطوراً بل وعاصمة الكون برمّته ؟ متى وجد الوقت للإهتمام بكل تلك الأركان الشاسعة ؟
ألم يكن الرشيد (ديمقراطياً )بمعنى ما ،حيث تنوعت في عهده مدارس الفقه والفلسفة والعلوم على مختلف أصنافها وفروعها، في وقت تكاثرت فيه كذلك مجالس اللهو والطرب ودواوين الأدب ، من دون أن يوجد من يعكر مدارس أولئك أو مجالس هؤلاء .
نيرون أحرق روما أو أمر بإحراقها ، هذا ماتواتر عبر التاريخ رغم إن أحداً لم يجزم بوقوع الحادثة أو حجمها أو عدد الأيام التي استغرقتها وما كان الهدف الحقيقي من ورائها إن كانت لإتّهام المسيحيين من أجل إبادتهم كما يقال ؟ أم كانت هناك أهداف أخرى لم يأت على ذكرها المؤرخون ؟ ليس ذلك مهماً ، لكن مايمكن قوله من المتواتر التاريخي عن حريق روما – إن حدث فعلاً – انه لم يستغرق سوى ليلة واحدة أو نحوها ، إذ لم يتحدث أحد عن حرائق استمرت أشهراً أو سنوات ، كذلك لم تشمل سوى روما وحدها وليست بقية مدن الإمبراطورية الرومانية مترامية الأطراف ، ومع ذلك فما أن نسمع بنيرون ، حتى يرتبط في أذهاننا طاغية معتوه لايتوانى عن إحراق شعبه ومدينته ، فيما يردد بعض المتدينين ( أعوذ بالله من شرّه).
لكن البشرية في تاريخها الإسلامي شهدت ماهو أكثر منه ، رأت مدينة رسولها تستباح لثلاثة أيام كاملة – بنهاراتها ولياليها – كي تنتقم قريش لقتلى (بدر) ، ورأت مدينتها المقدسة (مكّة ) تحرق بالمنجنيق وتعلّق جثث ثوارها على الأبواب كناية وشماتة ، كما رأت رؤوساً تحمل على أسنّة الرماح مسافة ألف كيلومتر ، فقط كي يراها الطاغية ( المسلم) فيشمت ويفرح ويكرم القائمين بعمل كهذا ، ثم رأت مدناً تلفّها كرة هائلة من اللهب حيث لم يبق لسكانها من أثر، وعواصم تباد عن بكرة أبيها وأحضان أمّها ،ومع ذلك بقي نيرون محرق روما .
حاضر اليوم هو تاريخ الغد ،واليوم نرى عياناً ونسمع بملء الأذنين بل وقد نلمس كذلك ، من الحقائق مالا يمكن تجاهله ولا إخضاعه للتخيّل أو التأويل ، إن هناك (نيرونات ) يحرقون مدنهم كلها بل ونواحيها وقراها وبأوامر صريحة لالبس فيها ، ويهدمون المنازل على رؤوس شعوبهم،ويرتكبون كلّ ما يمكن لنيرون أن يتبرأ منه بل وقد يخجل من ذكره ، ومع ذلك يجد هؤلاء الطغاة من يساندهم ويدافع عنهم بل ويعتبر عملهم ثورياً مشروعاً ، فيما شعوبهم عميلة مرتبطة أو مجموعات إرهابية ينبغي إبادتها.
ماذا نتوقع إن يكتب التاريخ عن هذه المرحلة في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ؟
كيف سيبدأ أول فصوله ؟وبأية عناوين ؟
شعوب ثارت من أجل حرياتها ، آملة بعيش آمن ونسيمات من حرية يسمعون بها ولايعرفونها ، لكن النيرونيين المتدثرين بغطاء الدين تارة والشعارات القومية الثورية تارة أخرى ،كبسوا على الشعوب فاستغلوا دماءها لمصالحهم الخاصّة وأقاموا طغياناً فتاكّاً لايسمح فيه بنأمة من حرية وإلا فالبلطة والسكين لذبح المارقين المهدور دمهم.
.
في العراق تقابل النيرونيون واشتبكوا في صراع مرير ، طرف يفجّر ويقتل ويمارس الإرهاب بشتى أنواعه ، والطرف الآخر يحكم فيفسد في العباد ويهدر في الثورات ويخرّب البلاد ، وويل لمن ينتقد ، فهو بعثي أو شيوعي أو علماني أو ملحد أو- أو – المهم هناك تهمة جاهزة ، ولا مانع أن يشترك الإثنان في قتله (الإسلامي الحاكم والإسلامي الإرهابي) الأول يخرجه من الملّة والثاني يخرجه من الدنيا .
ذلك مايحدث في العراق وتحت هجير الشمس وعتم الظلام ، في الأروقة والأزقة على السواء ، النيرونيون يشتغلون وروما تحترق بعبوات الإرهابيين تارة ، وبفساد المتخمين تارة أخرى .
في سوريا يتطاحن النيرويون الطائفيون كلّ بدثاره ومقولاته ( طائفيون بعثيون – ضد طائفيين إسلاميين ) قوميون هنا وإسلاميون هناك ،لكن المدن السورية هي التي تحترق وتستعر النار فيها منذ شهور طويلة ولا من نهاية في أفق الموت .
في مصر ، يتهيأ نيرون ( الأخوان ) لكزّ أسنانه بعد أن أخلف وعوده ، وكانت البداية جمع صلاحيات في يده فاقت ماكان يتمتع به فرعون مصر السابق حسني مبارك ، ولكي تكتمل مستلزمات إحراق روما المصرية يحصل رئيسها النيروني على فتوى من نيرون آخر يهدر بموجبها دم كلّ من يخالف الرئيس أو يتظاهر ضده ،فيحار المصريون عمن يخشون ، ربّهم السماوي الذي يحذّرون كلّ لحظة من شدّة عقابه المؤجل ،أم (ربّهم ) الأرضي الذي باتت كلمته من كلمة الله ومرضاته واجبة كمرضاة الله .
في تونس ، تنحدر قطعان الملتحين المسلحين بالهراوات والمدى ، على الشوارع والأحياء لمعاقبة كلّ من لايطيع أمرهم ولايفعل بما يحددونه من حلال وحرام ، وفي ليبيا وبعد أن تنبّه الليبيون لخطورة أولئك على الحياة ومسار الثورة ، ومن ثم امتنعوا عن منحهم الثقة بعدم التصويت لهم ، أثار (النيرونيون ) وكما هو متوقع ، حملات من الإضطراب والفوضى والتقاتل ، عقاباً لليبين الذين لم ينخدعوا بدعاواهم المضِللة .
وفي تركيا ، ذات النموذج المتقدم ، هاهو أردوغان يريد بعث أمجاد السلطنة ليصبح سلطان البرّ والبحر باسم الإسلام ولنصرته ، ولا مانع عندها ان يمارس الاضطهاد والقمع على شعب يبحث عن الحرية ، في وقت يدّعي مساندة شعب مجاور لنيل حريته .
وفي مملكة (خدّام الحرمين ) يهتزّ الملك العجوز طرباً وهو يرى أنصار مذهبه الوهابي الدموي ، ينشرون التشدد والرعب في كلّ مكان تطاله أيديهم ، أما في داخل المملكة المسوّرة بالمطوعين والمكفّرين ،فلايسمح فيه لعصفورة أن تغرد على وكر عصفور علناً ، رغم أن الموبقات بكلّ إشكالها ، تمارس سراً حتى في دور العبادة ، لكن ذلك المليك وأركان مملكته يعلنون دعاواهم لمناصرة الديمقراطية في سوريا .
وهكذا يملأ النيرونيون الفضاء بأصواتهم وأبواقهم ، قاذفين الإنسان بكلّ مايجعل من حياته جحيماً ، ومن يومه تناقضاً وزيفاً ، فالويل لمن نام ورأى حلماً شفيفاً خالياً من الناعقين ، وويل لمن اشتهى شمّ وردة أو سرّ قلبه لجمال آسر ، وويل لمن يعرف مايجهلون وينطق عكس ماينطقون به من مسطّحات ومقولات فقدت رونقها وأصابها الهزال .
لاشك أن النيرونيين باتوا خطراً على الجنس البشري برمته ، ومخالب من جمر تلهب جسد الحضارة ، لكن الحضارة لن تتوقف ، وكما لفظت غيرهم من الطغاة ، ستلفظهم كذلك بعد أن تكتشف المجتمعات مقدار الزيف الذي يحملونه .
(1):يذهب بعض الباحثين إلى أن ثلاثة من الحكّام كانوا هم الأبرز في التاريخ البشري نظراً لأن الأمم التي حكموها بلغت في عهدهم قمة إزدهارها ومجدها ، وهم على التوالي زمنياً :يوليوس قيصر – كسرى نو شروان – هرون الرشيد .