23 ديسمبر، 2024 10:52 ص

مطار لجراد الأهوار

مطار لجراد الأهوار

ظلت الطائرات بعيدة عن المرأى القريب لعيون المعدان ، فليس لديهم واسطة يتصلون فيها بأرض الله سوى المشحوف ، وإذا ارادوا أن يحلموا بالطيران فأن البط والزرازير تنيب عنهم في التحليق .
ولكنهم يسمعون أن هناك حديدٌ يطير ويحمل المسافرين ، والبعض ملتصق بمؤخرته فوهات مدافع ترمي قذائف الدان ، وأول ما سمعوا   بأخبار طائرة الهليكوبتر كان من حكايات ابناءهم الذين ذهبوا لتأدية خدمة العلم ، وذات يوم رأيت عيون اهل القرية شاخصة بذهول الى الشاشة البيضاء يوم اتت الى قريتنا السينما الجوالة حيث عرضت فليما وثائقيا عن تصميم طائرات البوينغ العملاقة في المصانع الامريكية ، وقتها تخيلوا أن امريكا لا تصنع طائرات تطير بل قصورا تحلق في الفضاء لتصل القناعة عند احدهم في همسه لي اثناء تسمرهم على شاشة القماش البيضاء التي يُعرض عليها الفيلم قوله : لهذا يقولون هناك قصورا فخمة في الجنة التي في السماء.

يطلق ابناء قريتنا على طائرة الهليكوبتر اسم الجرادة ، وهذا الاسم يعود الى طرفة ربما هي ليست حقيقية تقول :ان طائرة هليكوبتر حطت لأول مرة قرب سلف في احدى مناطق الريف ، فتعجبوا وفزعوا وخافوا وهربوا داخل بيوتهم ، وحين أرادوا معرفة هذا الشيء المخيف ذهبوا الى عراف القرية وفريضتهم ليفسر لهم ما هذا الشيء.

تقدم الرجل من بدن الطائرة الجاثمة في اليابسة القليلة ، لمسها بخوف ثم قال لأهل قريته :لا تخافوا هذا فحل جراد……!

ذات يوم جاء الى قريتنا رجال من قسم زراعة الجبايش من أجل تحديد ارض صلبة في القرية تهبط عليه طائرة الهليكوبتر التي يُراد لها رش مساحات القصب بالمبيدات ، وكذلك رمي ملايين من اصابع اسماك الكارب لأجل تطوير انواع السمك في الاهوار.

ارتاب اهل القرية من هذا الزائر الحديدي ، واحتاروا اين يختاروا المطار الذي تهبط فيه ، وخافوا على صرائفهم حين اخبرهم احد المعلمين ان لهذه الطائرة مروحة لحظة تقترب بدورانها من الارض تحدث عجاجة اقوى مما كنا نسميها في الدارج الشعبي ( فسوة الواوي ) ، فخاف اهل القرية ان تطير زرائبهم والصرائف وسوابيط نومهم ، وبالرغم من هذا فأن أمر الحكومة لا مفر منه حتى مع انزعاجهم وقلقهم وعدم رضاهم على مجيء هذا الضيف الثقيل.

اقترحت انا أن يكون مطار الجرادة الحديدية امام المدرسة وبعيدا عن بيوت القرية ، فكان القلق ان التربية ستحملنا المسؤولية إذا طارت الصفوف والادارة بسبب ( فسوة الجرادة )…

ضحك شغاتي ، وقال :اينك ايها الثعلب لقد سرق منك الجراد ريحكَ.

ضحكنا ، تذكرت رواية لدي اج لورنس اسمها الثعلب ، لكن ثعلب لورنس الانكليزي لم يكن يشبه ثعلبنا فقد كان لنظرته حسا غراميا ،اما ثعالب أم شعثه فلا تعرف سوى تأجيج الغبار وسرقت الدجاج.

في صباح اليوم الثاني ، كان الجميع في انتظار الجرادة الهليكوبتر لتهبط في مطارها امام المدرسة . وقد انتظرها الجميع مصطفين ولم يذهبوا يومها مع جواميسهم الى مراعيها داخل الهور ، تركوها تذهب وحدها ، وحتى انظمُ استقبالا يليق بأول طائرة تهبط في مطار ام شعثة ( الدولي ) ، رتبت وقوف الرجال بصف والنساء في صف ابعد فيما جعلت التلاميذ في المقدمة كتشريفات للطيارين وموظفي الحكومة الذين سينزلون من الطائرة ، وكم كنت اتمنى ان يكون هناك جوقا موسيقيا لكني طلبت منهم ان يصفقوا بدلا من الجوق.

كان المفروض أن تصل الجرادة الحديدية في الساعة التاسعة عندما اخبرونا ان طريقها من الجبايش الى قريتنا لا يستغرق سوى عشر دقائق ، لكنها لم تصل حتى الساعة الواحدة ظهرا ، حيث اشتدت حرارة الشمس وتعب اهل القرية من الوقوف ، فأشرت اليهم بالعودة الى بيوتهم وانا استعيد في ذاكرتي اخر بيت من قصيدة كافافي ( في انتظار البرابرة ) ولكن بتصرف :

( والآن بدون هليكوبتر ..ما لذي سيحدث لنا

تلك الجرادة كانت حلا من الحلول )………..!