19 ديسمبر، 2024 12:05 ص

مضيق هرمز… هل يمكن غلقه ؟

مضيق هرمز… هل يمكن غلقه ؟

أسطول يطوف وآخر يتعقب، طائرات تحلق منخفضة وأخريات تستطلع وسط مناورات تتلو سابقاتها، صواريخ مختلفة المديات تُطلَق على أهداف غاطسة وعائمة، أسلحة جديدة ومتطورة ودقيقة أُستُبيحت أمام وسائل الإعلام عن قصد، وتصريحات ساخنة تتصاعد متعاكسة حيال طروحات نارية … هذا هو المنظر القائم بعينه في هذه الأيام وسط منطقة الخليج، ولكن قبل أن تفجر “طهران” موضوعة عزمها على غلق “مضيق هرمز” إذا ما تعرضت لعقوبات لاحقة تُضاف إلى تلك العديدة المفروضة عليها، وقد أُعتُبِرَ أخطر خطوة محتملة قد تقدم عليها الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها عام (1979)، وقد أقلقت المنطقة ومعظم العالم كون هذا المضيق يمرّر ما يربو على 40% من واردات النفط العالمية، وذلك ما صَعَّدَ إحتمالات توجيه ضربة عسكرية نحو “إيران” قريباً إذا ما نفذت تهديدها.
فما الحقائق المُتاحة والإحتمالات القائمة؟ وما يضمره قادم الأيام؟؟
خرجت “إيران” من حربها مع “العراق” عام(1988) هالكة مُتعَبة تستذكر أرواح ضحاياها وخسائرها الهائلة في جبهات القتال وفي أعماق بقاعها وتلملم جراحاتها إثر تلك المعارك الدموية التي سادت تلك الحرب الطويلة الضروس، ولكنها ظلت متماسكة في جبهتها الداخلية وإمتازت بمتانة إقتصادها المعتمد على تصدير البترول وعدم تراكم الديون والقروض عليها بسبب الحرب، وكانت محظوظة للغاية حين أتى ضرب “العراق” بتلك الضراوة ودُمِّرَت بناه الأساسية في “حرب الخليج الثانية” (1991) على طبق من فضة لصالحها وبالأخص لمّـا فُرِضَ الحصار البغيض على “العراق” المُتعَب فأُخرِجَ من حسابات “إيران” الإستراتيجية من حيث المبدأ وذلك قبل أن يُجْـهَز تماماً على ما تبقّى لديه في “حرب الخليج الثالثة” (2003) ليغدو صفراً على اليسار، وذلك ما أفاد “طهران” إذْ ودعت أخطار عدوها الأول المحتملة وحتى مستقبل غير منظور… ولكن موقفاً إستراتيجياً آخر فرض أوزاره على “إيران” مجدداً فقد فوجئت من ثلاثة أسابيع من بدء القتال بقوات أمريكية ثقيلة وسريعة ذات أعداد ضخمة وإمكانات هائلة وقد تجاورت معها في ربوع “بلاد الرافدين” طيلة ما يزيد على (8) سنوات، فأضحت تتحسّب حيال خصمها العالمي وتتهيأ لمجابهته في أية لحظة، وبتصاعد وقائع إيراداتها والإرتفاع المضطرد في أسعار النفط فقد توجهت نحو تطوير دفاعاتها الإستراتيجية وإستيراداتها التسليحية ومجالات صناعاتها العسكرية بالإعتماد على جبهة داخلية متماسكة كثيراً وإقتصاد أعظم متانة ودعم مشهود من “روسيا الإتحادية” و”كوريا الشمالية” بشكل خاص ولربما من علماء وخبراء يُقال أن “طهران” إحتضنتهم إثر هروبهم من الجمهوريات التابعة  للنظام السوفييتي السابق بعد إنهياره سنة(1992)، فلم تعد آبهة بالصرفيات غير المسبوقة في تأريخها المعاصر بغية تحسين قدرات قواتها المسلحة وأدائها جواً وبحراً وبراً وفي مجالات المقذوفات البالستية ذات الطرز والأغراض المتنوعة والمديات المختلفة، ناهيك عن تطوير قدراتها في الشؤون النووية الذي أثار العديد من الظنون وأوقع أزاءها المزيد من الإجراءات… في حين نظرت الولايات المتحدة الأمريكية وقد إصطف إلى جانبها كل الغرب الأوروبي ودول الخليج العربية نحو ذلك بمثابة خطر محدق أزاء مصالحها في هذه المنطقة، فيما إعتبرت “إسرائيل” إحتمالات تصاعد مستويات الصناعات النووية الإيرانية -سواءً كانت لأغراض سلمية ومدنية أو إبتغاء تصنيع سلاح نووي- أعظم الأخطار التي تواجه الدولة العبرية بسبب التشدد الملحوظ في ذات النظام الإيراني وبالأخص أن العديد من قادته لا يخفون عزم “طهران” المطلق على إيذاء “إسرائيل”، وفضلاً عن الإسناد الإيراني لسورية طيلة عقود قبلاً وفي أزمتها الراهنة وإضافة لدعمها “حزب الله” و”حركة حماس” معاً على طول الخط… فتوالت القرارت الأمريكية والأوروبية والمُنَظّماتية السائرة في ركابها مشتملة عقوبات إقتصادية وأخرى معنوية تصاعدت بحق “طهران”، وآخرها مشروع قرار أوروبي خطير يُزمَع إصداره نهاية شهر ك2 الجاري بمقاطعة مطلقة للبترول الإيراني، وهذا ما حدى بإيران لطرح تهديدها بإغلاق مضيق “هرمز” الإستراتيجي.
“إيران” من الناحية الإفتراضية المعتمدة على حقائق عسكرية صرف قادرة على تطبيق تهديدها، فأسطولها الحربي لا يضاهيها كل مجموع أساطيل القوات البحرية لدول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة، فيما تطل بسواحلها على شرقي الخليج بدءاً من أقصى شماليه ولغاية المضيق المذكور لتتواصل بعدئذ مع كامل “خليج عُمان” فـ”بحر العرب” و”المحيط الهندي” حتى تلتقي مع المياه والأرض الباكستانية، وهي إطلالة هائلة تنمّ عن أكثر من فائدة إستراتيجية محققة، إذْ أن إغلاق المضيق يلحق أذىً بترولياً وتجارياً بالغاً ويؤدي إلى خنق أو إيذاء أكثر من دولة خليجية مصدّرة لا تمتلك لتسيير حياتها اليومية سوى هذا الشريان الحيوي، في وقت تبقى “إيران” حرة –نسبياً- في الإفادة من سواحلها الأخرى المُطلّة على “خليج عمان وبحر العرب” لتصدير بترولها وتحقيق تجارتها السائرة مع العالم، ولكن شريطة الإبقاء على موانئها فيهما سالمة.
ولكن هل يمكن أن تَركَـن الولايات المتحدة الأمريكية وعموم الغرب ودول التعاون الخليجي نحو السكون والهدوء والربت على الأكتاف إن أقدمت “طهران” لتحقيق تهديدها؟؟؟ والحقيقة التي لا تقبل الشك أن “واشنطن” ومن دون أدنى إعتماد على حلفاء وأصدقاء وإستجداء نجدة وتسهيلات، فإن ما لدى أسطولها الخامس لوحده والقواعد الجوية الأمريكية القريبة الجاهزة والمهيأة لدعمه من القوة التدميرية التقليدية والنووية وإمكانات التلويح المتاحة لإستثمارها أو التهديد بزجّها وسط عمليات عسكرية سريعة ومتلاحقة وضخمة ما يمكن أن تُجبر “طهران” على التراجع سواء قبل تنفيذ تهديدها أو بعد أن تجازف بذلك على إفتراض أسوأ الإحتمالات… فواقع الحال من الناحية الإستراتيجية أن القوات البحرية الإيرانية مع إحتساب قدراتها المتعاظمة وكثرة أعداد قطعها العائمة والغاطسة قد تكون معرضة على السواء لتُمحى من الوجود خلال ساعات فقط على يد صواريخ “كروز” التي تُطلَق من جميع البوارج والمدمرات وحاملات الطائرات الأمريكية، ناهيك عن تلك التي تُقذف من منصات أرضية تنتشر منتصبة وسط العديد من القواعد الأمريكية الأرضية المنتشرة في بقاع الخليج وسواها بمديات تربو على (2500) كيلومتر، وذلك فضلاً عن أبسط الطائرات الهجومية المعروفة -المُقادة بطيار أو من دونه- تقلع بالعشرات من على أسطح حاملات الطائرات أو من مدارج أرضية، وهي ذات طرز متنوعة تُحَمّل بمقذوفات غاية في الدقة تبلغ مدياتها بين (60-150) كيلومتر، وكل ذلك قبل أن نخوض في إمكانات القاصفات الأمريكية العملاقة (B-52, B-1, B-2) والتي تُقحَم في متونها العشرات من مقذوفات “كروز” بمديات تصل إلى (800) كيلومتر وبواقع (24-32) كروز في بطن كل واحدة منها، إذ ليست الدفاعات الجوية الإيرانية والطيران الإيراني بالقدرة المفترضة لمعالجة تلك المقذوفات الجوالة إذا أُطلِـقَ بضع عشرات أو ربما بعض مئات منها في وقت واحد، وخصوصاً أن تشويشاً ألكترونياً أمريكياً عاماً من المؤكد أن يسبق عملية إطلاق تلك المقذوفات أو يصاحب فترات تحليقها متسبباً في عمىً كامل لجميع الرادرارات وأجهزة الإتصال اللاسكي والسلكي والفضائي وشلّ قدراتها وإفقاد إمكانات مواقع القيادة في توجيه دفاعاتها الأرضية والبحرية وطائراتها القتالية لإعتراض تلك الصواريخ المحلّقة على إرتفاع لا يزيد عن (60) متر من أية أرض او مسطّح مائي، حينئذ تقع الكارثة مثلما حصل في “العراق” عام (1991) على الرغم من أن الدفاعات العراقية حيال الجو كانت توصف كونها ((لا تُختَرَق)) بالمرة… ولكن قد يتساءل أحدهم بأن إيرانيي (2012) ليسوا كعراقيي (1991 و 2003)، فأجيبه بأن أمريكيي (2012) كذلك ليسوا كأمريكيي (1991 و 2003)، لأن التجارب الميدانية لتلكما الحربين دفعت المصانع الأمريكية العملاقة نحو تطوير أسلحتها وتحسين أدائها بشكل ربما لا يتشابه حتى مع مستوى إستثمار إمكاناتها في تلكما الحربين اللتين عاصرناهما وتعايشنا معهما.
نعم… “إيران” سترد، بما لا يقبل الشك، إعتماداً على أحد مبادئ الحرب المعروف بـ”حشد القوة”، فلديها –حسب المُعلَن- العديد من الصواريخ ذات المديات البعيدة والمتوسطة وعدد مُذهل من قصيرة المدى… ولكن الطرازَين الأوّلين لا يشكلان خطراً بالغاً كونهما مُعَرّضَين للإسقاط في أعالي الأجواء قبل إلحاق أذىً يُذكَر بأهدافهما وقواعد “باتريوت” كفيلة بعالجتها، بينما تشكل الصواريخ ذوات المديات القصيرة خطراً داهماً لسببين، يكمن أولهما في واقع الكمّ الهائل المُطلَق من حيث العدد بحيث تُحيّـر الدفاعات المُضادة وقد تشتت تفكير القائمين على إدارتها، وثانيهما في تحليق هذه الصواريخ على إرتفاعات منخفضة بحيث يصعب كشفها وربما يستحيل مسكها رادرارياً تمهيداً للتصدي حيالها… ولكن مدياتها المحدودة بواقع بضع عشرات من الكيلومترات تجعل الأهداف الكامنة في الشطر الغربي من الخليج بمنأى عن أخطارها، فتنحصر أهدافها في سفن الأساطيل البحرية المعادية إن تواجدت قريبة نسبياً من السفن والقواعد الأرضية الإيرانية في سواحل الخليج الشرقية، وهذا إحتمال بعيد عن الواقع لعدم حاجة السفن الأمريكية والبريطانية على وجه الخصوص من التقرب نحو السواحل… أما دور الطائرات المقاتلة-الإعتراضية الإيرانية فسوف لا يعدو محدوداً فحسب بل معدوماً بالمرة، فالتي تمتلكه “طهران” وأعظمها تقدماً “ميك-29” ليست أفضل مما كانت تحتويه القوة الجوية العراقية عام (1991) بطيارين شُهِدَ بكفاءتهم وخبراتهم القتالية الميدانية في حينه.
إذاً فإن “إيران” تلعب بالنار إذا خاطرت بغلق “مضيق هرمز” معتبرة إياه في متناولها، وهي تجازف بمستقبل شعبها حتى لو لم يكن هناك خطر غزو لأرضها، وأكبر الظن أنها سوف لا تقدم على هذه الخطوة الخطيرة لتقديرها بأن هذا المضيق الإستراتيجي ولو كان حوالي نصف مياهه واقعاً ضمن مياهها الإقليمية حسب المواثيق الدولية، فإنه من الخطورة بمكان بحيث أن غلقه أو حتى محاولة غلقه يستجلب على قواتها البحرية ودفاعاتها الأرضية وقواتها الجوية والصاروخية وبناها التحتية التي تعبت عليها وطورتها طيلة عقود وكذلك نحو موانئها التجارية ومنصاتها التصديرية أذىً هائلاً ودماراً كبيراً لا يمكن معالجتهما والتخلص عن أوزارهما طيلة عقود قادمة من أموال شعبها التي يفترض أن تُقحَم لتطوير بلده الجميل من دون مجازفات وتهورات وتحديات طالما يُعَيَّر بها الرئيس الراحل “صدام حسين” حين غزا “الكويت” وتحدى “واشنطن” والمجتمع الدولي وتجابه معها، فدمّـر ذاته ونظامه وكل العراق والعراقيين.
==================
(*) عميد ركن متقاعـد- دكتـوراه في التأريخ العربيّ الإسلامي، مـؤرخ، خبير إستراتيجي بمركز الدراسات الدولية/جامعة بغـداد سابقـاً، ممثل الجبهة التركمانية العراقية في “سورية ولبنان”.
[email protected]