في زمنٍ أخذت فيه الكلماتُ تتنازع بين الضجيج والخفوت، وقف الشاعر والباحث مضر محسن محمد النجار الموسوي كشجرةٍ باسقة في أرض الحلة. محلة المهدية تحديدًا، حيث وُلد عام 1942، ليفتح عينيه على مدينة تئن بالحكايا وتهمس بالشعر وتغلي بالتاريخ. ومنذ خطواته الأولى في أروقة التعليم حتى ارتقائه في مدارج الفكر، ظلّ مضر النجار وفيًّا للحرف، صادقًا في انتمائه للمعرفة، مخلصًا لمشاعره وانفعالاته الشعرية التي ما انقطعت، وإن تبدلت الأمكنة وتباعدت المنافي.
من التعليم إلى التأمل
بدأ النجار معلّمًا في الحلة عام 1960، ثم ما لبث أن ارتقى سلّم الدراسة العليا، فالتحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب – الجامعة المستنصرية عام 1963، وتخرج عام 1967. حملته الكلمة إلى التعليم الثانوي في بغداد، حيث بقي حتى تقاعده عام 1989، لكنه لم ينكفئ على راحة، بل فتح نوافذه للعالم، إذ درّس في اليمن عام 1991، وكتب هناك قصائد ومقالات نشرت في صحف صنعاء، قبل أن ينتقل إلى ليبيا عام 1995، فكان صوته الشعري هناك أعلى، ومشاركته الثقافية أعمق، حتى نال المرتبة الثانية في مسابقة الشعر العامة على مستوى الجماهيرية، وشارك في الإشراف على النصوص الشعرية للطلبة، مثبتًا حضوره لا كأستاذ فقط، بل كمبدع وشاعر وأديب.
في مسارات النقد والبحث
لم يكن مضر النجار شاعرًا فحسب، بل باحثًا دؤوبًا، خاض في حقول النحو والنقد والأدب والمسرح والفكر، متسلّحًا بوعي لغوي وذائقة أدبية، فصدرت له عن دار الفرات في بابل عدة مؤلفات، منها:
الإعراب في اللغة، المصادر والمشتقات، الموجز في النقد الأدبي، الموجز في تاريخ الأدب الأمريكي، الدين والفلسفة والشعر، أدب المسرح الإغريقي، شرح معاني إعراب القرآن – الجزء الأول، قصائد الوفاء لأصحاب الكساء، من وحي الأيام (مجموعة شعرية)، مقالات أدبية وثقافية.
وقد حظي كتاباه أدب المسرح الإغريقي ومقالات أدبية وثقافية بتقدير المجمع العلمي العراقي، وهو ما يعكس عمق الطرح ورصانة البحث.
صوت يُقرأ بعين القلب
كتب عنه النقاد باهتمام ملحوظ، فالدكتور حاتم عباس بصيلة رأى فيه “صوتًا يجمع بين بهاء التعبير وغور الفكرة”، أما الدكتور عقيل مهدي يوسف فاعتبره “نموذجًا للمثقف الذي لم تشغله اليوميات عن صناعة المعنى”، فيما كتب عنه الأديب إبراهيم عثمان قائلاً: “مضر النجار يكتب كما لو أنه يحفر في الذاكرة الإنسانية عن جذور مشتركة بين الشعر والفكر“.
ولعل هذا ما يميزه؛ أنه لم يكن أسير جنسٍ أدبيٍ واحد، بل أجاد المزج بين التأمل الفلسفي والبوح الشعري، بين المقالة الجادة والقصيدة الرقيقة، وكأنّه عاش عمره ممسكًا بكفّين: إحداهما تكتب بالحبر، والأخرى تفتش في الروح.
في الذاكرة الثقافية
يبقى مضر النجار أحد وجوه الحلة الثقافية، حيث ساهم في تنشيط منتدياتها وفعالياتها، وكان له أثرٌ واضحٌ في المحافل الثقافية، داخل العراق وخارجه. كما أن حضوره في الصحف والمجلات، منذ التسعينيات حتى اليوم، وخصوصًا ما نشره في اليمن وليبيا ومواقع التواصل الاجتماعي، يؤكد استمرارية عطائه، وتحوّله إلى ذاكرة ناطقة من ذاكرات الثقافة العراقية.
خاتمة
مضر النجار الموسوي ليس شاعرًا فقط، بل رائيٌ بحسّ نحوي، وباحث بحسّ شاعري، اختط لنفسه دربًا بعيدًا عن الأضواء البراقة، لكنه ترك أثرًا لا يُمحى في صفحات الفكر والأدب. وحين يُكتب تاريخ الشعراء الذين جاوروا النسيان دون أن يستسلموا له، سيكون اسم مضر النجار حاضرًا، بصفته واحدًا من أولئك الذين آمنوا بالكلمة، ونذروا لها عمرًا من التأمل والمقاومة والعشق.