ربما لا تمر سنة تحضيرية أو كتابية لأطروحة ماجستير أو دكتوراه في اللغة أو السير أو التراجم أو الحوادث أو الأخبار أو البلدانيات أو الآثار أو الخطط أو الزوايا أو الربط أو المدارس أو الفرق الإسلامية أو غير ذلك ؛ إلا ويجد الباحث حولها رأيا أو بحثا أو مقالة أو كتابا للعلامة مصطفى جواد ، لقد كان بحق كما قال الدكتور عبد الرزاق محيي الدين في نعيه ( رجلاً بمجمع ، ومجمعا في رجل ) …. مصطفى جواد ، بصوته الجهوري الحاد النبرة ، و بلازمته النصية ( أي نعم ) و ( أعزكم الله ) أو ( أدامكم الله ) عرفه عامة الناس من خلال برنامجه الذائع الصيت ( قل … ولا تقل ) الذي أصبح كتابا بعد ذلك ، لكن الخاصة عرفوه بحرا فياضا في العلم والمعرفة ، يغرفون من مائه الذي لا ينضب أبداً .. من خلال تحقيقاته وترجماته وبحوثه ومقالاته في داخل العراق وخارجه ، تبوأ العلامة رحمه الله هذه المكانة ، ليس في بلده العراق فحسب ، وإنما في العالم العربي والإسلامي ؛ لجهوده العلمية الرصينة في شتى المجالات البحثية والتربوية والأدبية والإعلامية ، فضلا عن الإنسانية … أقول الإنسانية ؛ لأنه أحد أعضاء اللجنة التأسيسية لجمعية مكافحة التشرد ، كما كان مغرما بمشاهدة الأفلام السينمائية لما لها من جوانب وجدانية في النفس . عرف عنه رحمه الله التواضع والخلق العالي وبشخصيته الجذابة القوية وحيائه الجم ، فقد كان يعرض آرائه أحيانا وهو مغمض العينين ، يحرك مسبحته بهدوء ، كأنه يقلب في كل خرزة من خرزاتها كتابا أو يستذكر حكاية ، كان رحمه الله يقبل على من يعرف ، وعلى من لا يعرف بوجه بشوش ، ونفس مفتوحة ، حتى أن الذي يلتقيه يحبه ويمنحه الاحترام ، فقد كان مجاملا للناس محبا لهم . لست بصدد كتابة سيرة ذاتية له ، فقد كفانا مؤونة ذلك سوانا ممن أفاض فيها ، لكنني أود أن يطلع القارئ على زاوية صغيرة من آرائه الفذة إذ إنه لمس بشكل واضح ، أن الجمود قد أصاب اللغة العربية في نحوها ، فهو مبعث الشكوى عند معظم الطلبة ؛ ذلك لأن النحو كما يقول : ( متعدد المذاهب ، مختلف الوجوه كثير الاصطلاحات ، متنوع الأبواب ، ومع تقادم الزمن على إقرائه وبعد العهد بوضع قوانينه ، ندر تناوله
بالإصلاح والتهذيب ، وقل عرضه على الفهوم الثاقبة ، والعقول الناقدة ، واشتمل عليه حب القديم ، وتقديس العتيق ، فرهنت مشكلته ، ودام جموده ، وخمدت حياته ، وركدت روحه ، ولولا وجود الخلاف فيه بين البصريين والكوفيين ، ونبوغ فلان وفلان ، وأخذهما بهذا ، وذاك من مذاهب النحو وتأليف عدة كتب في هذا الباب ؛ لأصبح النحو معضل الداء لا يرجى صلاحه ولا يسع المفكر أن يبدي فيه ، ولا أن يعيد ) فقد عاب العلامة على النحويين جمودهم وعدم إيجاد السبل ؛ لتسهيل نحو العربية ، كما أنه يرى أن العصر الذي نحن فيه يقتضي الاستفادة من نحو مدرسة الكوفة أكثر من مدرسة البصرة ؛ لأن المدرسة الكوفية فيها آراء كثيرة ترجح على مدرسة البصرة ، وينبغي للغة العصر الانتفاع بها ، وقد حدد لنا جواد أبرز الحلول ؛ لتسهيل قواعد اللغة العربية وإصلاحها بالآتي :
1. تقليل القواعد النحوية ، إذ يجب اختصارها أو إدماج موادها الواحدة في الأخرى ، كما أن كثيرا منها يجب إصلاحه والاستبدال به لأنها غير كاملة وتحتاج إلى استقراءات جديدة واستنباطات عديدة ، واستنتاجات مفيدة لناتجها من علماء العربية .
2. انتقاء الشواهد من القرآن الكريم أولا ، ثم من الحديث المروي لفظا ثانيا ، ثم من نثر العرب الوارد في الأمثال والأيام والمقامات ، ثم من الشعر الجاهلي الصحيح صحة نسبية ، الخالي من الضرائر كائنا ما كان نوعها ومقياس الضرائر الأظهر ، هو مباينتها للنثر العربي ، على اختلاف ألوانه ثم انتقاء الشواهد من شعر ما بعد الجاهلية.
لقد استشعر العلامة منذ وقت مبكر مشكلة اللغة العربية في المدارس العراقية ، وقدم مقترحات رآها ضرورية للنهوض بها ، وتيسيرها فهو على الرغم من تفضيله لآراء الكوفيين ، ونقده لمنهج البصريين ، وتعسفهم وميلهم إلى الإشكال ، وكثرة التأويلات والتعليلات ، فهو لا يذهب بشكل مطلق متطرف إلى مدرسة الكوفة ، بل لديه أيضا مؤاخذات عليهم ، كما أخذ ببعض آراء البصريين كذلك على الرغم من نقده لهم ، فالعلامة ليس مقلدا سواه تقليدا أعمى ، بل كان يأخذ من كل شيء أحسنه عصريا و ملاءمة لمقتضيات اللغة الحديثة ، فهو يقول ( لست ملزما إتباع
قول لعالم إذا كان واهيا واهنا ، وكان دليله خاويا ) . وتأسيسا لهذا لم يلزم مصطفى جواد نفسه برأي مذهب معين ؛ ذلك لما توافرت عنده من ملكات استنباطية معللة علميا ، وإن مسلكا كهذا جعل منه مرجعا يستفتى عنده ؛ فيفتي … كما أنه رأى أن مدرسة البصرة قد ساهمت في جمود النحو كونه أصبح غاية لا وسيلة عند كثير من العلماء ؛ فهو يؤمن بالاجتهاد المشروط بالدليل ، وعن طريقه ـ الاجتهاد ـ يمكننا مجاراة اللغة العصرية ، والكتابة بها والنطق بها بشكل سليم ، فضلا عن أنه لا يرى ضرورةً اليوم بالتقيد بزمن الاحتجاج الشعري الذي وضعه العلماء القدامى ، وله رأي وجيه في ذلك ، هو أن القواعد النحوية لم تنشأ دفعة واحدة ، ونظر لها العلماء في زمن واحد ، بل نشأت هذه القواعد بالتدرج الزمني على يد نحاة عاشوا في أزمان مختلفة ، وأن هذا التدرج الزمني عليه أن يستمر ؛ لكي يتمكن الشعراء والعلماء من الاتساع .
آمن العلامة بأن المعنى له الباع الأطول في التركيب اللغوي ، كما أن المعاني هي التي تتحكم في التراكيب وتطوعها لها ، وليس العكس وعنده ـ أي جواد ـ أن اللغة العربية تعيش كذلك مشكلة المصطلح والتعبير والرسم ( الإملاء ) وأن هذه ( المشكلات لولا قرآن الله العزيز والأدب اللفظي الضخم ؛ لطوحت بالعربية الطوائح ، وقامت عليها النوائح ، وصارت كاللغات التاريخية لا تدرس إلا عند الضرورة ولا تظهر إلا في مواضع خاصة ولا ينطق بها إلا بعد مرانة وتكلف ومعاناة ) وقد علل العلامة سبب نشوء هذه المشكلات ( النهضة الحديثة في العالم العربي في السياسة وفي العلم وفي الأدب ) فكان على العلماء أن يسايروا ذلك لغويا ، ويلحقوا بالركب ؛ لأن اللغة كائن حي يتطور بتطور الحياة ؛ لتفي بمتطلبات الإنسان حضاريا وعلميا . كان العلامة يميل في استشهاده إلى الشواهد النثرية أكثر من الشواهد الشعرية ؛ لأن الشعر كما يرى ( لا يصح أن يتخذ دليلا على صحة التعبير مادام مخالفا للنثر ) إذ يقول : ( أن وزن الشعر واقتضاب المعنى وتغيير اللفظ ، وبعثرته تضطر الشاعر إلى الخضوع لها ، فأضعف دليل عندي وارد في الشعر مخالفا للنثر المؤيد ) ولجواد إسهامات بحثية حول المرأة أيضاً ؛ فهو يعتقد أن التأريخ … تأريخ رجال لا تطفو على سطحه المرأة بصورتها العميقة ؛ فألف كتابيه ( سيدات بلاط العصر الأموي )
( مخطوط ) و ( سيدات بلاط العصر العباسي ) ( مطبوع ) وألقى في المجمع العلمي العراقي محاضرة قيمة حول المرأة في العراق القديم في خمسينيات القرن الماضي ، وحقق ونشر كتاب ( نساء الخلفاء ) لابن الساعي البغدادي ، وأضاف إليه بعض الذيول والهوامش ، ومن طريف أبحاثه حول المرأة أيضا ، أنه نشر بحثا عن أشهر عالمة عراقية قديمة بعنوان ( فخر النساء شهدة ) . لا يمكن بأي حال من الأحوال الإحاطة في هذا المقال بكل ما كتب مصطفى جواد فكيف يحيط الواحد منا بعالم موسوعي ؟ ترك لنا أكثر من ( 36 ) كتابا مؤلفا أو محققا أو مترجما عن الفرنسية و ( 661 ) بحثا رصينا ومئات المقالات ، وعشرات الندوات ، والمناقشات الأكاديمية ، وحلقات البرامج الإذاعية ، والمتلفزة والمؤتمرات ، وقصائد من الشعر الوجداني ، والمدرسي .. إن الذي يطلع على مكتبة العلامة مصطفى جواد الخاصة ، والمهداة إلى مكتبة المتحف العراقي ؛ لا يجد كتابا لم يعلق عليه العلامة ، أو يصحح له ، أو يستدرك عليه ؛ ذلك لأن من ميزته الانكباب على القراءة والتنقيب والبحث ؛ فكان يشكو أحيانا من ضيق الوقت الذي يعده ( مفتاح العمل ) كما كان العلامة يشكو من الصيف الذي يقول فيه : ( ناجر يقد الأجسام ، ويذيب الأدمغة ، ويعطل الإحساس ، ويصيبه بالإفلاس ، فلا تعبير ولا تفكير يرضي العقل والضمير ولا قوة ولا منة تستحق الإدلال والمنة ) ومن جملة آرائه السديدة الاعتماد على الحديث النبوي الشريف في شواهده النحوية والاستنباط منه القواعد ، على خلاف بقية العلماء الذين قل استعمالهم للحديث الشريف ؛ لأسباب لا يسعها المقال هنا ، فقد استنبط العلامة صحة جواز تأنيث ( عضوة ) للمرأة التي تتولى منصباً ما في الدولة ، أو في جمعية معينة ؛ إذ يقول في تأنيث ( عضو ) وجعله ( عضوة ) ( نعم يجوز ـ يقصد التأنيث ـ لأنه دخل في عداد الإخبار ، وهي ضرب من ضروب الأوصاف ومن خواص الأوصاف في أطوار اللغة الأخيرة المطابقة في التذكير والتأنيث ، فلا يمنع من ذلك كون الاسم جامدا . ونستدل على ذلك بقول النبي ( ص ) لأبي كعب ـ وقد أعطاه الطفيل بن عمرو الدوسي قوسا ؛ جزاء له على إقرائه القرآن ( تقلدها شلوة من جهنم ) والمعروف المشهور عند العرب ( الشلو ) بمعنى ( العضو ) وهو مذكر لفظا ومعنى ) وقد عضد العلامة رأيه بقول الشريف الرضي ( وإنما قال ( ص )
شلوة ولم يقل شلوا ؛ لأنه حمل على معنى القوس وهي مؤنثة والشلو : العضو ) قال الدكتور مصطفى جواد ( ونحن نحمل هذا الاسم ( العضو ) على معنى المرأة المشاركة فتكون ( عضوة ) كما صار ( الشلو ) ( شلوة ) وهذا من باب حمل النظير على النظير ؛ لاتحاد السبب بينهما بعد التساوي ) كما أشار إلى عدم صواب قول العامة ( سوف لن أفعل كذا ) إذ صوابه ( لن أفعل ) دون إلحاق ( سوف ) به ، وعلة ذلك أن ( سوف ) حرف استقبال يثبت الزمن المستقبل ولا ينفيه إذ نقول ( سوف أفعل كذا ) وعند نفي الجملة نستعمل لن فنقول ( لن أفعل كذا ) لأن ( لن ) حرف ينفي المستقبل ولا يثبته فلا يجتمع النقيضان في جملة واحدة ، وقد علق جواد على تذكير المؤنث وتأنيث المذكر في بعض آيات القرآن الكريم ، كقوله تعالى : ( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) إذ لم يرد في النص الكريم ( كانت عاقبة المتقين ) يقول العلامة ( إن العاقبة مؤنث وعلامة تأنيثه معه فلا يحتاج معها إلى تنبيه السامع إلى أنه مؤنث ) كما علق على قوله تعالى : ( والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ) بقوله ( إن الساق مؤنث خال من علامة التأنيث ، فالسامع بحاجة إلى معرفة تأنيثه ) أي أن الفعل ( إلتفت ) ورد للدلالة على أن الساق مؤنثة ، كما ورد في النص الكريم وسواها كثير ، وقد اخترت هذه الأمثلة بما ناسب المقام والمقال ، وإلا فللعلامة بحوث وآراء مستصعبة ، لذوي غير الاختصاص فآثرت الاكتفاء بما سقت للقارئ الكريم … وأختم بمسك شعره الذي تفوه به عند اشتداد مرضه ، الذي طال فأودى به إلى أخدار السماوات ، إذ قال ينعى نفسه : ( رشحتني الأقدار للموت ولكن / أخرتني لكي يطول عذابي ) ( ومحت لي الآلام كل ذنوبي / ثم أضحت مدينة لحسابي ) رحم الله العلامة فقد كان بحرا وما يزال وسيبقى.