مع أن مصر تملك على الأرض من الأوراق ما يجعلها تزعج السودان ونظامه، غير أنها لم تبد استعدادا لاستخدامها حتى الآن.
يلاحظ المتابع لوسائل الإعلام في السودان هجوما شديدا على مصر، تجاوز الكثير من التقاليد المهنية ووصل حدا مرتفعا من التصعيد. وكأن هناك من يضغط لتتخلى مصر عن سياسة ضبط النفس التي تتحلى بها منذ فترة، وحتى وسائل الإعلام المصرية تجاوزت ما يمكن وصفه بـ”الفخ” ولم تتوقف كعادتها عند ما يردده البعض في السودان من انتقادات واتهامات مختلفة.
الوقوف عند الصخب الحاصل في جنوب الوادي يسعى إلى تفسير ظاهرة التشدد المفاجئ الذي يلتحف به بعض الكتاب في السودان، فأحدهم كتب مؤخرا “من هي مصر حتى يصفها وزير بالمستفزة وآخر بالشقيقة”، وذكر فيه مغالطات علمية وتاريخية لا حصر لها.
الواضح أن الكاتب أراد أن يثبت تفوق وكفاءة بلاده في جميع المجالات. وكان بإمكانه التعبير عن ذلك بأريحية ودون تزييف للحقيقة، فقد ترك العنان لخياله للدرجة التي قال فيها إن العرب احتلوا مصر لمدة 600 عام. ولم يكتف، بل زاد وتحدث صراحة عن دولة عربية بعينها حديثة النشأة بدأت مسيرة الاحتلال بقيادة عمرو بن العاص، في محاولة للنفاق توحي بالتفوق التاريخي على مصر.
هذه الكتابات التي تعكر الأجواء، ربما لا تستحق تفنيدها والرد عليها أو مناقشتها من قبل البعض، لكنها كاشفة لطبيعة ما يتم تداوله في السودان بشأن مصر، وهو ما يجعل مهمة السياسة في إزالة الالتباس وسوء الفهم غاية في الصعوبة، لأن الحملات التي تدغدغ المشاعر وتلعب على وتر العواطف لها ما يعززها في الشارع، فهناك إحساس لم يعد خافيا يشي بأن مصر تفرض “وصايتها” على السودان.
المشكلة أن بعض المسؤولين في السودان استجابوا لهذه النغمة وبدأوا العزف على وترها لتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية. وحاولوا تفجير مشكلات كامنة بلا هدف سوى القول إن “السودان اليوم لم يعد كالسودان بالأمس”، وهي رسالة تريد وضع قواعد للعلاقة من منطلق أن السودان سيكون قوة إقليمية كبيرة ومؤثرة.
السؤال الذي يحتاج إلى إجابة واضحة يتعلق بما يمكن وصفه بسياسة “فرض العضلات” الشائعة في السودان حاليا، على مستوى المسؤولين والنخب، ولماذا ارتفعت هذه النغمة مع أن العلاقات بين البلدين لم يطرأ عليها جديد؟
ويفرض عمق السؤال ومنطقيته البحث في المتغيرات والتحولات والتطورات الإقليمية والدولية، لأنه بالفعل ليس هناك جديد في مسار العلاقات المشتركة، فانتماء النظام السوداني إلى الحركة الإسلامية معروف، وعلاقته القديمة بجماعة الإخوان لم تعد خافية على كثيرين، ومناوشاته بشأن أزمة مثلث حلايب وشلاتين مكررة، لكن في الآونة الأخيرة انحرفت المماحكات عن كل ذلك وتجاوزته.
ومع أن مصر تملك على الأرض من الأوراق ما يجعلها تزعج السودان ونظامه، غير أنها لم تبد استعدادا لاستخدامها حتى الآن. وتصر على التمسك بعلاقة حسن الجوار وتغليب المصالح الإستراتيجية على الحيل التكتيكية، وتدرك أن الانجرار وراء المناوشات سيكون مكلفا.
هناك خمسة محددات أساسية لها علاقة بتصاعد نفوذ الخرطوم على المستوى الإقليمي يمكن أن تفسر بعض الألغاز التي جعلت تصعيد الصحافة السودانية نحو مصر يبدو ممنهجا، وتعطي انطباعا بالتماسك والإصرار وعدم التراجع.
* الأول: اقتراب موعد رفع العقوبات الأميركية على السودان، وهي عقوبات اقتصادية متدرجة، بعضها فرض منذ حوالي عشرين عاما. وكانت لها تأثيرات سلبية في مجالات متنوعة، ورفعها المنتظر في يونيو المقبل يفتح الباب للكثير من أوجه الحيوية والنشاط الاقتصادي، ويجذب استثمارات عديدة من الولايات المتحدة وغيرها، ناهيك عن المعاني السياسية التي تحملها عملية رفع العقوبات، من زاوية الانفتاح على الغرب عموما.
* الثاني: ضم السودان للدول المكافحة للإرهاب، وتجاوز الحقبة السابقة التي كان فيها هذا البلد متهما بتصدير ودعم المتطرفين. وبدأت تجليات المسألة تتضح على المستوى الأفريقي، حيث عقد اجتماع في الخرطوم قبل أيام لرؤساء أجهزة مخابرات ناقش سياسات وآليات تضييق الخناق على تنقلات الإرهابيين عبر الدول الأفريقية. كما شارك السودان لأول مرة في اجتماعات قمة رؤساء أركان المجموعة الأميركية الأوروبية الأفريقية (أفريكوم) في شتوتغارت بألمانيا، الأمر الذي يضاعف الاعتماد عليه كذراع أمنية جديدة في الحرب الكونية على الإرهاب.
* الثالث: تزايد دعم بعض الدول العربية للسودان، الذي نجح في أن يقدم نفسه كحليف يمكن الاعتماد عليه عسكريا، خاصة بعد أن أرسل المئات من جنوده للمشاركة على الأرض في حرب اليمن ودعم التحالف العربي لعودة الشرعية هناك، وهي خطوة منحت الخرطوم مزايا نوعية لدى بعض دول الخليج العربي.
وعزز السودان هذه الخطوة بقطع علاقاته مع إيران وقبلها إغلاق مراكزها الثقافية في أراضيه، وهو ما يفتح الباب للمزيد من التعاون مع الدول الخليجية، وجذب استثمارات جديدة لزراعة مساحات واسعة من الأراضي، فضلا عن وجود أفق لتطوير العلاقات العسكرية والاقتصادية مع كل من تركيا والصين وروسيا.
* الرابع: تقوية أواصر التحالف مع إثيوبيا، والتأكيد أن سد النهضة ينطوي على مصلحة سودانية، وتجاهل الخلافات السابقة مع أديس أبابا من دعم ظاهر للمعارضة المسلحة وتجاهل احتلال منطقة “الفشقة” السودانية. وربما يؤدي هذا التحالف إلى انضمام الخرطوم لاتفاقية عنتيبي ومنحها أغلبية لسريانها فعليا، وتسعى إلى عدم الاعتداد باتفاقيات تاريخية سابقة حافظت على حقوق مصر المائية عند نسبة 55,5 مليار متر مكعب، والسودان عند نسبة 18,5 مليار متر مكعب، ويأمل السودان في تعويض خسارته المائية من خلال اعتقاده أن بناء سد النهضة يساعد على زيادة الرقعة الزراعية في أراضيه.
* الخامس: الشروع في بناء عدد من السدود السودانية على نهر النيل، بتشجيع ودعم وتمويل من بعض الدول العربية، وهو ما يسبب أضرارا مائية لمصر ربما تفوق في خطورتها التداعيات السلبية لسد النهضة، ما يمنح قطاعا كبيرا من السودانيين دفعة معنوية تزيدهم قوة لرفض ما يزعمون أنه “هيمنة” مصرية تاريخية، وتعظيم هذه المسألة يعرقل الكثير من التفاهمات السياسية.
هذه المشاهد مقتطفات مركزة لفهم سر التطاول الطارئ لدى بعض السودانيين، المعروف عنهم التواضع والأدب والكرم، فقد تربى الكثير من المصريين على أن لهم إخوة في السودان يفرحون معهم في المسرات ويحزنون عليهم في الملمات.
في المقابل، لا تزال مصر منكفئة على لملمة جراحها الداخلية، والتخفيف من حدة الأزمات الاقتصادية والمجتمعية، الأمر الذي أرخى بظلال قاتمة على جوانب من علاقاتها الإقليمية، ولم تجرؤ القاهرة على تبني صيغ متطورة، كما فعل السودان، حيث طور بشكل لافت في علاقاته، مع أن أزماته المحلية أشد وطأة من مصر.
الحاصل أن المواقف الحاسمة من بعض القضايا الإقليمية فتحت المجال أمام السودان ليكون رقما مهما في الكثير من المعادلات الراهنة، مع كل من اليمن وإثيوبيا وإيران، ودول عربية وغربية كثيرة، في حين لا تزال القاهرة تتعثر في حسم جزء معتبر من خياراتها، وهو ما يجعل الطريق مفتوحا للسودان، في ظل كوابح تقليدية تردع آخرين عن التقدم في الفضاء الإقليمي.
نقلا عن العرب