22 ديسمبر، 2024 6:23 م

مصر والأزهر والسريان

مصر والأزهر والسريان

يُعد تاريخ العرب والمسلمين مصدراً هاماً لتاريخ المسيحيين الذين عاشوا معهم، والسبب أن كُتَّاب العرب والمسلمين لم يكونوا سريان أو أقباط أو أرمن، بل طرفاً مستقلاً محايداً كتبوا أسماء القوم المعروفة بينهم، لذلك كتابتهم هي دليل واضح على أن السريان الشرقيين النساطرة الذين انتحل لهم الغرب حديثاً اسمي الكلدان والآشوريين، اسمهم في التاريخ هو آراميون أو سريان، لا آشوريون ولا كلدان، ولغتهم هي السريانية أو الآرامية، ولم يذكروا مطلقاً وجود كلداناً وآشوريين في التاريخ المسيحي، وسنشرح الموضوع أكثر مستقبلاً.

تُعدُّ مصر أكثر بلدان الشرق الأوسط بعد العراق، سوريا، لبنان، تركيا، استيطاناً للسريان، ومصدراً مهماً لأخبارهم ووثائقهم، فقبل الميلاد كان للسريان علاقات بالمصريين، وبعد الميلاد أصبحت علاقتهما قوية جداً خاصة منذ سنة 451م، إذ أصبحت الكنيستان السريانية (بضمنها الهند)، والقبطية بضمنها (أثيوبيا وأرتيريا)، ومعهما الكنيسة الأرمنية بإيمان واحد إلى اليوم (هذه الكنائس إلى جانب اسمها الحقيقي، سُمًيت يعقوبية أحياناً ولمدة معينة)، وقد تميزت علاقة الكنيستان السريانية والقبطية أيضاً بسبب عامل اللغة العربية فاستوطن كثير من السريان مصر، خاصة من مدينة تكريت العراقية التي كانت عاصمة السريان في العراق والشرق الأدنى إلى الهند من سنة 628- 1156م (ملاحظة: جاثليق أو مفريان الهند اليوم هو نضير أو وريث مفريان تكريت والشرق منذ سنة 1860م، والمفريان أعلى من مطران وأقل من بطريرك)، ويُشار لسريان تكريت في مصر، بالجالية التكريتية السريانية، وأقام السريان في مصر خاصة التكارتة عدة أديرة وكنائس كثيرة، أشهرها دير السريان في وادي النطرون والقائم إلى اليوم، الذي اشتراه التاجر ماروثا حبيب التكريتي سنة 720م، والدير أسسه رهبان التكارتة السريان قبل سنة 603م، لكن ماروثا دفع ثمنه مرة أخرى 12 ألف دينار (راجع: السريان في القطر المصري لأسحق أرملة، وتكريت حاضرة الكنيسة السريانية للأب سهيل قاشا، والسريان إيمان وحضارة للمطران ساكا ج1 ص120-138، وغيرها)، وقد تَقلَّدَ بطريركية الإسكندرية القبطية خمسة بابوات أو بطاركة سريان، أحدهم عراقي من بغديدا أي قرقوش أو الحمدانية (ملاحظة: لقب بطريرك عند السريان يعادل بابا، لكن السريان لم يستعملوا لقب بابا إلا نادراً)، وكثير من كنائس السريان والأقباط القديمة في العراق وسوريا وتركيا ومصر، مكتوب عليها: شُيدت في عهد فلان بطريرك أنطاكية السرياني وفلان بطريرك الإسكندرية القبطي، وإلى اليوم في قداس كنائس السريان والأقباط يُصلى لله أن يحفظ بطريركي السريان والأقباط.

في مصر عُثر على كتابات آرامية سريانية في جزيرة فيلة وسقارة تعود للقرن السابع 7 ق.م.، ويوجد الآلاف المخطوطات السريانية في كنائس وأديرة ومكتبات مصر، وكانت اللغة السريانية مشهورة فيها إلى نهاية القرن السابع عشر الميلادي، فعندما احتلها نابليون سنة 1798م أصدر أوامره بالفرنسية والعربية والسريانية، وجلب مطابع لغة السريانية (سليم البستاني، تاريخ فرنسا الحديث، مطبعة المعارف، بيروت 1884م، ص152)، واستمرت شهرة السريان ولغتهم إلى اليوم، فكان طه حسين يجيد السريانية، وخلال احتفال جامعة القاهرة في أحد فنادق مصر الجديدة سنة 1914م لتوديع ليتمان أستاذ طه حسين، ألقى المحتفون كلماتهم، وعندما جاء دور طه حسين فاجأ الجميع وألقى كلمة الوداع لأستاذه باللغة السريانية، فنالت إعجاب الجميع (طه حسين، الأيام، دار المعارف، القاهرة، ج3 ،١٩٧٢م، ص50-55)، ويطول الحديث عن علاقة مصر بالسريان، ومنها علاقة الأزهر بالسريان:

ففي مصر أكثر من مئة أستاذ ومتخصص في اللغة السريانية رجالاً ونساء كلهم مسلمون وقسم منهم بدرجة دكتوراه، وقد ترجموا كثيراً من تراث السريان للعربية، وأصدروا عدة كتب، ومن ضمنهم عدة أساتذة للغة السريانية في جامعة الأزهر الإسلامية مثل أحمد محمد علي الجمل أستاذ اللغة السريانية لقسم البنين الذي له كتاب صدر سنة 2007م بعنوان (مدخل إلى تاريـخ أدب اللغة الآرامية السريانية)، وزمزم سعد هلال وبسيمة مغيث سلطان أستاذتا قسم البنات في جامعة الأزهر، ونال عدد كبير من طلبة الأزهر شهادات عليا مثل عبير فاروق حسن الوالي التي نالت الماجستير سنة 2010م بأطروحتها (أغراض الشعر السرياني في العصر الحديث)، وطبع الكتاب وموجود على النيت، وهو بالعربية والسريانية، وفي البداية تشكر السيدة عبير الذين ساعدوها من الرهبان الفرنسيسكان والدومينيكان (وهم من كنيسة الكلدان)، لكنها تُسمِّيهم، آباء الكنيسة السريانية، وليس كلدانية، ثم تقول: إن اللغة السريانية التي نحن بصددها هي من اللغات السامية التي أوصى رسول الله (ص) بدراستها، فقد روي محمد بن عمر المدائني بسنده إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله (ص) إنه يَرِد علي أشياء من كلام السريانية لا أحسنها فتعلم كلام السريانية، فتعلمها في ستة عشر يومًا، وفي رواية قال رسول الله (ص)، أتحسن السريانية؟ فإنه تأتيني كتب بها، فقلت له لا، قال: فتعلمها، فتعلمتها في سبعة عشر يومًا، فكنت أجيب رسول الله (ص)، وأخرج الترمذي عن خارجة بن زيد عن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت، قال: أمرني رسول الله (ص) أن تعلم له كتاب يهود، قال إني والله ما آمن يهود علي كتابٍ، قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال: فلما تعلمُته كان إذا كَتب إلي يهود، كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه، قرأت له كتابهم (سنن الترمذي، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في تعليم السريانية حديث ٢٧١٥، مج5، ص67-6، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب ٣٦٤٥، مج3، ص ٣١٧، والقلقشندي، صبح الأعشى في صناعة، المؤسسة المصرية العامة، ج، قاهرة٨٢١ ه، ١٤١٨م، ص١٦٥).

وتُضيف السيدة عبير: إن هذا التوجيه النبوي يدل على أهمية دراسة السريانية، ومن ناحية أخرى نقف عند الدكتور طه حسين الذي كان ملماً بدراسة اللغات السامية، تلك التي لم تتجمع لأحد من الطلبة المصريين في عصره، وفي أثناء دراسته بإحدى الجامعات كان برفقته بعض الأصدقاء الدارسين للغات السامية والحافظين كثيراً من النصوص السريانية عن ظهر قلب، وألقى أحدهم خطبته في حفل وداع أحد أساتذتهم الأجلاء باللغة السريانية وكانت المفاجأة للجميع، حيث اعتقد الكثيرون أنه سوف يلقي كلمته بالعربية أو بلغة أوربية، لكنه ألقاها باللغة السريانية، تلك اللغة التي لا تجري بها الألسنة إلا في بعض الكنائس، وإضافة إلى الشعراء السريان الأرثوذكس كافرام السرياني وأنطوان التكريتي وابن العبري، فكل شعراء السريان النساطرة القدماء في تاريخ من يدعون اليوم زوراً أنهم كلداناً وآشوريين، وكذلك شعرائهم اليوم حتى بعد اسميهما المنتحلين، تُسميهم السيدة عبير، الشعراء السريان، كبرديصان وابن الصباغين ونرساي وآل بختيشسوع، وأوجين منا، وحنا الديراني، وفي الهامش، تُسمِّيهم النساطرة، وتقول إنهم بعد القرن 16 تَسمَّوا كلداناً وآشوريين، ولأن الاسمين الأخيرين مزيفين وغير واضحين، فالطريف أنها تقول: الكلدان يُسمُّون أنفسهم حالياً آشوريين معتقدين أنهم من سلالة الآشوريين القدماء (وفعلاً قسم من المنضوين لكنيسة الكلدان خاصة في استراليا يدَّعون أنهم آشوريين).

ونختم بكتاب صدر عن تاريخ السريان الآراميين ولغتهم للأستاذ الدكتور أحمد الجمل، كلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر، واسمه (مدخل إلى تاريخ اللغة الآرامية السريانية)، القاهرة، طبعة ثانية، 2007م، وهو بالسريانية والعربية أيضاً، ويقول فيه: السريان هم الآراميون، وقد فرضت اللغة الآرامية نفسها على اللغة الأكدية بفرعيها البابلية والآشورية والكنعانية وسائر اللغات الأخرى وشاعت في كل الشرق، وكانت قوتها تكمن في سهولة وبساطة أبجديتها ونحوها وصرفها، ويتكلم عن أحيقار وحكمه وقصته الآرامية في زمن ملكا الدولة الاشورية سنحاريب واسرحدون، ويُسَمِّي الآرامية التي اجتاحت البلاط الفارسي في عصر الأخمينيين، الآرامية الدولية، والسريانية هي لغة فلسطين ولغة السيد المسيح التي تكلم بها، وازدهرت مع المسيحية في مملكة الرها، وهذه السريانية هي لغة قرى مسلمة في سوريا مثل الصرخة وجعبدين ومعلولا،وعالسريانية هي لغة السريان الشرقيين النساطرة (الآشوريين والكلدان الحاليين) الذين انفصلوا نهاية القرن الخامس عن السريان الغربيين (أي السريان الأرثوذكس، والموارنة، والروم الملكيين)، والترجمة السريانية البسيطة للكتاب المقدس في القرن الثاني الميلادي تمت على يد اليهود الذين اعتنقوا المسيحية في أربيل، والذين كانوا قد هاجروا سابقاً من فلسطين إلى أربيل (يقصد تمت الترجمة على يد السريان الشرقيين أي الآشوريين والكلدان الحاليين، والذين هم سريان من أصل يهودي من أسباط إسرائيل العشرة الذين سباهم العراقيون القدماء وأسكنوهم شمال العراق تبعتهم هجرات أخرى)، ويستمر قائلاً: الآرامية هي لغة الصابئة المندائيين أيضاً، وظلت السريانية مزدهرة إلى الفتح العربي ثم اضمحلت، ثم صحت صحوة الموت على يد المشاهير مثل البطريرك ميخائيل الكبير والمفريان ابن العبري والمطران ابن الصليبي، وإلى اليوم فضلاً عن بعض السريان المسيحيين، يتكلم سكان ثلاث قرى مسلمون السريانية في سوريا قرب دمشق وهي معلولا جبعدين وبخعة أو الصرخة، ص8-20، 63.

ويضيف: انقسم السريان في القرن الخامس، وأطلق اسم اليعاقبة على السريان الأرثوذكس واسم النساطرة على السريان الشرقيين (أي (المتكلدنين والمتأشورين الحاليين) ، وأثر ذلك الانقسام على الأدب السرياني، ثم يذكر الكُتَّاب السريان قبل وبعد الانقسام، ويُسَمَّي كُتَّاب السريان الأرثوذكس، كتاب السريان أصحاب الطبيعة الواحدة اليعاقبة، والكُتَّاب السريان أصحاب الطبيعتين، ص65، 70، 75، 90-91، 112.، ويُسمِّي المدارس في التاريخ كنصيبين وجنديسابور ودير قنسرين والرها، مدارس السريان، وجميع العلماء في تاريخ من يدعون زوراً اليوم أنهم كلداناً وآشوريين، كابن ديصان ونرساي وأستاذه أيهيبا، هم سريان ولغتهم هي السريانية، وعن جهود السريان في الحضارة العربية والإسلامية، يقول: أنشأ السريان حوالي 50 مدرسة فيها مكتبات تُعلِّم العلوم السريانية واليونانية، ويعدد قسماً من المدارس المهمة مثل نصيبين، الرها، قنسرين، جنديسابور، ويقول: أصبحت هذه المدارس جسراً عابراً للعلوم وثقافة أثرت تأثيراً فعلاً ومباشراً على النهضة العربية الإسلامية فيما بعد، ثم يخصص فصل يذكر أهم المدارس السريانية، وكيف نقلت العلوم من اليونان والهنود والفرس وغيرهم، وقد كان للناطقين بالسريانية فضل في يقظة العرب ونهضتهم الفكرية ما لم يكن لأمة واحدة سواهم، تلك النهضة التي غدت ولا تزال مفخرة العصر العباسي القديم حيث قام السريان بترجمة الكتب من اليونانية والفارسية والسريانية إلى العربية، فبعقود قليلة وجد الناطقون بالعربية في متناول يدهم أهم مؤلفات أرسطو وأفلاطون وأبقراط وجالينوس الطبية وإقليديس الرياضية، فكان السريان هم القنطرة التي عبَّرت هذه العلوم لتصل إلى العرب، ثم يُقسِّم دور السريان في عصر الخلفاء الأمويين والعباسيين، ص54-55، 114-116، ويقول: يتضح مما سبق أن جهود السريان كان لها أكبر الأثر في الأدب العربي الإسلامي، وكان الخلفاء يساندون ويسندون مهام السريان واستثارة هممهم ومشاركتهم بكل ما يدور حولهم وتشجيعهم في الترجمة ونقل المعرفة إلى السريان لأن السريان كانوا يجيدون أربع لغات هي: السريانية، العربية، اليونانية، الفارسية، فكان الخليفة المأمون يزن ما يترجم بذهب وفضة ويمنحه للمترجم، ص129.