23 ديسمبر، 2024 12:10 ص

مصر وازمة سد النهضة : تذكرة لمن يتوهمون بأمكانية السلام مع ” اسرائيل ” !!

مصر وازمة سد النهضة : تذكرة لمن يتوهمون بأمكانية السلام مع ” اسرائيل ” !!

اعلنت اثيوبيا قبل عدة ايام انها باشرت بعملية الملء الثاني لبحيرة سد النهضة  ضمن المرحلة الاولى من عملية الملء التي تمتد لعدة سنوات . تستهدف هذه المرحلة حجز حوالى ١٤ مليار متر مكعب خلف السد موضع الخلاف الحالي بين دول المصب واثيوبيا ، ليكون اجمالي مايتم تخزينه في نهاية الملء الاول حوالى ٢٠ مليار متر مكعب . 

مايشكل ضرراً للسودان هو مخاطر جانبية محتملة لاتتعلق اساساً بكميات المياه التي ستنقص مما يردها ، ولكن الامر مختلف بالنسبة لمصر التي تقف تحت خط الفقر المائي اصلاً . إن  اتمام ملء بحيرة السد بكامل سعتها البالغة ٦٥ – ٧٠ مليار متر مكعب يعني حرمان مصر من كميات كبيرة من المياه التي يؤمنها نهر النيل سنوياً ، وهو امر سيؤدي في نهاية المطاف الى خسرانها حوالى نصف انتاجها الزراعي الراهن ، وسيقود ذلك الى بطالة حوالى ٢٠٪؜ من قوة العمل المصرية الحالية ، وتعقيدات اقتصادية واجتماعية وسياسية لاحصر لها ؛ وليس من المبالغة القول ان اجمالي ماستعانيه مصر يشكل الفارق بين الحياة والموت .

من الناحية الفنية البحتة فان حجم التخزين المعلن من الجانب الاثيوبي يتجاوز الهدف الذي تعلنه اثيوبيا من وراء انشاء السد ، وهو بشكل اساس انتاج حوالى ستة الاف وخمسمائة ميغاواط من الطاقة الكهربائية ، اضافة الى تأمين خزين من المياه يؤمن سد احتياجاتها من المياه خلال مواسم الجفاف . وفي كلا الامرين فان التقديرات الفنية تشير الى ان ثلث الطاقة الاستيعابية المستهدفة لبحيرة السد تكفي لتأمين الهدفين ، فما هو الغرض اذا من وراء انشاء السد بهذه الطاقة الاستيعابية التي تتجاوز اضعاف الحاجة الحقيقية ؟ .

بدون الحاجة الى مقدمات فان اثيوبيا ، كما هو معلن ومعروف منذ زمن طويل ، جزء معلن من ستراتيجية تبناها الكيان الصهيوني منذ اوائل الخمسينات خلال عهد بن غوريون الذي رأى ان الوسيلة الاستراتيجية الوحيدة التي تمكن كيانه من تجاوز ازمة المقاطعة العربية وتعاظم قوة العرب في حينه ، اوعلى الامد البعيد حتى لو تغيرت البيئة الاستراتيجية العامة ، تكمن في انشاء تحالف مع دول الاطراف المحيطة بدول الطوق العربي ، وهي تحديداً ايران وتركيا واثيوبيا . وعرفت هذه الاستراتيجية باسم ” ستراتيجية الاطراف Periphery ” . ولانها ليست موضوع بحثنا فانني ساشير الى جوانبها المتعلقة بأزمة سد النهضة الحالية .

شكل دعم مصر الناصرية وتبنيها لحركات التحرر الافريقي وانشائها مؤسسة ” نصر ” لتمويل برامج التنمية الافريقية سداً منيعاً فعالاً في وجه محاولات الكيان الصهيوني للتغلغل ومد النفوذ في افريقيا ، الا ان العلاقات مع اثيوبيا لم ترتق الى المستوى المطلوب مع مصر بسبب طبيعة نظامها خلال عهد هيلاسي لاسي ، ولم تبذل الدبلوماسية المصرية مايكفي من الجهود لبناء مثل هذه العلاقات مع النظام اليساري الذي قام على انقاض نظام هيلاسي لاسي بسبب تبدل القيادة المصرية هذه المرة بعد وفاة الرئيس عبدالناصر ، وحلول تيار يميني منذ عهد السادات تولى الحكم في مصر ؛ لقد تغلبت هوية الانظمة على الضرورات الاستراتيجية  ، كما انشغلت القيادات العربية الرئيسية بقضايا فرعية ، ومنها على سبيل المثال توجه الدول العربية الى دعم الصومال في حربه مع اثيوبيا حول صحراء اوغادين ، ودعم حركة الانفصال في ارتيريا التي كانت جزءاً من اثيوبيا . كانت تلك ستراتيجية خاطئة لان مانجم عنها ، الى جانب عوامل اخرى ، هو استنزاف غير مبرر للدبلوماسية العربية وهدر لموارد كان يمكن توجيهها وفق الضرورات الاستراتيجية ، ومنها بناء علاقات معقولة مع اثيوبيا توازي ماكانت تنسجه الدبلوماسية الصهيونية .

تنكر ” اسرائيل ” ان تكون لها اية علاقة بموضوع سد النهضة ، لكن اي متابع لمجريات العلاقة بينها وبين اثيوبيا لايستطيع الا ان يصل الى استنتاج مغاير ، فقد حظيت بمكانة خاصة يمكن تلمسها من خلال الزيارات المكثفة للمسؤولين الاسرائيليين الى اديس ابابا ، وقد كان التبرير في حينها هو تأمين نقل يهود الفالاشا الى فلسطين المحتلة ، ولكن تصاعد وتائر العلاقات ظلت في تصاعد رغم انجاز عملية نقل الفالاشا ، ورغم تبدل نظام الحكم في اثيوبيا عدة مرات ، ولكن ظلت الاعتبارات الجيوسياسية هي معيار التحرك الصهيوني تجاه اثيوبيا .

لقد كان ومازال من الاحلام التي راودت رواد الصهيونية الاوائل والحاليين هو اعمار صحراء النقب كي تتمكن من استيعاب حوالى ستة ملايين يهودي ، وفي ظل محدودية موارد المياه في فلسطين المحتلة فان الحل الذي اقترحه الخبراء الصهاينة هو تحويل جزء من مياه النيل التي تصب في البحر الابيض المتوسط ، بواسطة الانابيب او من خلال حفر قنوات تمتد عبر سيناء حتى النقب ، من اجل تأمين المياه اللازمة لتنفيذ المشروع ؛ هذه الافكار كانت موضع بحث جدي منذ المؤتمر الصهيوني الاول ، وتم السعي لتحقيقها خلال مختلف العهود التي مرت بها مصر منذ عهد الاحتلال البريطاني مروراً بعهدي السادات وحسني مبارك ، وقد لاقت اذناً مصرية صاغية وخاصة خلال عهد السادات الذي اكتشف في نهاية عهده انه كان عرضة لخديعة كبرى واوهام زرعها الصهاينة اليهود والامريكان الصهاينة في عقله خلال مرحلة من مراحل حكمه . 

لقد بدات ” اسرائيل ” بعمليات اخلاء النقب من سكانه البدو الفلسطينيين ، وهنالك مخططات جاهزة لانشاء مستوطنات ومدن كاملة في ذلك الاقليم بانتظار التنفيذ اذا ماتم تأمين المياه اللازمة من النيل ؛ لقد ادركت القيادة المصرية متاخراً الابعاد الخطيرة لذلك المشروع ورفضته بعد قبول مبدئي من صفقة سلام لم تجن منها مصر شيئًا يوازي حجم خسارتها الاستراتيجية ، وليس اقلها تزعزع مكانتها في العالمين العربي والافريقي ، وكان السبيل الوحيد لاقناع مصر بالمشروع هو الضغط . 

ان وسائل الضغط الاعتيادية مثل قطع المساعدات الامريكية ستؤدي الى نتائج عكسية ولعل اكثرها خطرًا بالنسبة للصهاينة والامريكان هو امكانية تراجع مصر عن اتفاقيات كامب ديفيد للسلام المنفرد ، وهو منجز ستراتيجي لصالح الصهاينة والمصالح الامريكية لايمكن المجازفة به ، ولذلك جاءت فكرة سد النهضة والتي ستضع مصر امام امر واقع . ان التهافت الدولي للمساهمة في انجازه والتمويل السخي الذي حظي به رغم ان بعض جوانبه لاتتماشى مع الاحتياجات الفعلية لاثيوبيا من الكهرباء او المياه لايمكن تفسيره الا بوجود عامل محرك من خلف الستار .

ان خيارات مصر محدودة ومحيرة . قامت الدبلوماسية المصرية باللجوء الى الولايات المتحدة خلال عهد ادارة ترامب ، وماتلقته هو مجرد وعود فارغة ، اذ وضعت وزارة الخزانة الامريكية خطة لحل المشكلة رفضت اثيوبيا التوقيع عليها ، ولم يترتب عن رفضها اي رد فعل امريكي . ثم قامت مؤخراً باللجوء الى مجلس الامن ، واذ بنا نفاجأ بتصريح ممثل فرنسا ( التي تتراس المجلس حالياً ) بان مجلس الامن سينظر في الامر ولكنه لايمتلك الادوات الفنية اللازمة التي تمكنه من البت في موضوع له جوانب فنية ، وهو تبرير سخيف ؛ لقد سبق للمجلس ان نظر وقرر في العديد من الامور الفنية المعقدة التي تخرج اصلاً عن اختصاصه في حفظ السلام والامن الدوليين ، ولعل اقرب مثال هو موضوع ترسيم الحدود بين العراق والكويت رغم ان الموضوع لاعلاقة له بالسلم والامن الدوليين وليست له سابقة في عمل المجلس ، خاصة وان العرف الدولي وجميع السوابق  تشير الى ان  قضايا الحدود الثنائية يتم فضها من خلال اجهزة دولية معروفة مثل محكمة العدل الدولية او من خلال التحكيم الدولي أو بوسائل تفاوضية مباشرة  ، بينما تشكل قضية سد النهضة تهديداً مباشراً للسلام والامن الدوليين في واحدة من اكثر مناطق العالم حساسية ، وهي منطقة القرن الافريقي ، لو تطورت الامور الى نزاع مسلح بين اثيوبيا من جهة ومصر والسودان من جهة اخرى . ان موقف المندوب الفرنسي ملفت للنظر ويوحي بنية مسبقة لدفع القضية نحو زاوية محددة ، ومن غير المتوقع ان يتوصل مجلس الامن الى اتخاذ موقف يؤمن حلاً معقولاً ! .

ان خيار اللجوء الى الحل العسكري من جانب مصر والسودان سيقود الى نتائج كارثية وقد يكون فخاً سوف يتم استثماره لانهاك مصر المنهكة اصلاً باعباء اقتصادية كبيرة ، كما ان التدخل العسكري سوف يصبح متعذراً بعد بضعة اسابيع من الان ، حيث سيكون هنالك خزين كبير من المياه في بحيرة السد يجعل من قضية تدميره ، لو افترضنا امكانية ذلك عسكرياً ، خياراً مدمراً لمصر نفسها وقد يؤدي الى تدمير السد العالي واغراق مساحات هائلة من الاراضي الزراعية في مصر بسبب تدفق تلك الكمية من المياه . وازاء موقف كهذا فان الخيار الامثل لمصر هو العودة الى اظهار اوراق قوتها وخاصة قضية التزامها بسلام تعمل اسرائيل بشكل يومي على حرمان مصر من نتائجه كما يمكن لمصر ان تعمل على انفتاح اكبر على قطاع غزة وتضرب بذلك عصفورين بحجر واحد ، فبدلاً من ترك القطاع حكراً على حماس فان مصر تستطيع ان تكون اللاعب الاهم في القطاع وبوسعها ان تضع حماس رهن ارادتها ، كما سيشكل ذلك عامل ضغط على الكيان الصهيوني وداعميه لتخفيف الضغوط عنها والزام اثيوبيا بتأدية حقوق مصر التاريخية في مياه النيل . 

لقد ان الاوان لمصر ان تفهم ان الدور الذي يراد لها ان تلعبه لتكون معبراً للكيان الصهيوني الى قلب العالم العربي لن يكسبها الا خساراً ، ولها ان تعود الى زعامة العالم العربي وتشكل قاطرته القوية وذلك فقط هو ماسيجبر اعدائها على العودة عن مخططاتهم الخبيثة . لقد تم اخراج العراق وسوريا من دائرة التوازنات الاقليمية ، وذلك في ظل غياب مصر عن مكانها القائد في العالم العربي وربما تواطئها في ذلك ، وإذا كان الاوان قد فات على اي عمل مباشر بشأن سد النهضة فانه لم يفت على امكانية تعطيل المخطط من اساسه ولدى مصر مايلزم من الاوراق وما هو غائب هي الارادة السياسية ؛ يستطيع الرئيس السيسي ان يفعل ذلك وان تكون اولى الخطوات هي اعلان الانسحاب من اتفاق المبادئ الموقع مع اثيوبيا والسودان بسبب خرقه بشكل فاضح من الجانب الاثيوبي ، وهو الاتفاق الذي كبل يد مصر وفسرته اثيوبيا وداعميها بأنه الضوء الاخضر لمضي اثيوبيا قدماً في انشاء سد النهضة … فهل ستكون القيادة المصرية الحالية على قدر تلك المسؤولية ام انها سترضخ في النهاية ، خوفاً على كرسي الحكم ، وينتهي الامر بانسياب مياه النيل الى فلسطين المحتلة ؛ علماً ان الاضرار التي ستلحق بمصر زراعياً وبيئياً في تلك الحالة لن تقل عن اضرار سد النهضة باستثناء انها ستتحقق في امد ابعد ؟!