22 ديسمبر، 2024 11:30 م

كانت وما تزال التركيبة العضوية لـ (دماغ) أو (عقْل) أيّ إنسان تجعله غالباً يفكر ويعمل كل ما يُحقق المصالح الذاتية أولاً، أيّ أنّ عقل كل إنسان في الحالة الطبيعية يبحث ويعمل أولاً كل ما يُحقق مصالحه الذاتية في البقاء على الحياة بأفضل صورة ممكنة دون أنْ ينتقص مِن المصالح الذاتية المماثلة لبقية البشر المحيطين به، أما عقل الإنسان في الحالة الغير طبيعية فأنه يبحث ويعمل أولاً على تحقيق مصالح ذاتية غير مشروعة وذلك بالإعتداء والإنتقاص من المصالح المماثلة لغيره من البشر، كأنْ يَقتِل أو يَسرق أو يحتال أو يحرم الآخرين من حقوقهم المادية ومن حقوقهم في حرية التفكير والإعتقاد وحرية التعبير وحرية أختيار نمط الحياة الجنسية الخاصة، فحين ذاك يكون عقل هذا الإنسان يبحث ويعمل على مصالحه الذاتية بأسلوب غير مشروع مطلقاً.

حالما تمكنَ عقل الإنسان قبل عشرات الألوف من السنين من الإستقرار بشكل عائلات ومجتمعات بدائية تمتهن الزراعة وصيد وتربية الحيوانات حتى قام هذا (العقل) بالبحث عن قوة تسانده ذاتياً في حياته على سطح الأرض، فأفترض وجود قوة عظيمة سحرية غير مرئية قادرة على كل شيء، وأنّ تلك القوة العظيمة هي التي قامت بخلق الإنسان وكل ما يراه حوله مِن أحياءٍ وطبيعةٍ من صحراء وجبال وسهول وبحار وأنهار وسماء وشمس وقمر ونجوم وهزّات أرضية ورياح ومطر وهواء والماء.

كان إفتراض العقل البشري لوجود هذه القوة العظيمة السحرية الخالقة لكل شيء والقادرة على كل شيء ناتجاً من الرغبة المصلحية الذاتية المشروعة لهذا العقل لوجود مَنْ يستطيع مساعدته في حياته على الأرض ولأعادة الحياة اليه بعد الموت المحتوم، ولذا فقد أهتم الإنسان بإفتراضه العقلي هذا، ولم يتمكن العقل البشري حينها من إيجاد طريقة سهلة للتواصل مع هذه القوة الخارقة العظيمة المفترضة سوى تصنيع العديد من تماثيل الآلهة من الطين والخشب والحجر وبأسماء عديدة كرموز مرئية وملموسة لـ (الله) أمامه، وليتمكن من خلال تلك الآلهة إيصال أمنياته بالعودة الى الحياة بعد الموت، وتوسلاته لحمايته من أخطار الحيوانات المفترسة وأخطار الطبيعة من مرض وجوع وحر برد وهزات أرضية وعواصف وأمطار.

العقل البشري ما يزال لغاية يومنا يحاول بشتى التخصصات العلمية وما يتطلبه ذلك من جهود وأموال وزمن لمعرفة المزيد عن سِرّ الحياة والموت وأسرار ومصدر هذا الكوّن، وقد يستغرق هذا الأمر لأزمان طويلة حتى حصول قفزات وراثية في مستويات وقدرات العقل البشري، لكن هذا العقل البشري ولحين حصول مستجدات مستقبلية، سيبقى يتمنى وجود خالق (الله) يُعيد الحياة له بعد الموت، مثلما يتمنى الإنسان وجود (الله) أيضاً لمساعدته للعيش بحياة طويلة السنين خالية من العوز والمرض والأحداث المؤلمة، مُذكّرين هنا بأن العقل البشري يدرك حالياً أنّ تمنّي وجود (الله) لا يُلزِم الإنسان تصديق قصص خرافية متعددة تتناقلها كل الأديان دون إستثاء لأيّ دين منها.

عقول أغلب بشر الأرض باتتْ منذ عقود عديدة واثقة منطقياً وعلمياً من إنّ (الدين) هو إبتكار بشري حصِل قبل آلاف السنين في مجتمعات بشرية بدائية لم يتوفر لبعض الأشخاص الأذكياء فيها عُذر للتسلط على أفراد مجتمعاتهم سوى عُذر الإدّعاء بإمتلاكهم توكيلاً سِرّياً أو وسائل إتصال سرّية مباشرة مع القوة العظيمة الغير مرئيّة (الله) يؤهلهم إدارة العلاقات الإجتماعية والإقتصادية داخل مجتمعاتهم البدائية الخالية حينها تماماً منْ أيّ إدارة أو نظام.

المصلحة الذاتية التي كانت وما تزال تتميّز بها تركيبة العقل البشري هي التي جعلتْ الإنسان قبل ما يقارب الخمسة آلاف سنة يبتكر وسيلة (الدين) لأدارة شؤون مجتمعات خالية حينها من الإدارة، وهذه المصلحة الذاتية للعقل البشري هي نفسها التي جعلتْ الإنسان يبتكر حديثاً أنظمة جديدة تتطور بإستمرار لإدارة شؤون المجتمعات بدلاً منْ الأحكام القديمة التي كانت سائدة في إدارة المجتمعات دينياً.

المصلحة الذاتية المشروعة للعقل البشري هي التي جعلت الإنسان يستمر في البحث عن أنظمة إدارية وحقوقية وإقتصادية وسياسية وإجتماعية تضمن له القدرة على العيش بكرامة مع كامل حريته في التفكير والإعتقاد وكامل حريته في أختيار نمط حياته الجنسية الخاصة دون أن ينتقص من الحقوق المماثلة للآخرين، وهكذا تمكن العقل البشري ولاسيما في المجتمعات الغربية تدريجياً من إبتكار أنظمة لا علاقة لها بأيّ فكر أو معتقد ديني، أنظمة لا تميّز بين إنسان وآخر بسبب الإعتقاد أو الإنتماء الديني، أو بسبب الأيمان بوجود (الله) أو عدم وجوده، حيث أنّ ذلك هو أمرٌ شخصيّ لا علاقة لأحد به، وأنّ كل إنسان حر في ما يعتقد به دون أنْ يَفرضَ ذلك على الآخرين، فللكل حقوق وواجبات متساوية.

أغلب مثقفي العالم يعتقدون أنّ الإنسان الحديث أدرك منذ عقود عديدة أنّ أحكام وقيود كل (دين) أو (مذهب ديني) والتي تُهدد بقيام (الله) بمعاقبة الإنسان الذي يقتل أو يسرق أو يعتدي على حقوق الآخرين وكذلك الإنسان الذي يحتال أو لا يسامح أو لا يعتني بوالديه أو لا يساعد المحتاجين والضعفاء، لمْ تعُد بشكلها العام والمُبسّط هذا كافية لإدارة الشؤون المعقدة للمجتمعات الحديثة لأسباب عديدة أهمها:

أولاً:

كل سكان الأرض يرثون حالياً الأنتماء الإجتماعي الى (الدين) أو (المذهب الديني) من آبائهم دون وجود قناعة حقيقية بذلك الدين نظراً لأن كل الأديان تستند في وجودها على أسس وأحداث خيالية لا يمكن للعقل البشري تصديقها بعد آلاف السنين من التطوّر، وإنما يكون إلتزام الأبناء بـ (الدين) أو (المذهب) الموروث إلتزاماً نمَطياً ومصلحياً يتماشى وعادات الأغلبية.

ثانياً:

وجود أديان عديدة موروثة في المجتمعات البشرية، وكل دين من هذه الأديان يرى في أفكاره وأحكامه الدينية أنها الوحيدة القادرة على إدارة شؤون الحياة وعلى تحقيق رضى (الله) وإشاعة الأخلاق الحسنة في المجتمعات، كما أنّ كل دين من هذه الأديان منقسم على نفسه في عدة فروع أو مذاهب، وكل منها يدّعي أنه الفرع أو المذهب الأصلح الذي يمثل أحكام وإرادة (الله)!

ثالثاً:

كل أديان العالم لمْ تعُد أحكامها قادرة على إدارة الحياة الإقتصادية والسياسية المعقدة لمليارات من البشر، بل أصبح وجود أنظمة (الدين) في أيّ مجتمع قد يُعطي دلالة واضحة على حتمية إنحسار الأموال والسلطة بيد مجموعة دينية صغيرة بينما تعاني الأغلبية من الفقر والحرمان وفقدان حرية الإنسان في التفكير والتعبير أضافة الى فقدان الأغلبية لحقوقهم في حياتهم الجنسية الخاصة بينما يتمتع أفراد السلطة الدينية سراً أو علناً بكل ما يحتاجونه من السلطة والمال والمتعة الجنسية.

رابعاً:

أدركَ العقل البشري بأن مصلحته تقتضي الإجماع على أعلان أسس جديدة لـ (العدل) ولـ (حقوق الإنسان) وإبتكار أنظمة إدارية جديدة تتحكم بالعلاقات الإقتصادية والإجتماعية بين البشر وفقاً لتلك الأسس والحقوق الجديدة بدلاً من الكثير مِن أحكام وأنظمة الدين التي باتت تُعتبر غير عادلة وغير مُنصفة لحقوق الإنسان في عصرنا الحديث، حيث باتت الكثير من الأسس والنظم الدينية تَعني سيطرة قلة دينية بـ (أسم الله) على أموال وحقوق الأخرين، أضافة الى أنّ أغلب هذه الأسس والنظم الدينية تَمنع حرية التفكير والتعبير للإنسان مثلما تتدخل في تقييد حياته الجنسية الخاصة كما تكرّس هذه الأسس والنظم الدينية التمييز بين إنسان وآخر بسبب الجنس (ذكر أم أنثى) أو بسبب الإنتماء الديني والمذهبي الموروث.

خامساً:

أدركَ العقل البشري أنه قادر على التعرّف والتصرف بـ (الاخلاق) الحسنة دون أنْ يتعلم ذلك من أيّ دينٍ كانْ، نظراً لأن تركيبة العقل البشرية قادرة على التصرف بكل ما يحقق المصلحة الذاتية المشروعة للإنسان، فقيام الإنسان بالتصرف ذاتياً بأخلاق حسنة هو بسبب رغبته في حصول مثيلها أثناء تصرف الآخرين معه، مُنوّهين الى أن جميع الذين إبتكروا الأديان لمْ يكن أمامهم وسيلة أخرى لتسهيل مُهِمة تَسلطهم على أفراد مجتمعاتهم البدائية حينها سوى الإدّعاء بكونهم مُختارين من (الله) لِترأس مجتمعاتهم وفرض أحكام الله المزعومة لإدارة تفاصيل الحياة الإجتماعية والإقتصادية لأفراد تلك المجتمعات.

سادساً:

أدركَ العقل البشري حديثاً أنّ (خوف) الإنسان من أحكام الدين ومن عِقاب الله لمْ يكن أمراً حاسماً يساهم في أنتشار العدل والكرامة والحرية للأنسان في المجتمعات التي يَتَحَكّم فيها الدين ورجال الدين، بل أنّ الوضع معاكس تماماً، فمعروف أنّ الفقر والحرمان وأنتهاك حقوق الإنسان يسود بشكل كبير في أغلب المجتمعات التي تتبنى أحكام وأصول الدين أو المذهب الديني، تماماً مثلما يحصل نفس الفقر والحرمان وأنتهاك حقوق الإنسان في المجتمعات التي يتسلط فيها دكتاتور سياسي، وهذا ما يساعد على القول بأن الأنظمة الدينية والأنظمة الدكتاتورية هما وجهان لعملة واحدة!

سابعاً:

أدركَ العقل البشري أنّ أغلب رجال الدين في كل الأزمان وكل الأوقات غالباً ما يجِدون الف سبيل وسبيل لإعادة تفسير الدين بالشكل الذي يخدم مصالحهم المادية والسلطوية، حيث أنّ أحكام وأصول (الدين) قد تمّ إبتكارها أصلاً مِن قِبل العقل البشري قبل آلاف السنين ولتكون متناسبة مع مصالح القلّة التي إبتكرتْ (الدين) للتسلط على المجتمع وتنظم العلاقات فيه وفق رؤيتها لـ (العدل) في تلك الأزمان.

ثامناً:

أدركَ العقل البشري حديثاً بأن مصلحته الذاتية المشروعة تتطلب منه إنْ يتعامل مع بقية البشر بنفس الشكل الذي يتمنى أنْ يُعاملوه به، لذا فقد عمِل العقل البشري الغربي على وضع أنظمةٍ وقوانين تُحقق للجميع قدر المُستطاع كل ما يجعل الإنسان يتمتع بمقومات المَعيشة الكريمة وحرية التفكير والتعبير وحرية النشاط الجنسي الشخصي دون أنْ يتجاوز على الحقوق المماثلة للآخرين.

تاسعاً:

العقل البشري أصبح على قناعة واسعة بنظريةٍ تفيد بأنّ كل المجتمعات البشرية الحالية ستخلو نهائياً من وجود كل (رجال الدين) فيها حالما يتمكن هؤلاء الرجال من الحصول على مهنة بديلة تدرّ عليهم أموالاً ومنافع أكثر مِن تلك التي يحصلون عليها من عملهم في مهنة الدين!

أغلب مثقفي العالم يُجمِعون على أنّ العقل البشري المتطوّر إستطاع منذ عقود عديدة في معظم المجتمعات الغربية وكذا في بعض المجتمعات الشرقية مِنْ تخطّي مرحلة (الدين) أو (المذهب الديني) الذي يَفرض أحكامه على المجتمع البشري الى مرحلة إبتكار الأنظمة البديلة التي تُحاول إدارة وتنظيم كافة الأمور المتعلقة بالشؤون الإقتصادية والإجتماعية والحقوقية بين أفراد المجتمع البشري، تاركاً موضوع الإعتقادد بـ (الله) أو بـ (الدينٍ) أو (المذهبٍ الديني) ليكون ذلك إختياراً شخصياً خاصاً بكل فرد دون أنْ يكون لأيّ سلطة أو جهة حق التدخل في ذلك الإختيار الشخصي، مُذكّرين بأنّ لغْز الحياة والموت ما يزال يشغل العقل البشري علمياً وفكرياً لاسيما بعد أنْ حَسمت أغلبية العقول البشرية مسألة (الدين) بإعتبارها إبتكاراً عقلياً بدائياً بشرياً لإدارة شؤون مجتمعات بشرية كانت خالية مِن أيّ شكلٍ مِن أشكال الإدارة قبل آلاف السنين.

أعلاه هو مقال ( مصالح أم أديان ) من كتابي المنشور عام 2021 بعدة لغات عالمية رئيسية بعنوان ( أحترمُ جدا هذا الدين ) !

يتبع ..