وأعني بالمعرفة الإيمانية (الميتافيزيقة) ما هو أشمل من الدين، أو مستقل عنه وربما ناف له، فهنا أيضا لا بد لنا أن نعرف ما هو دور العقل، وما هو موقعه أساسا من مسألة العقيدة والدين بشكل خاص.
هناك ثلاثة اتجاهات في هذا المجال:
الاتجاه الأول: يقول إن المصدر الوحيد لمعارف الإنسان المؤمن الدينية هو الوحي (القرآن والسنة في الإسلام، والكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وتقاليد الكنيسة عند المسيحيين). ولا قيمة عند أصحاب هذا الاتجاه للاستحسان أو التصحيح العقلي، لا فلسفيا ولا أخلاقيا، فما حسّنه أو استحسنه الشرع (النص الديني)، وأمر به، فهو حسن، وما قبّحه أو استقبحه، ونهى عنه، فهو قبيح، وما يفعله الله بالدليل النقلي – لا العقلي – هو عدل وحكمة منه تعالى، كتخليد إنسان لذنب ما في العذاب، أو المعاقبة على مجرد العقيدة، إذا كانت تمثل بالنسبة لأتباع ذلك الدين كفرا.
الاتجاه الثاني: يؤيد الاتجاه الأول، في أن الوحي (النص الديني) هو مصدر أساسي للمعرفة الدينية، ولكن بضم العقل كمصدر أساسي يتقدم عند البعض على الوحي، لأن به يصدق ما يدعى أنه وحي على أنه كذلك، أو لا يصدق، لاسيما في الضرورات العقلية، وعند البعض الآخر يتقدم الوحي دون إهمال العقل، وعند فريق ثالث يتعاضد المصدران المعرفيان العقل والوحي في معرفة العقيدة. والعقليون يعتبرون المعارف العقلية سابقة لمقولات الدين، ومستقلة عنها، وحاكمة عليها، سواء سبقتها بالفعل في كل حالة أو لم تسبقها. ولكن العقليين الدينيين غالبا ما يقعون من حيث لا يشعرون في المنهج التبريري، وينأون عن المنهج العقلي، خوفا من الوقوع في الشك في الدين. لذا جاءت نصوص دينية تحذر من التعمق في مسائل الدين، وأخرى تنفي أن يُدرَك الدين بالعقل، الأول ينسب لعلي والثاني لحفيده جعفر بن محمد المعروف بـ(الصادق)، بقطع النظر عن مدى صحة نسبتهما إليهما.
الاتجاه الثالث: وهو ما أذهب إليه، هو الذي يقول إن العقل هو مصدر المعرفة الإيمانية، وتعرض عليه مقولات الدين عرضا متجردا وناقدا ومحاكما وحاكما، فيحكم العقل بصدق أو عدم صدق هذا الدين أو ذاك، هذا المذهب أو ذاك، طريقة الفهم للدين هذه أو تلك، حتى لو أدى الدليل العقلي بنقض الدليل النقلي، وحتى لو كان بمستوى نفي الوحي، أو ما دونه، أي موقف اللاأدرية من الدين، فهو الحجة للإنسان وعليه.
والعقل إذا ما استُخدِم استخداما صحيحا يؤدي في فهم صاحبه إلى الإيمان اللاديني، إذا رأى تعارضا لكل من مقولات اللاإيمان، أو اللاإلهية من جهة، والدينية من جهة أخرى، مع القواعد العقلية، كما سيجري تفصيله في بحوث لاحقة. لكني وجدت عبر المنهج العقلي أن الإلهية أو الإيمان واجب عقلي، مع احترامي لمن لا يرى ذلك، بينما وجدت في بداية بحثي كلا من الدين واللادينية كمفهومين ممكن عقلي، ينتهي العقل بعد اختبار هذا الممكن، متحقق هو أم لا، إلى إنكاره، لا من حيث أنه ممتنع عقلي ابتداءً وإجمالا، وإنما لاشتماله على ممتنعات عقلية في التفاصيل، مما يمتنع صدوره عن الله تنزه عن العدم، وعن الوجود على وفق الصورة الدينية لوجوده. بهذا خلصت إلى قاعدة مفادها «إن الدين – مفهوما – ممكن عقلي، وهو – مصداقا – ممتنع عقلي».