تواريخ جغرافية حقول القمح في ارض قبيلة عبادة
شرق ناحية الطار في سوق الشيوخ حيث تمتد امامك البرية المتسعة من الزرقة والارض ،وحيث تستفيق الطيور التي فضت ان تكون اعشاشها في الارض وليس على الشجر ، تحملك مديات التذكر الى عبق امكنة جاورت الفرات بهاجس بعيد صنعته الهجرات الازلية التي اتى فيها العرب من اليمن والجزيرة قبل وبعد الفتح الاسلامي .
فكان من القادمين قبيلة عبادة وهي من ذرية عباده بن عقيل بن كليب بن عامر بن هلال بن صعصعة وهي (( قبيلة عقيل النزارية ــ الربيعية )
هذا البر المسكون بصمت متسع وقد انتشرت فوق تجمعات سكانية ريفية كانت قرى من الطين ثم حولتها النهضة الاقتصادية ومشاريع الإرواء والبزل الى بيوت من الطابوق تحاول ان تقترب من ضفاف الفرات لتكون في مواجهة ليس بعيدة من قرى القصب التي شكلت الاهوار بيئة لها.
في هذا المكان المرسوم على شكل مثلث انزلت قبيلة عبادة ضعون رحالها وجعلت هذا المستقر الذي يلوح في اجفان الناظر عبر امتداد جغرافي عريض في جنوب ارض ميزوبوتاميا ليشمل الطار والفهود والجبايش وكرمة بني سعيد حيث تشكل هذه القبيلة قوسا جغرافيا لتلك الامكنة وضواحيها ولاتعيش في وسطها إلا من دفعه العيش او الوظيفية ليدلف الى العيش في تلك الحواضر ، لكن ازل المكان بقي يسجل تفاصيل مشيخة ترأسها ( آل عصاد ) الذين لسبب غامض او ترفعا وتواضعا نسي امرائهم الاوائل ان يلصقوا اسم عبادة بآل عصاد ، وظل الاسم يعيش في ترادفات الانتماء العام للقبيلة الاكبر.
نشرت عبادة خطوات رحالها وحضورها في مدن العراق ومنها من يعيش متجمعا او متفردا في ارجاء مترامية من الوطن العربي ، ولكن حضورهم التاريخي الاوسع والمؤثر هو في العراق واكثره في الجنوب العراقي .
يتحدث الشيخ فضل بن عبدالواحد الحاج عبدالحسين آل عصاد عن المكان في ذكرى قديمة جمعنا فيها ديوانه الكبير بعد ان تمت دعوتنا من قبل ابن عمه الاعلامي المعروف عماد محمد صالح عبد الحسين ال عصاد :
أن قبيلة عبادة توارثت غي المكان هيبة الحضور والتواصل مع القريب والبعيد من عشائر المنطقة ، بني اسد وخيكان وبني سعيد ،وهذا الحضور جعل من رغبة التعايش والتلاحم صورة مشرفة لتأريخ عبادة ومشايخها من ال عصاد وخصوصا تلك الوقفات الجهادية الباسلة امام الزحف الانكليزي القادم من البصرة ليحتل مدن العراق ويصل الى بغداد اثناء الحرب الكونية الاخرى .
ففي كتاب الذكرى الخالدة الذي صدر عام 1953في النجف الاشرف لمؤلفه المجتهد السيد عناية الله جمال الدين ما يؤشر الى حضور هذا السفر من الجهاد والموقف ، بسبب أن سدنة قرية أم المؤمنين من ال جمال الدين والتي ذاع صيتها في ذلك الوقت والقريبة من كرمة بني سعيد بأنها احدى مدى التشيع وطرائقها الارسالية كانوا في مودة التواصل والتزاور والعمل المشترك في رسالتهم الدينية والاجتماعية يضعون عبادة وآل عصاد مشيختهم في مقدمة من يرون فيهم العون والمساندة.
أظهر آل عصاد وشيوخهم الاوائل والمذكورين في كتب التأريخ والوثائق البريطانية أنهم متفاعلين وحازمين في ارساء موقفهم العروبي ــ الاسلامي وعدم الجلوس في موائد التفاوض من اجل القبول بمرور الجيش الاستعماري او مراكبه الحربية حتى قبل الحرب الكونية عندما تحول الضباط البريطانيين الى جواسيس للاستكشاف يرتدون ثياب الرحالة والمستكشفين ، وفي تلك الوثائق ذكر كثير على دور عبادة ومشيختهم في هذا المكان آل عصاد وكان على البريطاني ان يجلس في مضيف هذه القبلية ومتى عرفوا نواياه تعاملوا معه بالمكشوف واشعروه ان ليرات الذهب والوثائق الكاذبة لتصلح لتكون طريق مرور الى بغداد ،وفي مذكرات الضابط البريطاني جورج كيبل عام 1824 انه التقى رجالا يشبهون عزيمة الاغريق والرومان في تشبثهم بارضهم وامكنتهم وضرب من ال عصاد مثلا ضمن عشائر صادفها وتحاور مع شيوخها على امتداد نهري دجلة والفرات في العمارة وارض المنتفك.
وتكررت تلك المواقف لهذا البيت العريق المسكون عمقا بعيدا في تأريخ قبيلة عبادة واثناء فترة الحكم الوطني الاول في ملكية فيصل الاول وما تلاها ، وفي الادبيات التاريخية الصادرة كتبا ووثائقا اثناء الانتداب البريطاني وما بعده ما يؤشر على حذر البريطانيين ومهابتهم لهكذا بيت بعد ان ادركوا ان من بين رؤساء حركة الجهاد العربي ضدهم كان الشيخ الحاج شريف العصاد وهو زعيم قبيلة عبادة من قادة معركة الشعيبة ضد الانگليز عام ١٩١٤.
وفي كتاب دليل المملكة وهو الدليل الرسمي للعراق والصادر عام 1926 .ما يشير الى ذلك الحضور المؤثر لرجال هذا البيت وتلك القبيلة.
عبر هذا المختصر المسكون بعاطفة الوجدان حيث يشكل البر المنثور عند مزارع الرعي والقمح والظلال الذهبية لمضائف ال عصاد ،اخذني الصحفي عماد ال عصاد ــ العبادي الى الامكنة التي عاش فيها اجدادها ولم يزل يسكنها الاحفاد ، تحدث عن ازمنة تعيش في اطياف مهابة المكان وتسجل في جغرافيتها وقعا روحيا وتضاريسا في الامتداد الوطني للخارطة العراقية وأشار انه يشعر كونه الحفيد المخلص لتلك الازمنة التي اورثت ارواح احفادهم لذة السماع والتأليف وكانت مساجلاتهم الشعرية ودواوينهم حتى ان بعض الباحثين يصر ويؤكد ان بيت الابوذية العراقي الذي يعد اليوم من جماليات الصوت والمعنى في الشعر العراقي هو من اختراع واكتشاف الشاعر حسن العبادي وهو حسين بن عبد الله النجم آل مكن ،عاش اكثر من تسعين عاما وقد توفي في زمان امارة ناصر باشا بن راشد السعدون في العام الهجري 1301 هجرية.
امضي في قراءة المكان عبر عطر التراب الذي كانت الدولة تهابه لتضع فيه المخافر وتنشئ لها حدودا من الحذر لشعورها ان غضب هؤلاء العرب الاقاح قد يشتعل عندما يشعرون بظلم ، وكلما ابتغي لي معلومة يظهرها لي الاعلامي عماد في رحلة العودة الى ذكريات المكان الذي سجلت مدارسه الريفية الاولى واغلبها مبنية من الطين سجلت خواطر وذكريات المعلمين الذين تم ابعادهم الى تلك المناطق بسبب انتمائهم السياسي واغلبهم من عشاق اليسار الماركسي فسجلوا تفاصيل طيبة تلك المودة والقصص التي تؤسطر منابع الكرم والاصالة في نفوس اهلها ومشايخ المكان من ال عصاد كتلك القصة المأثورة في السجل الحكائي والعائلي لتأريخ هذا البيت :
قصه للشيخ الحاج عبد الحسين شريف العبادي رئيس عام قبيله عباده في يوم من الايام اقترض الحاج شريف مبلغا من المال من احد شيوخ العشائر فاراد ان يسدده المبلغ فأرسل ابنه الاصغر الحاج عبد الحسين ليسدد المبلغ وهو في الطريق رأى مجموعه من الناس يقومون بدفن شخص وهو حي ومخرجين رأسه فقط فسألهم لماذا تفعلون هذا فقالوا له اننا اقرضناه مبلغ ولم يسدده فكان الحاج لديه مئتان دينار فأعطى المال لهؤلاء الرجال الذي كان سيرسله الى الشيخ ليخرج الرجل من ورطته ومحنته .
فقال بينه وبين نفسه ليس من عوائد الشيوخ ان يطالبوا بالمال ، ولما عاد الى والده فسأله : هل سددت المال ؟
فقال له : نعم .
وبعد سته اشهر جاء رجل يسأل عن الحاج عبد الحسين ومعه بقره ، فرأى الحاج شريف جالسا في المضيف ، فسأل الحاج شريف ماذا تقرب للحاج عبد الحسين ؟
فقال له: أنه ولدي .
فقص الرجل صاحب البقرة عليه قصته ، وما حدث له وكيف انقذه الحاج عبد الحسين من الموت فأعطى المال والبقرة للحاج شريف ولما عاد الحاج عبد الحسين فقال له جاء رجل اعطاني المال والبقرة هل تعرفه فقال الحاج عبد الحسين هذا المال الذي اعطيتني اياه لتسديد الشيخ ولم اسدده فأعطيتهن لا خراج هذا الرجل من ورطته ومصيبته .
فقال له الشيخ الحاج شريف ال عصاد : بارك الله بك وبمسعاك .
ومن يومها اوكل الحاج شريف الحاج عبد الحسين من بعده رئاسة قبيله عباده العام.
تقف مصداقية تلك القصة عند الشروحات التي راح عماد واخويه جواد وفؤاد يسجلانها في ذاكرتي منذ ان زرت المكان لأول مرة في منتصف التسعينات عندما تمر افتتاح عدة مشاريع اروائية في ارض عبادة بعد ان شعروا ان ملوحة الاهوار بدأت تزحف على اراضيهم وان التصحر الاتي من جهة الخميسية والبصرة بدأ يقترب من ذنائب اراضيهم .
والاخوة الثلاثة عماد وجواد وفؤاد هم من بيت الرجل الوقور الحاج محمد صالح عبد الحسين وهم من بعض سعاة إرساء القيمة الاجتماعية والتاريخية لقبيلتهم العموم عبادة ولبيتهم ومشيخته ( آل عصاد ) ولعماد اليوم مضيفا عامرا وربما هو واحد من اشهر الدواوين الادبية في مدينة الناصرية ، فقريبا من مقام السيد العلوي خضير الصافي ابتنى عماد مضيفه الذي تعقد فيه مجالس اللقاء بين انس ومحاورات ادبية وسياسية وفي كل ليلة ويأم اليه مختلف الشرائح الاجتماعية من ابناء الناصرية وسوق الشيوخ والضيوف القادمون من مدن العراق الاخرى.
صورة ومشيخة ال عصاد في تواريخ قبيلتهم عبادة ،هو الوجه المرئي لكل تلك الازمنة العريقة وقد رسمت في تألق الحضور مهابة الوعي والموقف وسجلت مثل باقي كل عشائر العراق الاصيلة حضورا واعيا وكريما تفتخر فيه ازمنة الماضي والحاضر.