لايستحق مشواري عشرة الآف دينار، لكن جشع بعض سوّاق التكسي وتصورهم أن البنت ساذجة ولاتعرف كم تكلفة مشوارها إلى المنصور أو العرصات أو البياع أو باب المعظم ، يجعلهم يضاعفون المبلغ عليها ! رغم أن بلادنا تفوح منها رائحة الشهامة، الفتيان فيها رجال والرجال فيها شجعان والشجعان فيها كالفرسان بإستثناء بعض الذكور ممن يحاولون إستغلال الفتيات فيطلبون عشرة آلاف في مشوار قريب ، لأنه ببساطة لايبحث في عمله عن الزرق ، بل زيادة الخير خيرين ، فكثير من الموظفين في الدولة اليوم يتخذون من سياراتهم الشخصية تكسي أجرة كمورد لزيادة مكسبهم المالي واستثمار يومهم سواء كانت سياراتهم بيضاء أو صفراء ، ولأن البحر يحب الزيادة فإن الجشع والطمع لدى سواق الالنترا والاوبتما والسوناتا قلّص عمل السائق الذي يبحث عن الرزق لسد رمق عياله ، ويعتمد على شغله بسيارته السايبا كمورد وحيد لكسب العيش ولذلك فأن السواق من وجهة نظري نوعان ” واحد محتاج والثاني بطران ” ، وقد وقفت قبل أيام قليلة في منطقة حي الجامعة فقلت للسائق عن المكان الذي أقصده فطلب أكثر مما يستوجب فقلت له : كثير وتركته لأنه لايستحق حتى المفاصلة فبدأ بتخفيض السعر لكنني تعمدت إهماله لإيماني أن الفرد يمثّل المجتمع ، فربما لن يفعل ذلك مجدداً مع فتاة غيري وإن كان في طبعه الجشع ، ونظرت إلى السيارة التي خلفه كان يقودها رجل كبير في السن حفظه الله وسيارته سايبا فكررت كلامي له فقال : ” عمو اخذك لهناك بعيوني ” .. الأجمل من ذلك أن هذا الرجل تحدَّث لي عن أيام بغداد في الماضي وظهر أنه كان سائقاً ، أبّاً عن جَد ، منذ أن كانت وسائل النقل بالربل والحافلات آنذاك ، بل الأعظم أنه ربَّى وخرّج ست فتيات في الطب والصيدلة والهندسة ، وحكى لي أن ذلك السائق لايأتي شيئاً أمام بعض سائقي الأجرة الذين كانوا في السنوات الماضية يجولون بغداد بالغرباء العرب والأجانب لكي يستغلونهم بالأجرة ، في حين كان البعض الآخر لايقترب أو يكسب عيش عائلته من الحرام والجشع أبداً .. هذه القصة من القصص اليومية التي نعيشها وتصبح تجارب تصقل شخصياتنا وتنوّر عقولنا وتزيد من حكمتنا في الحياة وياروعة الحياة حين تكون بسيطة وجميلة نحظى فيها بلقاء شخص غريب يعاملنا كقريب ، وكوالد هو ليس بوالد . حلو بلسانه وبصير بقلبه ونظيف بعقله لايعرف شيئاً عن الكذب والخداع والإستغلال والجشع فيجعلنا نقول: الدنيا بعدها بخير.