في مشهد سياسي يتكرر عبثه بلا نهاية، تواصل الحكومتان العراقية وحكومة إقليم كوردستان تبادل الأدوار في توظيف المواطن كورقة ضغط ضمن صراع تغلفه الشعارات الدستورية ويعريه الواقع المعيشي المداس تحت أقدام المصالح المتضاربة؛ كلا الطرفين يدعي الشرعية ويؤكد امتلاك الحق، لكن الحقيقة المؤلمة هي أن المواطن هو من يدفع ثمن الغباء الإداري والمماطلة السياسية المتكررة، فلا بغداد نجحت في كسب احترام السيادة، ولا أربيل حافظت على اتزان القرار أو فعالية إدارة الأزمة، الأرقام التي نشرت مؤخراً تعزز هذا الواقع، حيث تؤكد أن الحكومة الاتحادية حجبت معظم مستحقات الإقليم المالية على مدى السنوات الماضية، وأرسلت أقل من نصفها في أحسن الأحوال، بل وصلت النسبة أحياناً إلى الربع، ثم تذرعت بالقوانين لإضفاء مشروعية على التجاهل، وهو سلوك أصبح جزءاً من نمط إداري منظم.
من الجانب الآخر، حكومة الإقليم التي تتقن لعب دور الضحية لم تظهر شفافية مطلوبة في إدارة الإيرادات المحلية، ولم تبن بدائل اقتصادية تقلل من التبعية لبغداد، بل اكتفت بتكرار الخطابات والانفعالات دون خطط عملية واضحة، مما عزز فقدان الثقة الشعبي في مؤسساتها، وبينما تواصل بغداد الإصرار على إخضاع الإقليم ليس فقط عبر الأدوات المالية، بل أيضاً كجزء من سياق إقليمي أوسع يرضي سلطات طهران، تبقى أربيل عاجزة عن ترقية موقفها السياسي إلى مستوى يمكنها من خلق تحالفات مضادة تعيد بغداد إلى رشدها وتكسر أحادية القرار؛بغداد أضاعت بوصلتها العراقية، وتماهت مع النفوذ الخارجي على حساب التوازن الوطني، وأربيل ضيعت نفسها بانفصالها عن هموم مواطنيها، وعجزها عن صياغة سياسة حكيمة تعيد للمشهد شيئاً من الاتزان.
ما يثير الاستهجان أكثر هو تحويل الرواتب، التي تعد أبسط الحقوق، إلى أداة تفاوض تمنح أو تمنع حسب المزاج السياسي، لا على أساس معيار العدالة أو الالتزام القانوني، لتصبح آلاف العائلات رهينة لهذا العبث، بينما تستمر التصريحات الرسمية بتبادل الاتهامات دون أي إحساس بعواقب ذلك على حياة الناس اليومية، عادت أزمة الرواتب مؤخراً إلى الواجهة بعد زيارة وفود رسمية متبادلة وتصريحات من بعض القادة تبشر بحلول وشيكة، إلا أن هذه التصريحات لا تختلف عن سابقاتها في المضمون، وتعيد إنتاج نفس المشهد دون تغير حقيقي.
التجاوزات لا تتوقف عند الملف المالي، بل تمتد إلى سياسات التمييز في التوظيف، وفرض قيود جمركية على إقليم كوردستان، وتعطيل لصادرات النفط، بالإضافة إلى حرمان من القروض والمساعدات الدولية؛ كلها أدوات ضغط تستخدم تحت غطاء قانوني وإداري تبدو مبرراته شكلية أكثر من كونها واقعية، مما يجعل المواطن وكأنه يتعرض لعقاب جماعي ناعم وغير معلن؛ في هذا السياق، تتداول وسائل الإعلام الحديث عن اتفاق نفطي مرتقب بين بغداد وأربيل، من شأنه أن يكسر الجمود، لكنه يواجه خطر أن يتحول إلى وسيلة جديدة للتسويف ما لم تضمن فيه آليات تنفيذ شفافة وخاضعة للمساءلة.
في خضم هذا المشهد، يغيب صوت المواطن الحقيقي، ولا يظهر إلا كأرقام في إحصائيات أو عناوين فرعية في نشرات الأخبار،يعيش المواطن على الهامش، يعاني بصمت لا يليق بعدالة قضيته ولا بكرامة حياته، في حين ينشغل السياسيون بإعادة تدوير خطاب متشابه، يفتقر إلى الجدية والحلول، ربما آن الأوان لتحييد الملفات الخدمية عن التجاذبات السياسية، ووضع نظام عادل للمحاسبة والرقابة، يمكن المواطن من استعادة مكانته كغاية للحكم لا وسيلة في صراعه.