لم يكن المشهد العراقي القائم في أيامنا هذه خافياً على كل من تتبع لشؤون هذا البلد المنكوب برؤية تحليلة واقعية ومنطقية صائبة، فقد تعمّقنا في هذا الشأن بدراساتنا السابقة من حيث أن قطع الأمريكيين للحبل على العراق وهو ما زال في منتصف البئر سيتمخّض عنه العديد مما نشاهده وما سنشاهده في قادم الأيام، فكل من الأطراف المتصارعة يحاول فرض هيمنتها على الآخر متصارعاً بشدة أعظم لعرض عضلاته والإستحواذ بنفوذه على هذه المحافظة أو تلك مع تحقـّق الإنسحاب العسكري الأمريكي نهائياً من البلاد والمؤمل أن يتكامل نهاية العام الجاري، والذي يتسبب في فراغ أمني خطير يمكن أن يستثمره هذا وذاك سبيلاً لتحقيق مكاسب ميدانية أفضل وهيمنة سياسية أعظم.
فما الحقائق المُتاحة والإحتمالات القائمة وراءها؟ وما تضمره الأيام من مشاهد في عموم العراق؟؟
الأوضاع تردّت بما هو أسرع ممّا كان متوقـّعاً، وما هو مرئيٌّ حتى يومنا هذا أخطر على العراق شعباً ووطناً من أي يوم مضى منذ إحتلاله في (نيسان 2003)، وما خفي أعظم، فكل كتلة سياسية تبدو وكأنها جاهدت أن تستبق الإنسحاب الأمريكي بل وإستبقـته لتستحضر ذاتها للإستحواذ على أعظم قدر ممكن من المكاسب السياسية وسواها، إذ نتلمّس الآتي:-
1. إقدام العديد من المحافظات نحو إعلان نفسها إقاليم فيدرالية، ما يمكن إعتباره تمهيداً لتقسيم البلاد إلى أجزاء، سواءً آمَـنـّا بذرائع مجالس المحافظات وحُجَجـِها المُعلنة والخفية وإستنادها على مواد محددة بالدستور الإتحادي، أو خالفناها.
2. تعليق “القائمة العراقية” لعضوية نوّابها تحت قبة البرلمان، ووضع وزرائها الممثـّلين في ((حكومة المشاركة الوطنية)) إستقالاتهم تحت تصرّف “د.إياد علاوي” رئيس القائمة، وقرارهم بمقاطعة جلسات مجلس الوزراء الذي هم أعضاء فيه.
3. دعوة السيد رئيس الوزراء “نوري المالكي” للبرلمان إلى سحب الثقة عن أحد نوابه “د.صالح المُطلـَك” وإصدار أوامره بمنع حضوره جلسات مجلس الوزراء.
4. تعطيل السيد “أسامة النـُجَيفي” رئيس مجلس النواب لأعمال البرلمان لأسبوعين متتاليين تحت ذريعة عدم إكتمال النصاب القانوني، فيما يجتاز العراق ظرفاً يتطلـّب معه أن يكون هذا المجلس في حالة إنعقاد دائم لإتخاذ قرارات مصيرية حاسمة وخطيرة بمستوى الدولة، ما يعني تعطيلاً للسلطة الأهم، على الأقل من الناحية الدستورية.
5. بروز مشكلة في غاية الخطورة بقرار على مستوى “مجلس القضاء الأعلى” حين إتخذ (5) قضاة مذكرة لإلقاء القبض على السيد “طارق الهاشمي” أحد نائبَي رئيس الجمهورية بتـُهمة الإرهاب، وذلك بعد بثّ إعترافات تلفازية فحسب ومن دون أن يُحال الشهود أمام التحقيق القضائي للتأكد المفترض من مصداقيتهم وإدعاءاتهم، وإعلان وزارة الداخلية العراقية بضرورة إلقاء القبض على السيد “الهاشمي” أينما يحلّ في أرض الوطن، والذي إعتبره فخامة رئيس الجمهورية مَسّـاً بمكانة هيأة الرئاسة وهيبتها المُفترَضة.
6. في حالة سحب الثقة من السيد “المطلك” وإلقاء القبض على السيد “الهاشمي” أو عدم حصولهما في أفضل الإحتمالات، فإن موقفـَي كل من نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس الوزراء أضحَيا في غاية الصعوبة والحساسية بحيث يستحيل معها تسيير أمورهما وأداء مهامهما حتى في مكتبيهما الرسميين، ناهيك عن أن إنعدام الثقة بين الطرفين يجعل تعاونهما مع الحكومة القائمة بزعامة السيد “نوري المالكي” وكتلة “دولة القانون” على وجه الخصوص من عداد المستحيلات.
7. ليس السيد “أسامة النـُجَيفي” أفضل حالاً من حليفـَيه وسط القائمة العراقية، فإن لم يقع بحقه مُنكـَر لغاية يومنا هذا فالمتوقـّع أن يأتي عليه الدور إن عاجلاً أم آجلاً.
8. وبذلك أيضاً نرى أن ((الطائفة السنـّية)) في العراق قد تضاءل دوره بشكل مشهود، فبنأي هؤلاء القادة -على علاّتهم وتحفـّظاتنا على أدائهم- إضافة إلى من أُبْعِدَ عن الوطن أو أُجْـبـِـرَ على تركه عُنوةً، فأن دور “السُنـّة” في بلاد الرافدَين في تـَدَنٍ متواصل متجهاً نحو الهاوية، فالذي يعرض أمام عينيه الوجوه “السنـّية” المتبقية وسط الساحة السياسية يتيقـّن مما أطرحه.
9. بات “الدكتور إياد علاّوي” ضعيفاً ومُهَمّشاً، بعد أن لم يستطع فرض ذاته على الساحة السياسية العراقية، وتشتـّـتت قائمته بشكل ملحوظ، ولربما سيشوبها تهرّؤ أعظم وسط هذه الأزمة طمعاً من البعض بالإحتفاظ بمناصبهم ومصالحهم.
ما يضمره قادم الأيام
كل ذلك يعني أن الصراع السياسي الذي ربما كان خفياً بعض الشيء عند تشكيل السيد “المالكي” لحكومته الناقصة من حيث العدد في أهم وزرائها، والتي سمّيت جُزافاً بـ((الشراكة الوطنية))، قد تصاعد بإنقضاء أيام العام الجاري منذ مطلعه ليُمسي الآن جليـاً من دون إستحياء ووجل، بل أن أعظم مبتغيات قادة العراق الحالي لم يَـعُد سوى الحفاظ على الكراسي وغـَرف الأموال ومضاعقة الملايين المتعددة التي إستحصلوها من أموال هذا الشعب، ومن دون أدنى تقدير لمستقبل العراق شعباً وأرضاً، حتى أمسَينا نخجل من تسمية أنفسنا ((عراقيين)) جراء مخازي تصرفات ساستنا وإنعدام إهتمامهم بأمور البلاد والعباد… إذ نرى الأمور أنها قد تسير كما يأتي:-
1. ستتمخـّض عن الأزمة السياسية الراهنة صراع أعنف مما تعايشنا بماضي السنوات والأشهر، وسيحاول كل من لديه أدوات وجماعات أن يعرض عضلاته، وسنشهد المزيد من التفجيرات والإنفلاقات والإغتيالات وإلقاء القبض بالجملة على هذا وذاك… ويكون هناك تشنـّج غير مسبوق بين أتباع هذه الكتلة وتلك.
2. قد يلجأ السيد “المالكي” – إذا أمسى منصبه في خطر- لإستثمار ما تحت سلطته من قوات خاصة تتبعه مباشرة، فضلاً عن وحدات الجيش والشرطة بصفته قائداً عاماً ((دستورياً)) للقوات المسلحة العراقية بغية التخلـّص من مناوئيه -أشخاصاً وميليشيات- بقوة السلاح وبحجج قانونية يسهل تلبيسها، لا سيما وأنه أناط لذاته حقيبَتـَي وزارتـَي الدفاع والداخلية معاً فضلاً عن موقعه الأصل الخطير، ناهيك عن فراغ منصب رئيس جهاز المخابرات ممّن يشغله.
3. ربما تتحرك ميليشيات مسلحة محددة لتأمين السيطرة على هذه البقعة من العراق أو تلك وقطع هذا الطريق الرئيس أو ذاك، سواء بحجة الدفاع عن الأهل والعشيرة أو لتحقيق الأمن في مدينة أو بلدة ما… ولما تكون الحكومة منشغلة بهمومها والحفاظ على نفسها وشخوصها وتأمين الحماية لمكاتبها الرسمية بالمنطقة الخضراء ويقينها أن الجيش العراقي لا يمتلك من الإقتدار ما يؤهله لخوض قتال مع تلكم الميليشيات، فإن الوطن سيكون آيلاً إلى الإنقسام إن لم يكن قد إنقسم فعلاً في وقتنا الراهن.
4. لما تتحرك “الميليشيات الشيعية” تحديداً، وقد تسندها قوات مسلحة عراقية رسمية لدعم الحكومة القائمة برئاسة السيد “المالكي” لأسباب معروفة لدى جميع متابعي الشأن العراقي، فإن ميليشيات سنـّية -وهي أدنى عدداً وعدّة حيال مثيلاتها الشيعيات- قد تتواجه قبالتها أو تتجابه، فينزلق “العراق” نحو أتـون صراع مسلـّح عنيف، ولربما حرباً أهلية شبيهة للتي عشناها في عامَي (2006-2007)، أو أنكى منها بكثير.
5. ربما يبقى الإقليم الشمالي الفيدرالي من العراق على ما هو عليه هادئاً ومتنعّماً بالأمان، إن لم تستثمر قوىً سياسية مناوئة لقيادة الإقليم وحكومته هذه الفرصة للتحرك كذلك إبتغاء إستحصال مكاسب لصالحها… ولكن في حالة إحتفاظ الإقـليم بهدوئه فقد تستغل حكومته فترة الإضطرابات المتصاعدة في باقي الوطن والإنشغال التام للسلطة الإتحادية عن أمور إدارة البلاد فتدفع بقواتها النظامية الـ”بيشمركه” للإستحواذ الميداني التام على “كركوك والمناطق المتنازع عليها” تحقيقاً للأطماع الكردية المعلنة حيال هذه البقاع… ولربما تعلن زعامة الإقليم إنفصالها عن “بغداد” إذا ساعدت باقي المواقف الإقليمية والدولية على ذلك… ولكن الإحتمال الأخير قد يبدو بعيد المنال في الظرف الراهن بسبب الإفادة العظيمة التي يجنيها الإقليم وقادته من ميزانية العراق الهائلة.
6. والذي يثير مخاوف أعظم مما آنفنا ذكره أن يحصل إنشقاق وسط تشكيلات القوات المسلحة العراقية ووحداتها -جيشاً وشرطة- وهي قد تشكلت من حيث الأساس على مرتكزات طائفية وعرقية لا تخفى على أحد، حين يأتمر كل قائد تشكيل أو آمر وحدة بأوامر زعيم الكتلة السياسية الذي أقحمه في صفوف القوات المسلحة، حينئذ يكون أوار الأحداث أنكى بكثير مما توقعناه وسط النقاط آنفة الذكر.
7. ربما تتحرك واحدة أو أكثر من دول الجوار كذلك مستغلـّة الفراغ الأمني والسياسي في “بلاد الرافدين” التي ستكون سائبة ومُغرية بمساطحها ودوافنها على السواء، فالعديد من كبار زعماء “إيران” وقبل (3) أعوام من الآن حين أعلن الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” عزمه على سحب قواته من العراق، فإنهم لم يخفوا إستعدادهم لملء أي فراغ أمني قد يحصل في هذا البلد إذا إنسحب منه الأمريكيون… كما أن عدداً من نواب “دولة القانون” القياديين وسواهم ظلوا يعلنون صراحة وعلى شاشات التلفاز أنهم سيلتجئون إلى الدعم الإيراني فيما إذا إستشعروا بأن المكاسب التي إستحصلوها منذ عام (2003) آيل نحو الإنهيار… وإذا ما تدخلت “طهران” -وهذا هو الإحتمال الأرجح- فإن الساحة العراقية قد تكون سانحة لتدخلات متتابعة من دول جوار قوية أخرى، سواءً بشكل مباشر بإستخدام قوات مسلحة نظامية رسمية أو بأساليب غير مباشرة تحت ذريعة الحفاظ على هذا الجزء من شعب العراق هنا وجزء آخر هناك.
تلك ((رؤانا التشاؤمية)) أزاء مجريات الأمور لو إنهارت ما أُتـُّـفِـق على تسميته بـ”العملية السياسية”، وهذا ما هو وارد إعتماداً على تصريحات عدد غير يسير من زعماء الكتل والأحزاب العراقية… ولكن إذا ما تفاءلنا – ولو على مضض- فإنها قد تسير وفقاً لما يأتي:-
1. قد يتدخل البعض -عراقيين كانوا أم أمريكيين أم غيرهم- فيطفئوا نار الفتنة البائنة بين المتصارعين الأساسيين قبل أن تنفلق، وربما تهدأ النفوس المضطربة وفقاً لـ((توافقات وتفاهمات وتجاذبات)) تلمّسناها في مواقف سابقة من عمر العراق الجديد… ووصول رئيس جهاز المخابرات المركزية (C.I.A) ورئيس أركان الجيش الأمريكي سراعاً إلى “بغداد” وإجتماعهما الفوري -كل على حدة- مع كل السيدين “المالكي والنـُجَيفي” برهان على ما نتصوره، على الرغم من رؤيتنا أن ما نعيشه اليوم أنكى من كل ما مضى.
2. من المؤكد أن يستشعر السيد “المالكي” بأن إستطاعته على إبعاد أقوى خصومه من الساحة السياسية قد جعل منه أقوى اللاعبين في مستوى الدولة، لذا فمن حقــّه من الناحية الدستورية وبدعم المحكمة الإتحادية أن يؤلـّف -إذا إستطاع وقبل به اللاعبون الآخرون- حكومة ((أغلبية برلمانية)) ويسيـر بها وفقاً لما يرغب ويخطط ويأمر بالتنفيذ من دون إرهاصات وأصوات حناجر مناوئة، إذ يكون مناوئوه وسط ((المعارضة البرلمانية)) تحت قباب السلطة التشريعية… وهذا ما هو سارٍ في جميع دول العالم ذات النهج الديمقراطي.
3. ويحتمل كثيراً إذا ما رأى بعض من الآخرين ما أضحى عليه “المالكي” من قوة، فإنهم يتركون كتلهم السياسية التي أوصلتهم إلى المناصب والدرجات التي باتوا يتبوأونها وينضمون إلى الكتلة الأقوى، ففي رؤاهم أن ((لا صديق دائم في السياسة ولا عدو، إنما هناك مصالح دائمة))!!!!!!!؟؟؟؟؟؟
4. على الرغم من صعوبات تعتري القائمة العراقية المُستـَضعَـفة بإنقضاء الأيام، فالمحتمل قليلاً أن يُسمَع صوت زعيمها هذه المرة ويرشح ((التحالف الوطني)) أحد قادته الآخرين ليحل في موقع السيد “المالكي” وفقاً لتناغمات معروفة ودرءاً لخلافات أعظم… ولكن هذه الرؤية مستبعدة نظراً لتشبثه بالسلطة من جهة وكون آليات ووسائل عديدة تحت يديه وبإمرته تمكّـنه من الصمود والتصدي حيال خصومه.
5. قد يكون أحد الحلول إجراء إنتخابات مبكرة كي يعرف كل طرف حدوده وقدره وثـقـله في الشارع العراقي، رغم أن إجراءات دستورية ومصالح زعماء الكتل والأحزاب قد تعيـق الإقدام على هذه الخطوة الخطيرة، فليس من مصلحة أحد من نواب البرلمان أن يخسر كرسيه الذي يمكنه من التمتع برواتبه ومخصصاته طيلة ما يزيد على سنتين كاملتين بقيتا على موعد الإنتخابات العامة القادمة… ولكن لو حدث هذا -على سبيل الإفتراض- فإن الكتلة التي يقودها السيد “المالكي” بوقتنا الراهن أو تلك القائمة التي سيرأسها في غضون الحملة الإنتخابية هي التي ستستحصل على أغلبية برلمانية، ليس لكونه محبوباً، بل أن بين يديه -حتى في حالة تحويل حكومته الراهنة إلى “تسيير أعمال”- من الآليات والوسائط ربما يقتدر بإستثمارها من إستحصال تلك النتيجة.
6. هناك من يرى الإنقلاب العسكري إحتمالاً وارداً في هذه الظروف ووسط توقعات إنهيار ما يسمى بـ”العملية السياسية”، بل أن البعض يحلم بذلك باليقظة والمنام، آملاً أن يعود إلى ما كان عليه في ماضي أيامه… ونحن نقول أن الإنقلاب يتطلب جيشاً قوياً منضبطاً ومطيعاً لأوامر قادته، وهذا ما يفتقر إليه الجيش العراقي القائم… فالإنقلاب في العراق -عدا الإقليم الشمالي- يمكن أن تجريه الولايات المتحدة الأمريكية في حالة عدم رضاها أو حين تتحسس بتعرض مصالحها إلى خطر داهم، وتنفذه عن طريق مستشاريها -وما أكثرهم- وبالإتفاق مع أتباعها في سُـدة الحكم، ويُعيد إحتلال العراق مجدداً بأسلوب قد يكون شبيهاً لما حدث في وطننا عام (1941) إثر “حركة مايس”… وكذلك تمتلك “إيران” في العراق من أدوات وشخوص بمستوى الدولة وتابعين له بين قادة بالجيش والشرطة والمخابرات ما يجعلها كذلك جديـرة على إحداث إنقلاب، مع وجوب تقدير ردود الفعل الأمريكية بشكل خاص والغربية ودول الجوار على وجه العموم، ناهيك عن مواقف غضب عراقية داخلية… ويمكن إعتبار السيد “المالكي” بالوقت الراهن أقوى من في العراق من المقتدرين على إحداث إنقلاب لأسباب أوضحناها وسط هذه السطور، ولكن مع وجوب الإتفاق مع “واشنطن” ورضى “طهران”، وتحت مسمّى ((حركة تصحيحية)) وبحجة الحفاظ على أمن الشعب والوطن.
(*) عميد ركن متقاعـد- دكتـوراه في التأريخ العربيّ الإسلامي، مـؤرخ، خبير إستراتيجي بمركز الدراسات الدولية/جامعة بغـداد سابقـاً.