نعيش في العراق وفي المنطقة العربية مشكلة صناعة الرأي وهي من المشاكل المزمنة والمستعصية لطبيعة مولدات الثقافة التي تتصل بالعقيدة .
وفشل مشاريع العمل الوطني تقف ورائها مشكلة صناعة الرأي ولذلك كل الخطوات التي ظهرت لم ترق الى مستوى المشاريع لاسيما بعد 2003 بلغة ألافكار والنموذج البشري الذي يعتبر الخزين المنتظر للمشاريع الوطنية .
ومن المشاكل المزمنة في صناعة الرأي في العراق : أن الذين يطمحون للتغيير لم يستحضروا أدوات التحضير , ولكثرة الناقدين للعمل السياسي بعد 2003 وكثرة الناقمين من أخطاء من أشتركوا فيما يسمى بالعملية السياسية في العراق والتي لم ترق الى مستوى العملية والعمل السياسي من حيث المفهوم والمصداق , وأنما ظهرت عندنا مكاتب لم تعرف من المكتب ألا ألاسم , وظهر عندنا محازبون لم يعرفوا من الحزب ألا أسمه , وظهر عندنا أتباع لم يعرفوا من الوطنية ألا أسمها ومن الثقافة والسياسة ألا رسمها حتى أصبحنا نخشى أن تتكشف لنا أحوال من يدعو للتغيير وهو لما يزل لايعرف التغيير ومن يدعو لآدانة الخطأ وهو متوحل بالخطأ ؟
ومن الشواهد على ذلك أن بعض المتحمسين للعمل بصيغة الجبهة الجديدة لايبدو عليه هضم ألافكار ولازالت أدوات ووسائل العمل لديه لاتختلف عمن ينتقدهم ولم يفرق بين الحلم والواقع , ناسيا حق الناس جميعا بالحلم , أما الواقع فليس بمقدور كل الناس معرفته والتوصل اليه بأدوات لاتبخس حق الجميع .
ومن الدلائل العملية على عدم توفر قدرة لدى المتحمسين لصيغ جديدة في العمل الوطني أنهم لازالوا ضحايا منتظرين للمديح وألاطراء الذي كان سببا في قتل روح ألابداع وألاخلاص التي يحتاجها العمل الوطني , مثلما لازالت روح المبالغة لديهم سببا لتشويش الرؤية , يضاف لذلك عدم وضوح مايعتمدون عليه من وسائل وأساليب للتغيير وألاصلاح المنتظر .
ثم أن الذين يحلو لهم تشكيل ألاحزاب الجديدة والجبهات الجديدة سيجدون أنفسهم أمام بضاعة بشرية مرت في حوزة تجار السياسة وأخذت منهم سيئاتهم وحملت معها عدوى أمراضهم وهم في سياق المنافسة والظهور سيكونون مضطرين عن علم أو بدون علم لتقبل بضاعة لايعرفون جودتها ؟
وستعود النتائج كارثية لآضاعة الوقت والجهد اللذين خسرنا منهم الشيئ الكثير .
ولقد نصحت أحد ألاصدقاء ممن سعى لتأسيس حزب جديد أن يتريث في النظر ويدرس المادة البشرية جيدا , ولكنه لم يفعل فحصد فشلا ذريعا أضاف لنا خسارة في الجهد وفي الوقت وجمعني لقاء مع أحد المترئسين لحزب وهمي أسسه ألاحتلال في التسعينات وظهر بعد 2003 متسكعا على أبواب السلطة فقلت له : للآنتخابات ثلاثة شروط هي :-
1- قاعدة شعبية
2- قاعدة فكرية
3- قدرة على التمويل
وقلت له : أنت تمتلك مالا , ولكنك لاتمتلك قاعدة شعبية , فالمكاتب التي فتحتها في المحافظات لم تجلب لك شيئا , وأنت لاتمتلك قاعدة فكرية تقترب من مشاعر الناس , لذلك نصيحتي لك أن توظف مالك مع الذين يمتلكون القاعدة الشعبية والفكرية لتدخل أبواب العمل الوطني مواطنا وليس قائدا ؟
وهذا النمط من الصراحة لايلقى هوى وأقبالا لدى من توهموا أنهم قادة وهم ليسوا كذلك , وأخشى أن يكون الجيل الجديد من أصحاب الدعوات غير المدروسة يجلبون لآنفسهم مزيدا من الضياع والمكابرة ؟
على أنني أرى الساحة العراقية ولودة وخصبة بالكفاءات التي ينتظر منها الشيئ الكثير , ولكن بعد تجاوز مطبات مانحن فيه ألان من ضياع هوية العمل الوطني بسبب ماتركه ألاحتلال وبسبب أحزاب السلطة التي عرفت ” الكومشن ” في المقاولات وتحولت الى أحزاب مقاولة وليس الى أحزاب تغيير وبناء للوطن .
وتبقى هناك حقيقة ربما تخفى على البعض , وهي أن الذين يطرحون أنفسهم لمشاريع العمل هم كانوا في يوم ما يعيشون مع شركاء لهم في تجربة العمل الوطني وعرفت أمزجتهم وأهوائهم بحيث أصبحت عبئا عليهم وليست نصيرا لهم فيما يحلمون به ؟
” كل أمرئ بما كسب رهين ” وأرجو أن يتذكر الجميع القاعدة القرأنية ألاخرى : ” بل ألانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيرة ”
والعقيدة لم تدرس عالميا بسياقات موضوعية ولازالت رهن المصالح وألاهواء .
ولكن ماغطى على ثغرات الثقافة في بعض جهات العالم وأطرافه هو ألابتعاد عن الجانب العقائدي وتجنب الغوص فيه , وألانشغال بالجانب المادي الدنيوي والسعي لآصلاحه مما أكتسب رضا ظاهرا رغم وجود عيوب كبيرة وخطيرة ظن البعض بل ألاكثرية أنهم غير معنيين بتلك الثغرات التي درجت ثقافة السلطة الزمنية أينما وجدت على التغاضي عنها ولم تدخلها في حساباتها فربحت هدنة زمنية , ولم تربح الحاضر المؤجل ولا المستقبل المنتظر
وذلك لخسارتها مفهوم العقيدة ببوصلة السماء التي لايمكن معرفيا تجاوزها في أطار مدركات العقل التي تظل حاضرة حضور الحياة في مرحلتيها – ألاولى والثانية – الدنيا – وألاخرة –
ومن هذا المنطلق والمفهوم لايمكن ألغاء ” العقيدة ” في وجدان ألانسان وتفكيره , ولكن يمكن تحويرها وتشويهها وهذا ما حدث قديما ويحدث ألان , ومقولة :” أجعل ألالهة ألها واحدا ” هي من بنات العقول التي طغى عليها التراكم الوجودي المنشغل بالحس المادي المنفعل بالظواهر وغير الملتفت للبواطن التي تشكل مركزية مرجعية للآدراكات العقلية التي تقرأ الكون قراءة لاتنفك عن اللقاء الوجودي عبر مفهوم : الضوء والظلام , ومفهوم السعادة والشقاء , والحياة والموت .
والذين رجعوا الى ماربط على قلوبهم من وضوح المشهد الوجودي الزاخر بالحيوية التي تشتهيها مدركات العقول كان حالهم هكذا ” وربطنا على قلوبهم أذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات وألارض لن ندعوا من دونه ألها لقد قلنا شططا ” – 14- الكهف –
فكان الرأي عند هؤلاء منسجما مع مدركات العقل لذلك سجلوا موقفا تاريخيا عقائديا حقيقيا وصادقا , ودفعوا ضريبة قاسية من جراء ثباتهم على رأيهم , ولم يكونوا كالذين يستغلون فراغ التعليقات فيكتبون بأمية ويتساءلون ببلادة : كيف تثبتون أن القرأن كلام الله ؟ ناسين أنهم يكشفون بذلك عن ألحادهم الذي لم يعد من هموم البشرية التي كشفت لها أبحاث الفضاء وعلوم ألاستنساخ مايغنيها عن مثل تلك التسائلات الخاوية ؟
أو الذين يحلو لهم ألاعتراض بدون مقدمات ثقافية سليمة قائلين : لماذا تحصرون كل شيئ في ” المعصوم ” من أهل البيت عليهم السلام ؟ وهؤلاء عذرهم عدم معرفتهم بأحوال المعصوم مع علماء عصره الذين كانوا يرجعون اليه فيما يصعب عليهم من أسئلة الناس , مثلما كان الحكام يرجعون مضطرين اليهم عندما تستعصي عليهم مفاهيم بعض ألايات القرأنية , أو مفاهيم السنة النبوية مثل ” الحسن والحسين ولدا رسول الله ” ” و” الحسن والحسين أمامان قاما أو قعدا ” و ” الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ”
والذين لم يفهموا أبعاد قول ألامام علي بن أبي طالب ” قولوا فينا ماشئتم ولكن نزهونا من الربوبية ” ؟ أو قوله عليه السلام :” أهل البيت هم عيش العلم وموت الجهل ”
ومن الذين أنتصروا لمدركات العقل في صناعة الرأي كل من :-
1- النبي الرسول نوح : ” ونوحا أذ نادى من قبل فأستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ” – 76- ألانبياء –
2- أبراهيم النبي الرسول مؤسس مناسك الحج :” ولقد أتينا أبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ” – 51- ألانبياء –
3- النبي لوط :” ولوطا أتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث أنهم كانوا قوم سوء فاسقين ” – 74- ألانبياء –
4- موسى النبي الرسول ” وهل أتاك حديث موسى ” – 9- طه- ” وأنا أخترتك فأستمع لما يوحى ” 13- طه – ” ولقد أتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون ألاولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ” -43- القصص –
5- السحرة الذين أمنوا بالحق وأصبحوا من ضحايا الرأي ” فألقي السحرة سجدا قالوا أمنا برب هارون وموسى ” – 70- طه –
6- داود وأبنه سليمان وهم من ألانبياء ” وداود وسليمان أذ يحكمان في الحرث أذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ” – 78- ألانبياء –
7- بلقيس ملكة سبأ التي أنتصرت لمدركات العقل السليم ” رب أني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان للله رب العالمين ” -44- النمل –
8- النبي محمد خاتم ألانبياء والمرسلين مؤسس مشروع الرأي النهائي ” قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ماتعبدون * لكم دينكم ولي دين * -1- 2- 6- الكافرون – ” لقد رأى من أيات ربه الكبرى ” – 18- النجم – ” لتنذر قوما ما أنذر أباؤهم فهم غافلون ” – 6- يس – ” والذي أوحينا اليك من الكتاب هو الحق مصدقا لمابين يديه أن الله بعباده لخبير بصير ” – 31- فاطر – ” قل أنما أعظكم بواحدة أن تقوموا للله مثنى وفرادى ثم تتفكروا مابصاحبكم من جنة أن هو ألا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ” – 46- سبأ-
ومن هنا أصبح الرأي مبنيا على الملاحظة والتجربة التي تشكل مفردة مهمة تستقبلها المدركات العقلية فتضعها في البناء الفكري ليتكامل مشروع صناعة الرأي أخذا بنظر ألاعتبار كل العوامل التي تسهم في تشكيل المشهد المرئي والمحسوس والمدرك .
أن ألاسقاطات التي تسربت الى عملية صناعة الرأي من خلال كل من :-
1- عدم أعتماد الصدق وألاخلاص في الرؤية
2- تغليب المصالح الشخصية والفئوية
3- ألابتعاد عن قواعد البرهان في أستخلاص المعرفة والميل الى المشاغبة والجدل مع تغليب الخطابة المسهبة بالشك والريبة
4- التهرب من أصل العقيدة ومرجعيتها ذات الحضور الكوني المقدر للله بمفهوم ” ذلك الدين القيم ”
ونتيجة لهذا الخلل البنيوي الذي أصاب صناعة الرأي وجدنا التشويش الحاصل على ذهنية الجمهور في المفاهيم التالية :-
1- مفهوم الدين والدولة
2- مفهوم الدين والسياسة
3- مفهوم المرأة والرجل
4- مفهوم الحقوق والحريات
5- مفهوم الفن وألابداع
6- مفهوم الرياضة والكمالات الجسدية
7- مفهوم اللذة والمتعة
ومن هذا ألالتباس في المفاهيم الكبرى تمدد ألالتباس والتشويش الى كل من :-
1- الوطنية والخيانة
2- الوطنية والقومية
3- الفدرالية والكونفدرالية والوحدة والسيادة
4- المقاومة والممانعة
5- الثورة والتغيير وألاصلاح
6- الجهاد وألارهاب
7- الصديق والعدو
ومن جراء ذلك التشويش أصبحنا لانفرق بين الصديق والعدو وهو خلاصة التدمير المتعمد لمشروع صناعة الرأي , وهذا ما يلاحظه القارئ في بعض الكتابات غير الناضجة والتي لاتستحق أن تنشر ومثل كثير من التعليقات التي أصبحت ملهاة لمن قعد بهم الجهل وأعمت بصيرتهم الطائفية , ولذلك نجد ألانقسام في كل شيئ نتيجة فوضى المعلومة والخبر الذي تبثه فضائيات وأذاعات الفتنة التي صادرت الحقيقة وشوهت المعاني حتى حولت البعض الى خراف لاتعرف سوى علفها , وحولت البعض ألاخر الى محترفي الشتيمة ومدمني القذف بألالفاظ الهابطة وهي هدف صهيوني يتحقق اليوم بفضل خواء ألانظمة وترهل أتباعها من الذين لم يعودوا يستوعبوا مفهوم المقاومة بلغة الجهاد الحقيقي فراحوا يستبدلون ذلك بغوغاء الطرق ومتسكعي الشوارع من الذين لايميزون بين الناقة والجمل من حصاد ألاموية ألاولى التي ناصبت العداء لفتى ألاسلام ألاول علي بن أبي طالب لآنها كانت الحاقدة على نبي الرحمة وخاتم الرسل ومن أخلص له ودافع عنه صدقا وحقا .
وهذا الطيش وذلك التشويش المتعمد عند النفوس المريضة هو الذي يولد خطل الرأي وفساد ألاعتقاد في المعاملات والمواقف وفي ألاجتماع والسياسة , ولم يسلم منه كل من يهتدي بخطاب السماء وترجمته عبر الراسخين في العلم الذين لم يكونوا يوما ما لطائفة من الناس ولا لجماعة دون جماعة , وأنما كانوا للناس جميعا وللبشرية كافة , قال ألامام علي بن أبي طالب : ” لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها ” وهو ترجمة للآية القرأنية المباركة ” ونريد أن نمن على الذين أستضعفوا في ألارض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ” .
والذين أستنكروا وجود ألامامة في ألاسلام وأعتبروها من المعدومات كأنهم لم يقرأوا هذه ألاية الكريمة :” قال أني جاعلك للناس أماما قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين ” , ومثلهم مثل الذين أنكروا ميراث ألانبياء لآبنائهم كأنهم لم يقرأوا ألاية الكريمة ” وورث سليمان داود ” ولم يقرأوا ” أن الله أصطفى أدم ونوحا وأل أبراهيم وأل عمران على العالمين ” وقال تعالى :” ذرية بعضها من بعض ” وعيسى عليه السلام لم يكن من ذرية أبراهيم عن طريق ألاب ولكن عن طريق ألام وهي مريم عليها السلام والقرأن بنصه الصريح أعتبر عيسى من ذرية أبراهيم وأعتبره أبا لعيسى مثلما أعتبر أسماعيل أبا لآبناء يعقوب وهو عم لهم وعلى هذا كان العم في القرأن في مكان ألاب , وهذا ألامر تاهت فيه ألاراء , حتى أصبحت مشكلة للفهم لدى البعض ؟
البرلمان والحكومة وألاحزاب , بينما لانجد هذا ألانقسام في صفوف القاعدة الشعبية المغيبة , ومن هنا نجد التفجيرات ألارهابية تجتاح العراق والمنطقة مصحوبة بخطأ التبريرات , ونجد الفشل السياسي مصحوبا بأنقسام الرأي مثلما نجد الفساد يجد فرصته بسوء الرأي الذي جعل الدولة يتيمة من الرعاية العقلية .
رئيس مركز الدراسات وألابحاث الوطنية
[email protected]