يؤكد عالِم الفيزياء لي سمولن في كتابه “مشـكلة الفيزياء” على أن الفيزياء تمتعت بنمو هائل في القرنين الماضيين نتيجة تزاوج النظريات والاختبارات العلمية. فالأفكار الجديدة خضعت للتجربة و بُرهِن على صدقها، و تم تفسير الاكتشافات التجريبية من خلال هذه النظرية الفيزيائية أو تلك. لكن منذ بداية الثمانينيات من القرن المنصرم تغير المشهد الفيزيائي. في العقود الأخيرة لم يتمكن الفيزيائيون من تحقيق اكتشافات أساسية من خلال التجارب العلمية وتفسيرها على ضوء النظريات الفيزيائية. يضيف سمولن أن هذا لا يعني أنه لم يحدث تقدم في تطبيق النظريات على ميادين مختلفة. لكن المشكلة كامنة في أن الفيزيائيين لم يتمكنوا من تطوير معرفتنا بقوانين الطبيعة في العقود الأخيرة. هكذا وقعت الفيزياء في مشكلتها ( Lee Smolin:The Trouble with Physics.2007.Mariner Books ).
يُقدِّم سمولن تصوراً لمنهج العلوم مفاده أنه في العلم لا بد من الاعتقاد بصدق نظرية معينة فقط إذا تنبأت بتنبؤ جديد وظهر تنبؤها على أنه صادق من جراء الاختبار العلمي. أما إذا أدت النظرية إلى تنبؤات كاذبة، فقط حينها تعتبَر نظرية كاذبة. بكلام آخر، العلم هو القابل للتكذيب أو التصديق من خلال التجربة. أي لا بد أن تكون للنظرية العلمية تنبؤات مُحدَّدة من الممكن البرهنة على صدقها أو كذبها. والأزمة الحالية , بالنسبة إلى سمولن , هي أن النظريات التي طرحت في الثلاثين سنة الأخيرة هي إما نظريات أظهرت كذبها وإما أنه يستحيل اختبار ما إذا كانت صادقة أم كاذبة. ومثل على ذلك نظرية الأوتار. بالنسبة إلى نظرية الأوتار، كل الكون يتكوّن من أوتار لها ذبذبات مختلفة، ومن جراء اختلاف ذبذباتها تنشأ كل الطاقات والجسيمات. هذه الأوتار تستلزم وجود أبعاد عديدة إضافة إلى الأبعاد الأربعة المعروفة وهي الطول والعرض والعمق والزمن. فبفضل وجود الأوتار في أبعاد مختلفة تنمو القوى المختلفة في الطبيعة. ويشير سمولن إلى أن نظرية الأوتار قد سيطرت على فكر العديد من العلماء وسلوكهم رغم أننا لا نعرف ما إذا كانت صادقة ( المرجع السابق).
يقول سمولن إن نظرية الأوتار لا تتنبأ بأي تنبؤ جديد ، وبذلك يستحيل معرفة ما إذا كانت صادقة أو كاذبة من خلال التجربة العلمية. على هذا الأساس يستنتج سمولن أن نظرية الأوتار لا ترتقي إلى مستوى العلم الحقيقي بل أدت إلى تخبط الفيزياء. والأسوأ من ذلك أن نظرية الأوتار لا تشكِّـل نظرية حقاً بل هي مجموعة كبيرة من الحسابات التقريبية. فالنظرية لم تكتَب فعلا ً؛ فهي تفتقر إلى المبادئ الأساسية التي لا بد أن تحكمها كما تفتقد إلى الصياغة الرياضية. من هنا يعتبر سمولن أننا لا نعرف حقاً ماذا تقول نظرية الأوتار. و رغم أنها غير كاملة ولا يوجد برهان على صدقها هذا لا يمنع العديد من الفيزيائيين من العمل على أساسها والإيمان بها واعتبارها الطريق الوحيد نحو تقدم الفيزياء النظرية. هكذا ينقسم الفيزيائيون إلى مؤمنين بنظرية الأوتار ورافضين لها ( المرجع السابق ).
بالإضافة إلى ذلك , يطرح سمولن فكرة مثيرة مفادها أن العلم مؤسسة إنسانية، وبذلك يمتلك العلم نقاط الضعف الإنساني. ولذا من الممكن للعلم أن ينهار، وهذا ما يحدث الآن. ويعتمد سمولن على موقف الفيلسوف ” توماس كون ” في فلسفة العلوم كي يوضِّح ما يحدث في الفيزياء اليوم. بالنسبة إلى ” كون ” ، ثمة ثورات علمية في مقابل العلم السويّ. فتاريخ العلم ينقسم إلى مراحل حيث في فترات معينة يسود العلم السويّ وفي أزمنة أخرى تسود الثورات العلمية. في العلم السويّ يسيطر نموذج علمي معين بحيث توجد مناهج اختبارية ونظرية علمية مُحدَّدة من خلالها يتشكل البحث العلمي. أما في زمن الثورة العلمية فينهار النموذج العلمي من جراء فشله في التفسير أو التنبؤ بالنتائج المخبرية. على هذا الأساس يعتبر سمولن أننا في زمن الثورة العلمية لكننا نحاول الخروج منها من خلال أدوات غير نافعة كاعتمادنا على نظرية الأوتار ( المرجع السابق ).
يقدّم سمولن شرحاً دقيقاً لنظرية الأوتار. يقول : بالنسبة إلى نظرية الأوتار , تتوحد قوى الطبيعة كما تتوحد الجسيمات فيما بينها. فكل قوى الطبيعة والجسيمات ليست سوى أوتار وذبذباتها. فمثلا ً ، كل قوى الطبيعة تملك أصلا ً واحداً هو انفصال الأوتار واتصالها. انفصال الأوتار واتصالها يسببان القوى المختلفة في الطبيعة، والتي هي في الحقيقة قوة واحدة بسبب أنها مُختزَلة إلى انفصال الأوتار واتصالها. تقول نظرية الأوتار إن الوتر حين يمشي في الزمن يخلق سطحاً ببعديْن في الزمكان ( جمع الزمان و المكان ). لهذا السطح مساحة مُحدَّدة من قبل طولها واستمرارها في الزمن. والوتر يتحرك على أساس أن يُقلـِّص تلك المساحة. هذا هو قانون نظرية الأوتار. وهكذا نفسِّر تحرك الأوتار وانفصالها واجتماعها. فالوتر يتصل بوتر آخر فقط من خلال أقصر مسافة بينهما. و اعتماداً على الأوتار و انتشارها و ارتباطها و انفصالها و من جراء اعتبار أن كل شيء يتكوّن من أوتار و أنغامها تتمكن نظرية الأوتار من استنتاج كل القوى والجسيمات المعروفة علمياً. هكذا تقدِّم نظرية الأوتار صورة بسيطة وجميلة عن الكون بحيث تتوحّد الجسيمات كما تتوحد قوى الطبيعة و يتم تفسير العلاقات الفيزيائية من خلال القانون نفسه ألا وهو تقليص المساحة في الزمكان( المرجع السابق ).
لكن رغم كل قدرتها التفسيرية وجمالها تعاني نظرية الأوتار من مشاكل عدة. يبني سمولن نقداً قوياً ضد نظرية الأوتار وهو التالي: توجد حلول عديدة ومختلفة إن لم تكن لامتناهية لمعادلات نظرية الأوتار. وبذلك تنقسم نظرية الأوتار نفسها إلى نظريات مختلفة وعديدة. أما نظريات الأوتار المعروفة إلى يومنا هذا فلا تتفق مع حقائق العالم، ورغم ذلك ما زال العلماء يقبلون بنظرية الأوتار لجمالها. فالعلماء في هذا الميدان يتجهون نحو اعتبار كل نظريات الأوتار الممكنة هي مجرد أوصاف ممكنة لعالمنا. وبذلك ثمة نظريات ممكنة ولا متناهية في نظرية الأوتار ذاتها. وإذا كانت كلها منسجمة ستؤدي إلى نتيجة أنه توجد أكوان ممكنة لا متناهية في العدد. بالنسبة إلى سمولن، هذا يبرهن على فشل نظرية الأوتار؛ فالهدف الأساسي منها هو توحيد القوى والجسيمات الطبيعية وبدلا ً من ذلك وصلنا إلى نظريات لامتناهية ومختلفة ( المرجع السابق ).
كل هذا النقد قد لا يُشكِّل تحطيماً لنظرية الأوتار علماً بأنه أولاً ما زال العديد من العلماء يدرسون الكون على أساسها، وثانياً عدم اتفاق نظريات الأوتار المعروفة مع حقائق العالم وتنوع نظريات الأوتار واختلافها ولا تناهيها في العدد قد يشير إلى أن العلم يدرس الأكوان الممكنة المختلفة واللامتناهية كما تقول السوبر حداثة بالضبط. بالنسبة إلى السوبر حداثة , الفلسفة و العلوم تدرس الأكوان الممكنة المتنوعة و المختلفة بحقائقها و قوانينها. لكن إذا نظرنا إلى الأكوان الممكنة مجتمعة و لكونها متعارضة و مختلفة عن بعضها البعض , سنجد أن اللامحدَّد يحكم الوجود. من هنا , تعتمد السوبر حداثة على اللامحدَّد من أجل أن تفسِّر ظواهر الوجود و حقائقه. و بذلك تجمع السوبر حداثة بين لا محددية الكون و إمكانية معرفته.
من جهة أخرى , يعتمد سمولن على نظرية معينة في تحليل المنهج العلمي ألا وهي أن المنهج العلمي يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار فالتكذيب أو التصديق. وعلى هذا الأساس يرفض سمولن نظرية الأوتار. لكن كما أكد سمولن نفسه يوجد العديد من العلماء الذين يقبلون بنظرية الأوتار ويعملون على أساسها. وبذلك لا بد أنهم يتبنون نظرية أخرى في تحليل المنهج العلمي تختلف عن نظرية سمولن. أي لا بد أنهم مقتنعون بأن المنهج العلمي لا يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار والتأكيد على كذبها أو صدقها ، ولذا هؤلاء العلماء مستمرون في قبول نظرية الأوتار والعمل على أساسها رغم أنها لا ترتبط بالاختبار ويستحيل اليوم تكذيبها أو تصديقها.
هكذا نجد أن العلماء منقسمون حول ما هو المنهج العلمي. على هذا الأساس نستنتج أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي تماماً كما تؤكد السوبر حداثة ؛ فمن غير المُحدَّد ما إذا كان المنهج العلمي يستلزم بالضرورة الاختبار أم لا. وبما أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي ، إذن من الطبيعي أن توجد نظريات علمية مختلفة باختلاف المنهج المُعتمَد ، ولذا توجد نظرية كنظرية الأوتار رغم عدم ارتباطها بالاختبار وتوجد نظريات أخرى مُصدَّقة اختبارياً . هكذا نتمكن من تفسير اختلاف النظريات العلمية. الآن، تنقسم فلسفة العلوم إلى نظريتين أساسيتين هما النظرية الواقعية والنظرية اللاواقعية (ليس بالمعنى السلبي). النظرية الواقعية تقول إنه يوجد منهج مُحدَّد للعلم، أما المذهب اللاواقعي فيؤكد على أنه لا يوجد منهج للعلم أبداً. لكن تختلف السوبر حداثة عن المذهبين السابقين فتقول إن من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي. بالنسبة إلى السوبر حداثة، من غير المُحدَّد ما هو الكون ومما يتشكّل ، لكن رغم ذلك من الممكن معرفته لأن من خلال لا محددية الكون نتمكن من تفسيره. على هذا الأساس تقول السوبر حداثة بلا محددية المنهج العلمي وعلى ضوء ذلك تفسِّر اختلاف النظريات العلمية.