23 ديسمبر، 2024 6:12 م

مشروع قانون الاحوال الشخصية الجعفري…كالمستجير من الرمضاء بالنار

مشروع قانون الاحوال الشخصية الجعفري…كالمستجير من الرمضاء بالنار

اثار قرار مجلس الوزراء باقراره مشروع قانون الاحوال الشخصية  وفق المذهب الجعفري الذي اعلنت وزارة العدل عن انجازه واحالته الى مجلس شورى الدولة قبل ارساله الى مجلس النواب لاقراره , الكثير من السخط والاستياء لدى اوساط المجتمع المدني العراقي , لانه يحتكم الى مبادىء تعود بالمراة الى عصر الحريم ويخضعها لقوانين دينية تعتبرها عورة ,وناقصة عقل, ونصف الرجل . مشروع مكبل بالطائفية والمذهبية يكرس لاسلمة المجتمع العراقي ويفتت الوحدة واللحمة الوطنية يحتكم الى النصوص الشرعية بدلا عن القوانين المدنية المحكومة بالكثير من التعديلات التي جاءت لصالح المراة والاسرة , ويميز بين المواطنين على اساس انتمائاتهم الدينية . وهذا الاجراء له ابعاد سياسية واجتماعية خطيرة .
 
من جهة اخرى فان هذا المشروع مخالف لمبدا ” المساواة ” الدستوري كما انه انتهاك للدستور العراقي الذي يشرع لدولة مدنية ديمقراطية ضامنة لحقوق جميع المواطنين , اذ ليس من المنطق ان ينص الدستور على المساواة بين الافراد بينما تاتي القوانين الفرعية مخالفة للدستور ومكرسة للتفرقة  , وتفضيل فئة دينية معينة على حساب بقية المكونات والفئات الاخرى والذي يؤدي بدوره الى غلبة الانتماء الديني او الطائفي على الانتماء الوطني , والسير نحو اسلمة الدولة ومؤسساتها وقوانينها في بلد متعدد الاعراق والاديان والمذاهب امام غياب وحياد تام للدولة .
 
هذا بالاضافة الى ان هذا المشروع يسعى الى تهميش النظام القضائي المدني الموحد خلافا لمبدا “وحدة  القانون ”  لصالح المرجعيات الدينية ,  لان الاصل في تطبيق القوانين ان تكون للمؤسسات القضائية وهي” المحاكم ” التي تصدر احكامها “باسم الشعب ” لا بغيرها من مرجعيات دينية وروحية , وبالتالي فان هذا المشروع سيؤدي الى عدم توحيد الاحكام التشريعية مع انعدام رقابة السلطة القضائية على قرارات المحاكم الشرعية بسبب كثرة الاجتهادات الفقهية لاختلاف المذاهب وتنوعها, حيث لا يستقيم الامر والاحكام والقرارات تتباين في الحالات المتشابهة ومنطق الدولة الحديثة .
 
فمنذ عام 2003 والعراق يتجه نحو التدين ويعيش فوضى طائفية دينية وقومية مقيتة نخرت بهيكلية النسيج الاجتماعي الموحد , والمتشددون الدينيون يسعون في كل مرة الى تشديد الاحكام المدنية للقوانين وتقييدها وتوسيع الاحكام وسلطات المرجعيات الدينية , وتبديد المكاسب في قانون الاحوال الشخصية النافذ المرقم 188 لسنة 1959 وتعديلاته الذي يسري احكامه على جميع العراقيين دون النظر الى مذهب او ديانة او قومية , والذي يعد اكثر القوانين العربية تطورا خاصة بعد التعديلات التي اجريت عليه عام 1979 . فقد اصدر مجلس الحكم المحلي بعد الاحتلال قراره المرقم 137 القاضي بالغاء العمل بالقانون النافذ والعمل بالقضاء المذهبي  والذي اثار في حينه سخط منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية واحتجاجهم واعترضوا عليه حتى صار الى سحب القرار المذكور والغائه بعد فترة وجيزة تحت ضغط تلك الاحتجاجات والاعتراضات المدنية .
فمن حيث المبدا ممكن لاية مرجعية دينية وبموجب المادة 14 من الدستور ـ  بالرغم من الاحتجاجات على هذه المادة الدستورية  لانها تكرس للطائفية باحالة الاحوال الشخصية الى المراجع الدينية ـ , ان تسن احوالها الشخصية الخاصة بها بحسب مرجعيتها الدينية  , والتي تختلف هذه الاحكام وشؤونها بحسب المرجع اوالانتماء الديني , حيث هناك القانون الكنسي الذي ينظم احوال المسيحيين , بينما اليزيديين (الايزيديين ) والصابئة المندائيين لا يملكون لحد الان قانونا خاصا باحوالهم الشخصية ويتبعون القواعد المدنية العامة في احوالهم المالية المتعلقة بالمواريث والوصية , عدا ما يخص النفقة وامور الزواج والطلاق والنسب والحضانة التي تحكمها القواعد الدينية لكل منهما في محاكم المواد الشخصية  ..
 لكن ان تشرع وزارة العدل هذا المشروع الطائفي !! فهو امر غريب وغير مالوف وخارج اختصاصاتها .
ان تبني وزارة العدل لهذا المشروع باسم مذهب معين هو عمل خارج عن طبيعتها كوزارة في دولة لكل العراقيين , فهل تحولت وزارة العدل الى مرجعية دينية كي تتبنى مثل هكذا مشروع ؟ وهل يحق لاي وزير في الدولة ان يتكلم بلغة الاديان والعقائد ؟
ان هذا المشروع المقدم من وزارة العدل يدل دلالة اكيدة على ان الاتجاه سائر نحو الحكم الاسلامي لا مكان لغير المسلمين فيه , وان الحكومة باتت تمثل فئة معينة على حساب بقية الفئات والمكونات الاخرى .
كما ان تبني هذا المشروع سيؤدي الى تعارض العديد من القضايا المشابهة وفق احكام كل مذهب او دين , وما يتطلب ذلك من انشاء محاكم ومؤسسات قضائية جديدة وقضاة مختصين وسن تشريعات جديدة لتتماشى مع القانون الجديد وتفسر بنوده واحكامه .
 
كما ان هذا المشروع يتقاطع مع حقوق المراة لانها ستكون اولى ضحاياه  , لان الاديان دائما  تشكل عامل تعدي على حقوقهن , فلا يكفي ان الدين قد ظلم المراة فنجد ان المجتمع والقوانين مشاركة في ذلك ,  بل ربما اكثر قساوة لان المجتمع محكوم بعادات وتقاليد مرتبطة بالدين , وان الشرائع الدينية غالبا ما تسعى لتكريس التمييز والعنف والاضطهاد ضد النساء وتنحاز الى جانب الرجل ضد المراة وتعتبرها ناقصة عقل ودين , وتنتقص من اهليتها القانونية وتعاملها كقاصر او ناقص الاهلية , وتشترط سلطة الولي عليها في الزواج , وتشجيعها للزواج المبكر , وتكريس سلطة الزوج وما يستتبعه من حقوق زوجية , والزامها بالطاعة مقابل المهر والانفاق عليها , وفرض القوامة عليها ,  والسماح بايقاع الطلاق بارادة منفردة من الزوج , والطلاق الرجعي , وتبيح تعدد الزوجات  , اضافة الى احكام الحضانة والارث ومشاكل النفقة والوصاية والعنف الاسري غير ذلك من الامور الشرعية التي تنعكس سلبا على واقع المراة .
فالمشروع الجديد المقدم من وزارة العدل مثلا يربط في المادة 126 حق الانفاق على الزوجة فقط في حالة الاستمتاع بها !!ولهذا لا تستحق الزوجة الصغيرة (9 سنوات ) ولا الكبيرة ( ذات الحيض الميئوس ) ولا الزوجة ( غير المدخول به ) النفقة من الزوج لعدم الاستمتاع .
ويبيح زواج الصغيرا بعمر التسع سنوات !!!!! وهي مسالة ذات ابعادا اجتماعية خطيرة . فاذا كان جائزا في السابق  زواج الصغيرة بعمر التسع سنوات شرعيا و دينيا , فهو الان امرا خارج عن العرف الانساني المدني ويعد جريمة انسانية  ” اغتصاب الاطفال جنسيا ” يعاقب عليها بالاعدام في الدول المتحضرة  , وهي انتهاك للطفولة واستباحة لجسد الصغيرات , ويعد الرجل في هذه الجرائم ( في اي عمر كان) شخصا مضطربا نفسيا ومن الاشخاص الخطيرين على المجتمع واخلاقياته  . فمثل هذه الزيجات وبهذه الاعمار الصغيرة التي اباحها مشروع القانون الجديد تعد الان انتهاكا خطيرا للحقوق المدنية ولحقوق الطفل وفق القوانين والاعراف الدولية وتتعارض مع لوائح وقوانين المجتمع الانساني الخاص بالحريات والحقوق العامة .
 
 فما كان يصلح من احكام قبل عشرات ومئات السنين لا يصلح للزمن الحاضرالذي تحكمه المواثيق المتعلقة بحريات الانسان  . فالاحكام تتبدل والقوانين تتطور وهي ايضا تشيخ مع تطور الحياة وتقدمها وتحتاج الى اعادة النظر فيها لتواكب تطور المجتمعات ومستوى ثقافتها والقاعدة الفقهية تقول ( اذا تعارض النص مع المصلحة تم تغليب المصلحة لان النص ثابت والمصلحة متغيرة .)
 
لكن يبدو ان الخلافات السياسية القت  بضلالها على العملية السياسية وادت الى تعطيل العمل الرقابي والتشريعي وهذا مااكده وزير ” اللا ” العدل بنفسه الذي صرح لاذاعة العراق الحر قائلا ” ان مشروع قانون الاحوال الشخصية الجعفري يمثل احتراما لهوية المكون الشيعي الاكبر في العراق ” , مما يعني عجز الحكومة الحالية عن سيطرتها وبسط نفوذها على جميع العراقيين . واضاف ” ان الكثير من ساسة العراق يرغبون في اعلان الحكم الاسلامي للبلد وانا اولهم !!!”
 هؤلاء هم ساسة العراق الان يعلنوها صراحة بانهم لا يرغبون بوجود المكونات الدينية  الاخرى في العراق رغم انهم اقدم منهم وجودا على هذه الارض العريقة , والادهى ان يكون هذا التصريح صادر عن وزير يمثل قيم العدالة في البلد , فنحن الان نعيش زمن الفوضى في كل شيء وربما نحتاج الى معجزة خارقة للخروج من هذه المحنة وتغيير هذا الواقع المر ,
وما كانت هذه الامور كلها لتحصل لولا المادة 41 من الدستور التي تكرس للطائفية  , التي تنص على ان  ” العراقيين احرار في الالتزام باحوالهم الشخصية حسب دياناتهم او مذاهبهم او معتقداتهم او اختياراتهم وينظم ذلك بقانون “. هذه المادة الدستورية هي احدى نتاج الواقع الحالي الذي غيبت فيه العقول لصالح الاديان وحشد رجال الدين لاجل نصرة هذا الدين اوذاك .اما مبادىء الدستور التي تتحدث عن المساواة امام القانون والعدل والديمقراطية فانها مجرد حبر على ورق وشعارات يروج لها مهرجي السياسة , وان الظلم الذي يقع على المراة لايقل عن الظلم الذي يلحق الانسان في المجتمع لان الاسرة هي نواة المجتمع . فلا احد ينكر المشاكل الكثيرة التي التي تنتهك الاسرة بسبب انتهاك حقوق الزوجات والامهات والاطفال في ظل قوانين تمنح سلطة مطلقة للزوج الذي بامكانه تطليق زوجته بارادة منفردة , ويتزوج مايشاء من النساء , وان يمنع زوجته عن العمل باعتباره قيما ووصيا عليها , وما العنف والحيف ضد النساء الا نتيجة التمييز ضد المراة وسيستمر طالما تتقاعس الدولة عن حمايتها وتركها تحت رحمة المرجعيات الدينية .
لذلك يجب تحشيد المنظمات النسوية ومنظمات المجتمع المدني للسعي الجاد والعمل لايقاف هذا المشروع والعمل من اجل تشريع ” قانون مدني اختياري موحد  “للاحوال الشخصية لكل العراقيين يحمي حقوق النساء والاسرة ويكفل استقرار الاسرة ومصلحة الاطفال  تحت رعاية ومسؤولية الدولة الدستورية والقانونية . لا ان يكونوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار !!!!!!!.