الحديث عن أحداث الشرق الأوسط وما آلت إليه من تطورات خطيرة وصلت إلى مرحلة الفوضى لا يخلو من تكهنات وتوقعات متشابكة لابد من العوده معها إلى ذات الملعب القديم لفهم أبعاد مرحلة أخرى من مراحل الهيمنة الدولية على مناطق النفوذ التي تزخر بكل ما يشتهيه صناع القرار العالمي من موارد. كمقدمة لهذه المقالة لابد من الولوج إلى عمق التأريخ الحديث وكتابة القليل مما نعرفه عن مرحلة حاسمة غيرت الخرائط الجيوسياسية الدولية وخاصة العربية منها بعد أن اكتشفت الدوائر الإمبريالية أهمية هذا الجزء من العالم، ليس بسبب ما يحتويه من حضارة عريقة، أو كما يشاع عن تهديد الإسلام لباقي الديانات مع الاعتراف بأنه كان الواجهة في الكثير من التحديات المعاصرة فحسب، بل لأنها المنطقة التي ستلعب دورا كبيرا في الحروب الإقتصادية العسكرية السياسية.لقد لعب الاقتصاد الدور الأهم على الإطلاق في التطورات السياسية في التأريخ الحديث، بل وكانت العامل الرئيس في نشوب الحروب العالمية وإحداث التغيرات السياسية في البلدان حول العالم بالرغم من الأهداف المعلنة التي تبتعد عن التفاصيل الاقتصادية التي طالما ما شكلت المحرك الأساسي للسياسات الخارجية للدول التي تبحث عن عوامل ديمومة الهيمنة الاقتصادية العالمية.وبالعودة للماضي، كان للثورة الصناعية التي بدأت مشوارها في القرن الثامن عشر الميلادي الأثر البالغ في رسم خارطة العالم السياسية والاقتصادية والعسكرية، فقد فرض السباق الصناعي آنذاك ضرورة استكشاف مصادر الطاقة التي تساهم في إشباع غرور الدول الصناعية الكبرى التي بدأت على نطاق محدود باستخدام الفحم الحجري كمصدر وحيد للطاقة، والذي سرعان ما تم التخلي عنه بعد اكتشاف المصدر الأهم للطاقة على الإطلاق حينذاك وهو النفط.لم تكن الحرب العالمية الثانية لتنطلق لولا الحاجة الماسة للسيطرة على مصادر الطاقة في العالم، ووجد صناع القرار في العالم بأن هناك ضرورة قصوى لحماية ما يؤمن ديمومة الثورة الصناعية، فكان باطن الأرض العربية كنزا تتنافس الدول على امتلاكه، ودون الدخول في تفاصيل هذا الصراع الذي كلف العالم خسائر مادية وبشرية ضخمة فإن المحصلة كانت توقيع معاهدة سايكس بيكو التي قسمت الوطن العربي إلى مناطق نفوذ أساسها السيطرة على منابع الذهب الأسود الذي ساهم فيما بعد بتطور هائل في كل مناحي الحياة حول العالم.في الوقت الذي يتم فيه الحديث عن بوادر نضوب النفط أو انحساره هنا وهناك فقد برزت مشكلة خطيرة أخرى بالنسبة للغرب، حيث بدأ العالم يدرك مخاطر التلوث الناتج عن استهلاك النفط وبكميات يمكن أن تشكل خطرا على البيئة على الأرض، لذلك كان لابد من إجماع دولي لدرء هذا الخطر للحد من تلوث الجو، وبالفعل صدرت إجراءات صارمة بداية تسعينات القرن الماضي، أفضت في النهاية لتوقيع اتفاق يقلص بشكل كبير الاعتماد على النفط وحتى استخدام المفاعلات النووية لتوليد الطاقة.والسؤال هنا هو; ما البديل الذي يمكن من خلاله الاستغناء عن النفط ويكون أقل تلويثا من مصادر الطاقة الحالية؟ فكان الجواب واضحا! إنه الغاز الطبيعي، والذي يتوفر بكميات هائلة في بطون الأرض حول العالم، لكن إذا كان النفط هو مصدر مآسي الوطن العربي والذي لم يعيد يسيل لعاب القوى المهيمنة، فلماذا لازالوا يتنافسون في أرضنا العربية؟قبل الجواب على هذا السؤال علينا أن نعلم بأن روسيا تعتبر المصدر الأول للغاز الطبيعي في العالم، وهذا سيضع صناع القرار العالمي أمام معضلة كبيرة في التعامل مع طرف لا يؤتمن جانبه، فلا يمكن ترك مصير أوروبا بيد روسيا لتتحكم في مصادر تزويدها بالطاقة، فكان لابد من البحث عن البديل.بدأت عملية البحث عن البديل أولا في تركيا، وفي بدايات القرن الحالي عندما تم الاتفاق بالفعل بين النمسا وتركيا على انطلاق مشروع مد أنابيب غاز من تركمانستان التي تمتلك رابع احتياطات العالم من الغاز إلى تركيا عبر بحر قزوين، ومن ثم إلى النمسا ومن هناك يتم تصديره إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي، وهنا نرى بأن الخط المرسوم قد أهمل الأراضي الروسية، وأطلق على هذا المشروع تسمية (نابوكو)*.لم يرى مشروع نابوكو النور! فقد علمت روسيا مبكرا بأن هذا الخط سيطوقها بقيود اقتصادية خطيرة، فقامت أولا بإثارة قضية بحر قزوين الذي من المفترض أن يمر من خلاله أنبوب الغاز من تركمانستان إلى تركيا باعتباره انتهاكا للقانون الدولي الذي لم يعرّف بحر قزوين فيما لو كان بحراً يمكن لأي طرف استغلاله أو بحيرة تعود لروسيا، وفوق ذلك سارعت بشراء حصص ضخمة من الغاز التركمانستاني بعقود طويلة الأجل، وبذلك يكون لها حق التصرف بالغاز أو منع تصديره عبر خط نابوكو، وبهذا الدفاع الروسي انهارت خطة الالتفاف عليها، بل فشلت فشلا ذريعا.بالرغم من هذا الفشل، قامت أمريكا بالضغط لتوقيع الاتفاقية بالرغم من عدم وجود مصدر للطاقة بعد أن أفشلته روسيا، وبدا الأمر وكأنه تخبط أمريكي نتيجة للضربة الروسية، لكن في واقع الأمر ليس كذلك، فقد كان لأمريكا البديل القوي بالفعل، إنه الغاز القطري، الذي يمكن من خلاله صد اللكمة الروسية وربما بأقوى منها، لكن مع وجود عوائق جيوسياسية من الصعب تفاديها دون مسرح صراع عسكري.كما هو معلوم فإن الصحراء القطرية تخفي كميات هائلة من الغاز الطبيعي، وهذا يفسر وجود أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في السيلية، والتي يعلن بانها وجدت من أجل الدعم اللوجستي في المنطقة، لكن لأمريكا مآرب أخرى، فقط أسست لتبقى هناك ولن تخرج، فوجود أكبر مصدر للغاز الطبيعي في الشرق الأوسط سيسيل لعاب كثيرين.جغرافيا، المشروع المقرر لخط الغاز القطري سينطلق من قطر مرورا بالمملكة العربية السعودية باتجاه سوريا، ونضع تحت سوريا خطين أحمرين، ثم يلتقي بمشروع الغاز المصري وربما الإسرائيلي في المستقبل، ومن هناك مرة أخرى إلى الأراضي التركية فأوروبا.وبسؤال بسيط يمكن من خلاله دحض كل تلك المخططات ويجعلها حلم أمريكي آخر! كيف سيتم تنفيذ هذا المشروع الدولي العملاق لنقل الغاز في أرض تشهد صراعات دموية في الأساس؟ وهنا سنفهم المعنى الحقيقي للفوضى الخلاقة، لأنها بالفعل ستخلق من شرق أوسط يختلف كثيرا عن سابقه حسب المفهوم الأمريكي، لذلك كان يجب إدامة الصراعات لتصل أوجها، وتصفية كافة الأنظمة التي يمكن أن تشكل عائقا أمام تنفيذ هذا المشروع، ومنها النظام السوري.تكمن المعضلة السورية في دعم روسيا للنظام القائم، وهنا عادت روسيا لتشكل العقبة أمام هذا المشروع بعد أن أفشلت المخطط الأول، خاصة إذا ما علمنا بأن النظام السوري قد رفض مرور أنبوب الغاز في أراضيه، وليس مهما إن كان بضغط روسي أو لدوافع وطنية، لذا كان على أمريكا تأسيس منطقة صراع تستطيع في نهايته فرض شروطها على الحكومة القادمة لتأمين انسيابية المشروع وضمان تنفيذه دون عوائق.في العراق يبدو الأمر متشابكا، ولفك خيوط الالتباس علينا أن نعلم بأن المشروع بدأ التفكير بتنفيذه قبل أن تفكر أمريكا باحتلال العراق، وهو ما يفسر حتمية التخلص من النظام الوطني في العراق الذي كان الأقوى ضد المشاريع الاستعمارية، والذي فتح الباب أمام تغييرات كبيرة في باقي الدول العربية، لكن تدخل إيران الحليفة لسوريا وروسيا خلط الأوراق، لكن ليس في غير صالح أمريكا، بل أعطى للصراع نكهة خاصة عندما زاد من التوتر والفوضى التي تبحث عنها أمريكا من أجل أن تسحب الجميع لمنطقة صراع لن تخسر فيه جنديا واحدا.كان لمحافظة الأنبار حصة الأسد في الصراع الدائر اليوم، فهي هدف ثمين لإيران قبل أمريكا، فإيران التي فهمت اللعبة من خلال علاقتها مع روسيا لا تريد أن تخرج من اللعبة صفر الوفاض، فهي تسيطر على العراق لكن ليس أجزاءً مهمة منه، ولابد لها من موطئ قدم يجعلها تجلس بين الكبار في مشروع الغاز القادم، إذا تسنى لها ذلك، فوجود تنظيم الدولة الإسلامية لم يكن اعتباطا في مناطق الصراع، والذي يساهم بكل وضوح في عرقلة مساعي إيران للسيطرة على الأنبار التي تخفي هي الأخرى تحتها كميات هائلة من الغاز الطبيعي، وهذا هو سر أهميتها لأطراف الصراع.من جانب آخر، يمثل التقارب الأمريكي الإيراني الأخير بعد الاتفاق النووي عقدة أخرى تحتاج للوقوف عندها، فأمريكا تفكر بإيران ليس كما يفكر بها العرب، فهي ايضا يمكن ان تكون مصدرا مهما لذات المشروع لما تمتلكه من احتياطات هائلة من الغاز، وهذا يتوضح من محاولة أمريكا لدفع إيران لتغيير سياساتها الخارجية، والتي فهمها العرب على إنه تقارب لمصلحة أمريكا لكن على حسابهم، وربما ما سيترشح من مواقف إيرانية قادمة سيوضح فهم إيران للوضع الدولي الجديد من عدمه، في ظل وجود تحالف عربي إسلامي يدفع باتجاه تقويض تدخلاتها الخارجية.وختاما ربما هناك سؤال يفرض نفسه في ظل الحديث عن التقسيمات المحتملة وعن سايكس بيكو جديد يقسم فيه المقسم من الدول وعن سر علاقته بهذا المشروع، والجواب على هذا السؤال يعود بنا إلى ذات الاسباب التي أدت إلى تقسيمات سايكس بيكو قبل 100 عام والتي ينتهي العمل بها هذا العام، فكما هو ملاحظ إن التقسيمات السابقة اعتمدت على إيجاد حدود لم تكن موجودة خلال الفترة العثمانية، وبغض النظرعن الدوافع السياسية أو الجغرافية فينبغي أن نعلم بان مشروع الغاز القادم سيشمل مناطق جغرافية محددة من هذا البلد او ذاك، ولنأخذ العراق كمثال، فإذا كانت الأنبار مركز تصدير الغاز فإن الأنبوب سيخترق المنطقة الشمالية الغربية وصولا إلى تركيا، وهذا يفسر فكرة الأقاليم المطروحة في العراق، وهكذا بالنسبة لسوريا، فستكون مدينة حمص ملتقى الأنابيب الواصلة من قطر مع وجود أحتياطات كبيرة من الغاز فيها والتي تصل إلى تركيا.إن عملية دعم وجود أقاليم يمكن أن توفر مناطق آمنة في العراق أو سوريا بعد تأسيس حكومات إقليمية تابعة لأمريكا التي ستوفر كامل الدعم اللوجستي والعسكري لتكون أقرب إلى المحميات التي تضمن تدفق الغاز الطبيعي من المنشأ لغاية وصوله إلى تركيا. – (نابوكو): حسب بعض المصادر فإن الكلمة جاءت كصيغة تصغير و (تحقير) باللغة العبرية للملك البابلي (نابوخذ نصر)، ويبدو أن الأطراف التي خططت لهذا المشروع، قد تعمدت استعمال اسم الملك البابلي لدوره في إنهاء مملكة يهوذا وفي ما عرف بالسبي البابلي.