23 ديسمبر، 2024 12:28 ص

مشروع الانفصال والاعتداء على العقل الكردي

مشروع الانفصال والاعتداء على العقل الكردي

استرشادا بالقراءات الموضوعية والاستنتاجات البديهية والمستخرجات المنطقية نحلل من منطلق الرؤية العقلانية مبادرة الاستفتاء التي اطلقها السيد مسعود البرزاني، ونمر مرورا هادئا بعين العقل على ما ترافقه من مقدمات وتحضيرات واستعدادات، ولكي يكون طرحنا شفافا ومبنيا على استنتاجات منطقية سنلجأ الى التحليل الواقعي المبني على قراءة الاحداث والمستجدات كما هي ودون اي انحياز لكيي يتسم مقالنا بالموضوعية والحيادية والمسؤولية، واستنادا الى هذا المنطلق سنتعرج الى المبادرة بعين الواقعية لكي نكشف عن مكامن الخلل والثغرات الكبيرة التي تعتريها، وكالآتي:
(1) مبادرة الاستفتاء لم تطرح بشكل مشروع وطني او ورقة سياسية او خطة عمل، وكذلك فكرة الاستقلال لم تطرح بشكل مشروع متكامل مبني على رؤى شاملة ومنها البناء والاستناد الى خارطة طريق كاملة معدة بطريقة منطقية وعقلانية وليست بطريقة حماسية تقرأ منها نوايا شخصية وحزبية وانفعالية.
(2) مبادرة الاستفتاء لم تطرح على اية جهة تخصصية ان كانت سياسية او قانونية او أكاديمية، محلية او عراقية او دولية من باب الاستشارة والتحليل والاستنتاج والتقييم، ولم تطرح على أية جهة استشارية أجنبية مختصة بالقانون الدولي لدراستها وتقييمها واسناد مرجعيتها القانونية.
(3) غياب الرؤية والقراءة الاستشارية لمبادرة الاستفتاء والاستقلال من قبل الأحزاب الكردستانية بجميع أنواعها ومذاهبها السياسية والدينية والقومية، وعدم اتاحة الفرصة والزمن اللازم أمام اي حزب لاعداد ورقة عمل او خارطة طريق خاصة به لدراستها وتقييمها وتعديلها وفق التحليلات والاستشارات التخصصية القانونية المحلية والعراقية والدولية، وثم توحيد كل الاوراق الحزبية بورقة وطنية واحدة وتحت عنوان واحد وهو “المشروع الوطني لاستفتاء واستقلال اقليم كردستان”.
(4) طرح المبادرة بطريقة شخصية وحزبية وكأن قرار اجراء الاستفتاء قد خرج من غرفة أعدت حزبيا بقرار من البرزاني دون العودة الى مرجعية شرعية وقانونية وهو برلمان كردستان الذي تم تعطليه بأمر منه ضاربا استحقاق الناخبين وسيادة القانون والقيم الديمقراطية عرض الحائط.
(5) التهليل الأعمى البعيد عن المنطق والعقل والقانون من قبل أتباع وأنصار وأعوان وحاشية البرزاني عن مبادرة الاستفتاء والتسويق لها بشتى الوسائل والطرق البراغماتية وكأنها طوق النجاة والبساط الاحمر المفروش بالورود لخلاص الكرد وانقاذهم لاقامة دولتهم المستقلة.
هذا باختصار مجمل الملاحظات السلبية السياسية والقانونية والتشريعية والادارية الكبيرة التي يحيط بالعملية، وهي في حقيقة الامر بالغة النقص لأنها غيرمصانة وحاوية على ثغرات كبيرة وكثيرة مما يفتح المجال للاخرين الطعن فيها بسهولة وخاصة من قبل مجلس النواب والحكومة الاتحادية وكذلك من قبل بعثة الامم المتحدة في بغداد، ولهذا هناك شك كبير من ان العملية برمتها موجهة لتلبية نوايا اخرى حزبية او شخصية لا تتعلق بالاستقلال، وبالرغم من المعارضة الاقليمية والدولية التي تتعرض لها.
ومن جانب اخر عندما نلج في عمق مبادرة الاستفتاء نجد ان البرزاني لم يلجأ مطلقا الى التحوط الاستراتيجي لحماية شعب الاقليم في مرحلة ما قبل وما بعد الاستفتاء، وذلك من خلال اتخاذ احتياطات لحماية المواطنين من الجوانب الاقتصادية والحياتية والمعيشية والغذائية والمالية المرتبطة بالحاجات الأساسية والرئيسية لادامة الحياة، وعلى اقل تقدير تأمين هذه الحماية لفترة لا تقل عن ستة أشهر أو سنة كاملة، وذلك على أساس احتمال اغلاق الحدود البرية والاجواء الجوية للاقليم من قبل الدول المجاورة، وهذه الحالة هي ثغرة الضعف الرئيسية الهائلة لمشروع الاستفتاء، ولهذا من حقنا ان نقول لا يعقل ان يتم اتخاذ قرار مصيري بهذه الأهمية والشعب على أرضية هشة خاوية لا تحميها اقتصاديات احتياطية ولا موارد مخزونة ولا أموال مدخرة في عاصيات الظروف، وللاستدلال على هذه الحقائق المرة، نورد ما يلي:
(1) تعرض الاقليم الى أول انتكاسة مالية من خلال تأخر توزيع ربع الرواتب المتأخرة أصلا عن مواعيدها والمسمى بالادخار الاجباري القمعي، وذلك لأسباب متعلقة بوضع اليد على أموال النفط الكردي من قبل الحكومة التركية كما جاء في تكهننات اعلامية، بسبب معارضة أنقرة لقرار الاستفتاء، وهذا يعني ان البرزاني ومن معه من سلطة وحكومة واحزاب حاكمة لم يفكروا في ضمان احتياط مالي تكفي لفترة لا تقل عن ثلاثة أشهر على الأقل او على مدار نصف سنة كاملة.
(2) عدم وجود برنامج خزين غذائي اطلاقا لضمان قوت الشعب من المواد الغذائية لفترة لا تقل عن ستة أشهر، وكذلك عدم الحساب لضمان أو تأمين محاصيل الحبوب من الحنطة والشعير والذرة المنتج محليا، علما من ناحية الأمن الغذائي للاقليم فان حاجة المواطنين تتطلب على الاقل لفترة نصف سنة تخزين ربع مليون طن من الحنطة، وتخزين كل من الرز والذرة والشعير بقدر نص ربع مليون طن لكل مادة، وذلك لضمان المواد الأساسية من الحبوب، وكذلك فان عملية التحوط الغذائي تتطلب أيضا تخزين كميات كافية من مواد غذائية أساسية اخرى مثل الزيوت.
(3) بسبب الموقع الجغرافي للاقليم ومرور ظروفه المناخية بشتاء بارد وقارص وقاس فان حاجة حالة الاحتياط اللازم لمجابهة ظروف المرحلة تتطلب تخزين مقدار كاف من وقود المنازل لكل الاسر على الاقل في موسم البرد، ولكن ايضا هذا الاحتياط لا وجود له في تفكير سلطة الاقليم.
(4) ضمان حماية حياة المواطنين واستمرار تأمين القطاع الحيوي الهام الصحة، وهذه الحاجة تتطلب توفير وتخزين كامل لكافة المستلزمات والاحتياجات من الادوية والعقاقير والمواد الطبية والصحية لفترة لا تقل عن ستة أشهر، ولكن هذا الجانب الحيوي أيضا غائب عن تفكير السلطة.
(5) الحفاظ على استمرارية قطاعي التربية والتعليم بالعمل للمحافظة على ادامة دراسة التلاميذ والطلاب وفق البرنامج المعتاد، وهذا يتطلب توفير وتخزين وتوفير احتياطات من كافة المواد والاحتياجات والمستلزمات التربوية والتعليمية الكافية، ولكن هذا الجانب أيضا لم يخطر ببال السلطة.
(6) عدم أخذ التهديدات الصادرة عن الاستفتاء الكردي بجدية ومسؤولية كاملة خاصة من قبل دولة مجاورة، والحاجة تتطلب على الاقل الاحتساب لهذه المسألة واعداد خطط طواريء ميدانية مدروسة مهيئة للاحتمالات للتقليل من تلك التهديدات وامتصاصها بأقل ما يمكن في حالة اطلاقها.
(7) عدم أخذ الاحتياطات اللازمة في حال لجوء الدول المجاورة الى قطع المياه عن الانهر التي تمر بالاقليم، وهذا يتطلب التعامل الاقتصادي السليم مع المياه المخزونة في السدود والمسطحات المائية، ولا شك ان هذا الامر يعتبر من أهم المسائل الحياتية لعلاقتها مباشرة بحياة المواطنين.
(8) عدم الائتمان والثقة بالبرزاني وحزبه والحزب الحاكم الاخر، والتبدلات السياسية الحاصلة لا يبعث على الاطمئنان بدليل انقلاب الموقف من حركة التغيير والتراجع عنه بعد سنتين، وغياب وجود ضمانات محلية او عراقية او دولية بشأن الاستفتاء عقدت المسألة كثيرا، ومجهولية الرهان الذي يلعب عليه انتجت مخاوفا كثيرة، وحسب واقع المشهد المطروح لا يلمس بوجود بديل مضمون عند فشل العملية حتى ولو تم الجواب بنعم.
(9) تحديد موعدين لاجراء عمليتين للاستفتاء والانتخابات البرلمانية والرئاسية في الاقليم خلال ثلاثة اشهر ترسم شكوكا كبيرا على قدرة المفوضية المعنية لانجازهما، والضغوطات الجارية عليها لا تقرأ منها الا اجراء استفتاء صوري وانتخابات صورية غير نزيهة لنوايا ودوافع شخصية وحزبية لصالح الرئيس المنتهي ولايته ولصالح الحزب الحاكم.
(10) الاستخفاف والاحتقار بالعراق وبالعراقيين والمعارضين الكرد خاصة من قبل الوجوه الاعلامية والسياسية المروجة للاستفتاء والمحسوبة على البرزاني، ولا يعلمون ان سياستهم الرعناء ستخلق اعداءا جدديدة للكرد، فطروحات هؤلاء تجاوزت الحدود وستؤثر بسلبية كبيرة على سمعة الانسان الكردي الذي يتمتع بصفات حسنة وخصال حميدة واحترام وايمان بالقيم الانسانية.
باختصار هذه مجموعة من الحقائق المرة والبعيدة بتعمد عن تفكير البرزاني وكبار الساسة والحكومة والسلطة، وكل ما يقال ويطرح من نقاش او تسويق وتهليل لمبادرة الاستفتاء مجرد كلام من زرق ورق لا قيمة له لان العملية نفسها مبنية على أرضية هشة خاوية لا أساس لها ولا دعائم، والاستعدادات الآنية والمقبلة غائبة والتحضيرات العاجلة والآجلة مفقودة والتحوطات والاحتياطات والبدائل لاوجود لها بالتمام، وكل ما يساق جهل في جهل، وتشويه في تشويه، وما يطرح اعلاميا وسياسيا بعيد عن المنطق والعقل والتفكير السليم، وهذا في حقيقة الأمر اعتداء صارخ على العقل الكردي لان من غير المعقول ان ينظر له بهذه السذاجة الماكرة وبهذا الاستخفاف لسلامة الفكر والتأمل والتحليل والتقييم والاستنتاج.
والغريب ان تلجأ السلطة وأتباعها الى هذا الاسلوب البعيد عن المنظور الطبيعي للحياة، والرافض للأسس المنطقية للمجتمع وللنظام السياسي في اي بلد، وكما أكدنا ما نجده من تسويق هو طرح للجهل ورفض للاخر وللمنطق وللعقل، وما هو الا عودة لتقاليد القبلية المتخلفة، وعودة للجاهلية والدكتاتورية الغاصبة التي تميت العقول في رؤوس اصحابها وتجعلها كائنات مسخة لا نبض للتفكير والمنطق والعقل السليم فيها، لهذا نقول ان طريقة واسلوب العمل بحق الاستفتاء والاستقلال بالطريقة الساذجة الجارية اعتداء على “الكوردايتية” واعتداء صارخ على المنظومة الحيوية للعقل الكردي، واستخفاف واستهجان بالعقول الكردستانية التي انبثقت بعد الانتفاضة والتي تروت بالحرية والكرامة والقيم الانسانية والديمقراطية، ولهذا حان الكف فورا عن هذه الطريقة السوقية الضاربة لكل مناهج المنطق ومباهج العقل، واللبيب تكفيه الاشارة، والله من وراء االقصد.