13 يونيو، 2025 11:30 م

مشروع الاجتماع الديني الشيعي للدكتور علي المؤمن في نسخته الثانية

مشروع الاجتماع الديني الشيعي للدكتور علي المؤمن في نسخته الثانية

يُعدّ كتاب »الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع« للمفكر الإسلامي العراقي الدكتور علي المؤمن، المحاولة الرائدة في تأسيس فرع معرفي جديد هو علم الاجتماع الديني الشيعي، الذي يتناول البُنى والممارسات والمؤسسات الاجتماعية التي أنتجها المذهب الشيعي الإمامي الاثنا عشري، في سياق علاقته بالمجتمع والدولة، والتاريخ والحداثة، والتحديات الداخلية والخارجية. وموضوع هذا العلم هو النظام الاجتماعي الديني الشيعي، كما أسماه الدكتور علي المؤمن، والذي يقف على دعامات أساسية، أهمها: العقائدية، والعالمية، والتنظيم الهرمي، والقيادة المركزية، وتداخل العبادات والمعاملات بالسياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد.
ويمثّل الكتاب محاولة تأصيلية وتحليلية تتجاوز حدود التوصيف السوسيولوجي إلى مستوى التنظير لمجتمع ديني متميّز في سماته وبنيته ونظامه الرمزي والعملي، ضمن حاضنته المذهبية الشيعية التي طالما كانت مهمَّشة في الدراسات السوسيولوجية الإسلامية والعربية. ويتميّز الكتاب في طبعته الثانية (2025) بتوسيع وتطوير كبيرين عن الطبعة الأولى (2021)، وهو ما يعكس تطوّر المشروع المعرفي التأسيسي للمؤلف.
مضامين الكتاب وأفكاره
يقوم مشروع الدكتور علي المؤمن في التأسيس لعلم اجتماع ديني شيعي على أطروحة رئيسة مفادها أن الاجتماع الديني الشيعي ليس ظاهرة دينية بحتة، بل هو نظام اجتماعي ديني متكامل ومتغيّر، تشكَّل عبر التاريخ بفعل العقيدة، والفقه، والسياسة، والتقليد الديني، والظرف التاريخي، وتحوَّل إلى نظام مؤسساتي له آلياته وأدواره المجتمعية. وبالتالي؛ فإن علم الاجتماع الديني التقليدي الذي نشأ في الغرب، لا يستطيع استيعاب هذه الظاهرة، وهو ما يضطر المتخصص في الشأن الاجتماعي الديني الشيعي إلى البحث عن قواعد علمية أكثر استيعاباً وسعة وشمولية، تتناسب مع الطبيعة المتفردة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي.
ويذهب الدكتور علي المؤمن إلى أنّ هناك ثوابت تأسيسية بُني عليها الاجتماع الديني الشيعي وجوده، يقف في مقدمتها مبدأ (نيابة الفقيه) عن الإمام المعصوم، وهو ما عُرف فيما بعد بالمرجعية الدينية وولاية الفقيه، وأعقب ذلك مبدأ الرجوع الشامل إلى الفقيه، والذي عُرف بمبدأ (التقليد). لكن هذه الثوابت لم تمنع النظام الاجتماعي الديني الشيعي من التفاعل مع الواقع، ما أدّى إلى تبدلات بنيوية ووظيفية أثّرت في شكل العلاقة بين الدين والمجتمع، وبين الدين والسياسة، وبين المرجعية الدينية والجمهور.
ويتوزع كتاب »الاجتماع الديني الشيعي «في طبعته الثانية على تسعة فصول، عالج كلٌّ منها زاوية مركزية في الاجتماع الديني الشيعي، من التأسيس المفاهيمي، إلى البنية التنظيمية، إلى الحراك الاجتماعي والسياسي والديني. وأهم هذه الموضوعات:
1- منهج دراسة الاجتماع الديني الشيعي: يتناول الإطار المنهجي للبحث، والتأسيس المعرفي لعلم الاجتماع الديني الشيعي، بوصفه علماً لموضوعٍ متفرد من موضوعات علم الاجتماع الديني، بعناصره وظواهره، وتحديد المفاهيم التأسيسية لهذا الحقل العلمي الجديد، ومقارنتها بمفاهيم علم الاجتماع الديني الغربي، مع إبراز خصوصية النسق الشيعي.
2- النظام الاجتماعي الديني الشيعي: مفهومه ومكوناته وعناصر تشكيله، وهو موضوع علم الاجتماع الديني الشيعي.
3- المسار التاريخي للنظام الاجتماعي الديني الشيعي: تناول مراحل تأسيس النظام، منذ عصر المؤسس الإمام علي، وهو العصر الأول، ثم عصر الإمام الصادق، وعصر الشيخ عثمان العمري، وعصر الشيخ أبي جعفر الطوسي، وعصر السيد إسماعيل الصفوي، وأخيراً العصر السادس الذي يعيشه الشيعة اليوم، وهو عصر المجدد النهضوي الإمام الخميني.
4- البنية العقيدية والفقهية للاجتماع الديني الشيعي، وخاصة القاعدتين التشريعيتين الأساسيتين اللتين تأسس عليهما النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، وهما: قاعدة (نيابة الإمام)، وقاعدة (ولاية الفقيه)، واللتان شكّلتا بنية السلطة الدينية الشيعية العليا الشاملة.
5- رؤية النجف وقم لمبدأ ولاية الفقيه: لا سيما ما يتعلق بموضوع الولاية على الحكم، بوصفه تطوراً بنيوياً للمبدأ، والمواقف الفقهية للحوزتين منه، منذ بدايات نشوئهما، وصولاً إلى آراء الميرزا النائيني، والإمام الخميني، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد علي السيستاني.
6- المرجعية الدينية: وهي قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، إذ تمّ عرض ثوابت المرجعية الدينية وقواعدها التشريعية النقلية والعقلية، وموقع المرجع المتصدّي، وإشكالية تعدد مراجع التقليد، وتطور المفاهيم والمصطلحات التدبيرية العقلائية في مجال التأصيل لمؤسسة المرجعية، والخط العام للمرجعية العليا، والخطوط المرجعية الخاصة، ومعايير الالتزام بالخط العام للمرجعية العليا، وخلاف المنهجيات الإصلاحية والمحافظة والثورية في الحوزة العلمية، ودور جماعات الضغط والمصالح والمال في اختيار المرجع الأعلى، ومفهوم الحواشي في مؤسسة المرجعية.
7- واقع المرجعية الدينية: توصيف وتحليل واقع مرجعيتي السيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني، وهما أكبر مرجعيتين قائمتين في الوقت الحاضر، وكذلك مرجعيات الصفّين الأول والثاني في النجف وقم.
8- الحوزة العلمية: وهي المؤسسة الدينية المركزية العالمية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وقد تم توصيف هيكلها التنظيمي، وطبيعة الدراسة، وموقع المجتهدين والفضلاء ويحلل طبيعة علاقتها بالمجتمع، ثم واقع الحوزتين العلميتين في النجف وقم، ومرجعياتهما، والمقارنة بينهما، والبحث في نقاط الخلاف والاشتراك.
9- إعادة مأسسة منظومة المرجعية ومؤسستها الدينية: من أهم موضوعاتها استحداث مجلس أهل الخبرة لترشيح مراجع الدين واختيار المرجع الأعلى من بينهم، وترشيد شرط الأعلمية، وإضافة شروط جديدة للمرجعية، كالكفاءة والمقبولية العامة، وتأثير سيكولوجية الفقيه على صناعة الفتوى وإدارة الشأن العام.
10- الخطاب الديني الشيعي وتحولاته :يعرض لتطور الخطاب الديني بين التقليدية والتجديد، وتأثيره في الوعي الجمعي، وما يرافقه من تحولات سوسيولوجية معرفية وسياسية وثقافية وإعلامية.
11- عناصر قوة الاجتماع الديني الشيعي :كشف عن اثني عشر عنصراً واقعياً تُساهم بصورة تكاملية في حماية النظام الاجتماعي الديني الشيعي، فضلاً عن كونها جزءاً من هيكل النظام، وهي: العقيدة المهدوية، المرجعية الدينية، ولاية الفقيه، إيران، عالمية النظام الشيعي، تماسك النظام الشيعي، الجماعات السياسية، جماعات المقاومة، المراقد والمزارات، شعائر عزاء الإمام الحسين، الاستقلال المالي، المشاركات الحكومية. وهي عناصر القوة التي يعمل الخصوم على تشويهها وضربها وتدميرها.
12- الطقوس الاجتماعية المذهبية: يفكك المنظومة الشعائرية والطقسية الاجتماعية، بوصفها حراكات اجتماعية مذهبية شعبية ضخمة، ويُفسر كيفية تكوّن البُنى الرمزية والاجتماعية لدى المجتمع الشيعي من خلال المناسبات الدينية الكبرى، كذكريات عاشوراء والأربعين واستشهاد الإمام علي.
13- الحكومات والحركات الاجتماعية الدينية السياسية والجهادية :يبحث في الحركات السياسية والجهادية والاجتماعية التي انطلقت من رحم المؤسسة الدينية، مثل حزب الدعوة، وحركة أمل، وحزب الجمهورية الإسلامية، وحرس الثورة، وحزب الله، والمجلس الأعلى، وحركة تطبيق الفقه الجعفري، وحزب الوحدة، ومنظمة بدر، والحزب الإسلامي، والتيار الصدري، والحشد الشعبي، وتأثيرها في الاجتماع الشيعي، وكذلك الحكومات الشيعية في إيران، والمشاركات في حكومات العراق ولبنان واليمن وسوريا وأذربيجان وأفغانستان.
14- إشكاليات الهوية الشيعية: تناول موضوع الهوية الشيعية، وعلاقتها بمعايير الانتماء المذهبي والقومي والوطني، وانعكاس ذلك على انتماء المرجع الديني وهويته الوطنية. كما تم بحث طبيعة الاجتماع الديني والثقافي النجفي، وانعكاس ذلك على مضمون الهوية الشيعية، كون النجف تمثل المركزية التقليدية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي.
15- موضوع التمايز والتكامل بين المجتمعات الشيعية: من جهة واندماجها في مجتمع الدولة من جهة أُخرى. وقد اختار ستة نماذج في هذا المجال، هي: المجتمعات الشيعية الخليجية، والعراقية، والإيرانية، واللبنانية، والأذربيجانية، والهندية، والتي يُمثّل تمايزها تهديدات وفرصاً في آنٍ واحد.
16- مستقبل قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي: بحث في منهج دراسة مستقبل النظام واستشرافه والتخطيط له، ومفهوم المرجعية الشيعية المطلقة، وأخذ نموذج المرجعيات الدينية التي ستخلف مرجعيتي السيد علي الحسيني السيستاني، والسيد علي الحسيني الخامنئي.
جهود المؤلف وأهميته الفكرية
يُعدّ الدكتور علي المؤمن من أبرز المفكرين المعاصرين في حقل الفكر الديني والسياسي الشيعي، وقد أسهم بعدد من المؤلفات والدراسات التي تجمع بين الرؤية الميدانية والتحليل الأكاديمي. وتتميّز كتاباته في هذا المجال بالجمع بين المنهج التحليلي والموقف النقدي البنّاء، ما جعله مرجعاً مهماً للباحثين في قضايا الاجتماع الديني والسياسي الشيعي. ومن خلال كتابه «الاجتماع الديني الشيعي»، وضع اللبنات الأساسية لـ:
1- علم الاجتماع الديني الشيعي كفرع مستقل.
2- النظرية الاجتماعية الشيعية بوصفها انعكاساً لنمط خاص في العلاقة بين الدين والمجتمع.
3- بناء مكتبة دراسات اجتماعية دينية شيعية يمكن أن ترفد الجامعات ومراكز البحوث.
ويمثل كتابه هذا أول محاولة عربية وإسلامية للتنظير لعلم الاجتماع الديني الشيعي بوصفه فرعاً معرفياً مستقلاً، على غرار علم الاجتماع الديني الغربي، ولكنه ينبثق من الخصوصية المذهبية والاجتماعية الشيعية. كما يمثل إضافةً نوعيةً للفكر الإسلامي الاجتماعي، ومحاولة تأسيسية رائدة تنقل الفكر الشيعي من التقليدية المعرفية إلى التنظير الاجتماعي الديني. وهو كتاب ضروري لفهم البنية الداخلية للمجتمع الشيعي، وتحولاته، وآفاق تطوره، فضلاً عن كونه دعوة لتأسيس علم جديد يشق طريقه في قلب العلوم الاجتماعية الإسلامية. ومن فرادة موضوعه أنه:
1- يعالج التجربة الشيعية الاجتماعية الدينية من الداخل، وليس من منظور استشراقي أو سني أو علماني.
2- يدمج بين أدوات التحليل السوسيولوجي، والتاريخي، والديني، والسياسي.
3- يوفّر إطاراً نظرياً يمكن البناء عليه في دراسات أكاديمية لاحقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ميثم حاتم، باحث وأكاديمي عراقي، وأستاذ الدراسات العليا في جامعة الأديان.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات