اواخر سبعينات القرن الماضي “طر” مشحوفي الهور للمرة الأولى في مهمة صحفية حيث كنت مازلت صحفيا شابا آنذاك. ومع انني ابن ريف اصلا والاهوار التي تجري اليوم الاستعدادات لادراجها ضمن التراث العالمي تنتمي الى عالم الريف فانني وسواي ممن قيض لهم زيارة الأهوار سواء كانوا ابناء مدن ام ارياف يجدون في الاهوار عالما مختلفأ في كل شئ يتداخل فيه الزمان بالمكان. ولعل هذه الميزة الفريدة هي التي تجعل الزائر لها يشعر ان لزيارته تلك طعما فريدا وذكرى لايمحوها الزمن مهما طال.
وبصرف النظر عن أي توصيف للاهوار وماتعرضت له فانها تركت اثارا واضحة على ماتختزنه تلك البيئة من طاقة وثروة معا تمثل توازنا طبيعيا بين الانسان والمكان وبالتالي فان المساعي المبذولة اليوم على صعيد ادراجها ضمن قائمة التراث العالمي من قبل اليونسكو تدخل في سياق المحافظة على هذا التوازن المطلوب المحافظة عليه بوصفه بات يمثل مشتركات انسانية بعد ان فشلت الدولة الوطنية في ايلاء هذه البيئة وما يمكن ان تمثله من ابعاد حضارية موغلة في الزمن الاهتمام الذي يتناسب مع اهميتها وخطورتها معا. فالاهتمام بالمواقع التراثية العالمية سواء كانت الاهوار او اريدو او اور لايدخل في نطاق عولمتها بقدر ماله صلة بالبعد الانساني لهذه المواقع وما تعنيه للذاكرة البشرية. العولمة تنتمي الى الحاضر عبر مشتركات يجد الانسان المعاصر انه ينتمي اليها وهو ما عبر عنه الكاتب الاميركي توماس فريدمان سواء في كتابه “العالم مسطح” أو “اللكسس وشجرة الزيتون” حيث ان السيارة الحديثة لا شجرة الزيتون القديمة هي التي تمثل العولمة كما ان تداول النقد العالمي في أي سوق من الاسواق حتى لو كان “بسطية” شكل من اشكال العولمة بالاضافة الى مطاعم “مكدونالد” للوجبات السريعة, بينما نقل المواقع والمدن التي تنتمي الى تراث موغل في القدم ومتجدد معا فانها بالقدر الذي تنتمي الى المكان او البيئة الخاصة بها فانها تمثل كل البشرية وبالتالي فان مهمة الحفاظ عليها لم تعم مهمة وطنية فقط بقدر ماهي مهمة يجب ان تضطلع بها المؤسسات الدولية المعنية بالحفاظ على ارث البشرية المشترك.الاهوار هي النموذج الامثل لاسباب متعددة منها إنها بيئة متكاملة طبيعية وحضارية من حيث التكامل الاحيائي والبيئي بالإضافة الى ما تختزنه من تراث ثقافي وفولكلوري شعبي موروث من أيام السومريين لايزال متداولا من حيث المفردات التي خضعت طوال قرون عديدة الى سلسلة ازاحات لغوية لكنها بقيت تحتفظ بأصلها دون مواربة مثل مفردة “طر” ومنها الاغنية المشهورة “مشحوفي طر الهور والفالة بيدي” اوحتى مفردة “طركاعة” التي يعود اصل استخدامها الى السومريين والتي يعود جذرها الى اللغة الارامية القديمة كما يقول علماء السومريات وهو “ط,ر, ق” ويعني يخفق اويخلط مثلما نقول في العامية “طرك البيض” او “طرك اللبن” . وحيث نقترب من شهر تموز وهو ذروة صيفنا وتظاهراتنا الكهربائية فان حلوله هذا العام سيقترن بموعد التصويت على ضم الاهوار الى لائحة التراث العالمي. وهو ما يعني ان هذا الصيف الوحيد الذي لم نضيع فيه .. اللبن.