23 ديسمبر، 2024 12:35 ص

مشاهد من مقامات الواصلين

مشاهد من مقامات الواصلين

مَشَاهِدٌ مِن مَقَامَاتِ الوَاصِلِيْن
احتار كثير من الفقهاء في الأزمنة المتقدمة في تعرضهم لبعض أقطاب التصوف الإسلامي وأئمته لاسيما الخراز شيخ الصوفية وفقيهها والإمام الجنيد خصوصا وأنهما الصوفيان اللذان لم ينلا هجوما منهم سوى كل احترام وتقدير ، بل وصفوهما علانية بأن منهجهما الصوفي كان يمثل المنهج الإسلامي المتوازن والمتكامل والمعتدل بغير إفراط أو تفريط ، ولعل أحد أسرار انبهار أهل السنة والجماعة وفقهاء العصر الذهبي للفقه الإسلامي بالإمام الجنيد طاووس الفقراء وحلية أهل التصوف على وجه التحديد والاختصاص أنه كشخص استطاع أن يجمع بين العلم والعمل ، وبين الدين والدنيا ، وأنه امتاز عن كثير من أهل عصره من المتصوفه بأن منهجه اقتصر على الالتزام بالقرآن الكريم والسنة النبوية العطرة فاستحق الإعجاب والإنصاف .
وما يجمع بين أبي سعيد الخراز والإمام الجنيد أن كليهما ولد ببغداد حاضرة الثقافة العربية الأصيلة ، بجانب معاصرة كل منهما للآخر ، بل هناك نقطة اتفاق واضحة بينهما وهي أنهما تتلمذا على يد نفس الشيوخ مثل الصوفي الاستثنائي بشر بن الحارث الحافي صاحب أجمع تعريف للتصوف بقوله ” صفاء القلب معناه عدم تكديره بالشهوات والرغبات وكل ما يشغل عن الله ” ، ومعروف الكرخي الذي قال ” التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق ” ، وسرى السقطي الذي أجمل تعريفاً مانعاً للتصوف بقوله ” التصوف اسم لثلاثة معانٍ وهو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ، ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب أو السنة ، ولا تحمله الكرامات على هتك أسرار محارم الله” ، وذي النون المصري الذي أوجز محبته لله بإجابته عن سؤال كيف أنت مع الله ؟ فأجاب : ” ما جفوته مذ عرفته ، فقيل له : ومتى عرفته ؟ ، قال : لما جعل اسمي مع عباده المتحابين ” ، وهذه التربة العلمية والدينية التي احتضنت كليهما يمكن توصيفها بأنها تربة ارتقاء التصوف الإسلامي وازدهاره ، ويكاد يجمع مؤرخو حركة التصوف بأن الفترة التي عاصرها الخراز والجنيد هي العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ؛ حيث انفتحت الثقافة الإسلامية على أبعاد وروافد ليست بمألوفة من العلوم والفكر والفنون وامتزجت الثقافتين العربية والأجنبية آنذاك لينتهي العصر بإكسير ثقافي متمايز ومتفرد أثرى الحياة العربية من ناحية وأتاح قدرا كبيرا من اتساع الرؤية لهؤلاء الأقطاب من أهل التصوف الإسلامي .
ولا يمكن عزل التصوف الإسلامي في هذه الفترة الخصبة ثقافيا عن تأثيرات الفلسفة التي بالتأكيد زادت من التجربة الروحية عمقا ذهنيا استثنائيا ، وأفردت مساحات للعرفانية ودلالات ما وراء المعرفة إلى مقامات الصوفية ، ومع ظهور أسماء لامعة لفلاسفة رواد كالكندي والفارابي وابن سينا، علاوة على الشهود الحضاري لكثير من العلوم آنذاك كعلم الكلام والظهور المتفرد لفرقة المعتزلة الكلامية التي ملأت الدنيا في وقتها ضجيجا وجدلاً ودخلت معارك فكرية طويلة ، وعلوم القرآن والحديث الشريف والفقه الذي أخذ بحق في التوسع والميل إلى الإطناب في السرد والتجريد وأحيانا التخييل أو ما عرف بفقه الحالات ،والنبوغ الشعري الذي لم يقبل بعرف التكرار أو التقليد على أيدي شعراء فحول كالبحتري وأبي تمام وأبي نواس ، كل ذلك ألقى بقليل من الظلل على الطروحات الصوفية التي تزامنت مع هذا المد الثقافي .
لكن التصوف في هذه المرحلة الفارقة من عمر الحضارة الإسلامية والعربية اختلف بالضرورة عن المرة التي تسبقه والتي تليه أيضاً لأسباب وعوامل متباينة حينا ومتصلة ومتحدة حينا آخر . هذا الاختلاف كان محصلته الحقيقية عمقاً في العرض والتحليل والرؤى ، وأضاف كثيرون بغير شك في عمق صوفية هذا العصر وروحانيته ، لكن امتاز التصوف في القرن الثالث الهجري بالنظرة الشاملة، وبالفعل فإن خير شاهد على عمق الرؤية الصوفية مقامات الإمام أبي سعيد الخراز والإمام الجنيد لاسيما مقام الواصلين وعلاماتهم ومشاهداتهم ومواهبهم والتي اعتاد العامة أن يطلقوا عليها لفظة الكرامات ، لكن كلمة المواهبة تتعدي تخوم اللفظة وحدودها لأنها تكشف عن حجم المكابدات النفسية والرياضات الروحية والطاعات التعبدية التي قام بها هؤلاء الأقطاب.وإن كان سلطان العارفين محي الدين بن عربي له في الكرامة رأيًا إذ يرى أن الكرامة الحقيقية هي الاستقامة على الجادة ، والمضي قدما إلى الأمام دون الالتفات إلى أي عارض يعترض الطريق . ويشير إلى ذلك بقوله : ” لا تطلب من الله في خلوتك سواه ، ولا تعلق الهمة بغيره ، ولو عرض عليك كل ما في الكون فخذه بأدب ولا تقف عنده ، وصمم على طلبك فإنه يبتليك ، ومهما وقفت مع شئ فاتك ، وإذا حصلته لم يفتك بشئ ” .
والوصل تجرد وتعفف ،وزيادة مطلقة في الاستئناس بالله تبارك وتعالى ،وهو هجرة مستدامة إلى الله سبلها العلم والعمل حتى يرتقي المتصوف من حال إلى حال عن طريق اعماله ومعارفه ، وهذا الوصل من عجبه لا يكون طمعاً في جنة أو خوفاً من نار ملتهبة وسعير وجحيم ، بل طوعاً في القرب ومعرفة لله في كماله فحسب ، لذا فحال الوصل دوماً لدى الخراز وغيرهما من أعلام التصوف يأتي مقروناً بالتأدب مع الله البارئ المصور المتعال . ويشير مؤرخو مراحل التصوف الإسلامي إلى أن المرحلة الثالثة من التصوف الإسلامي والتي يمثلها الخراز والجنيد استجاب فيها أتقياء الله من الصوفية لثورة الحب الإلهي وحل في قلوبهم حب الله عز وجل محل الخوف منه ، وأصبح الحب والوصل الباعث الأول في كل ما أتوا به من أعمال الطاعة والعبادة .والمحبة كما يقول الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي زهرة أهل التصوف وشيخ علوم الظاهر والمعاملات والإشارات: ” ميلك إلى الشئ بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ، ثم موافتك له سرا وجهراً ثم علمك بتقصيرك في محبته ” .أما حاتم الأصم وهو من الطبقة الأولى من الصوفية فيقول إن أصل الطاعة المحبة والمحب لا يستريح من ذكر المحبوب .
والوصل هو غاية قصوى تصل بالمتصوف إلى ذروة المقامات وهي المحبة ، فكما يقول الشيخ الذهبي أبو حامد الغزالي في كتابه الماتع ( إحياء علوم الدين ) : ” المحبة هي الغاية القصوى من المقامات فما بعد المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها ، وتابع من توابعها كالشوق والأنس والرضا وأخواتها ، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد” . والحقيقة الصوفية تشير إلى أن من أحب الله ، وأحبه الله ، فقد تمت ولايته بالحب ، والمحب على الحقيقة ، من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه ، ولا مشيئة له غير مشيئته ، على خلاف منطق الفقهاء ، حيث يرون أن حب الله لابد وأن يتمثل في الطاعة والاقتداء بالنبي المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) عملاً بقوله تبارك وتعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ، كما أنهم يقرون أنه لا يجوز وقوع الحب إلا بين متماثلين ، وطبقاً لهذا فلا مماثلة بين العبد وربه . أما الحارث المحاسبي فانفرد وحده بتمزيق مقام المحبة إلى أبواب وصنوف مثل العشق ، والشوق ، واللطف ، واستنارة القلب ، والأنس ، ولذة الخلوة ، ومشكلة المعاصرين التي ستظل أبدية هي فقر المصطلح ودلالته عندهم ، وهوس التصنيف الذي لا يصح في البدء ولا يليق في الختام بهم ، ليس لأنهم خارج حدود التصنيف ، لكن لأن التجربة نفسها تعد استثنائية غير متكررة .
واعتُبِرَ الذكر قرينا للوصل وهو ما يجري على اللسان ويشتمل المناجاة والدعاء والصلاة زإن كان المتصوف أكثر أدبا فحينما يمرض فلا يسأل الله الشفاء حياء وأدبا فيقول كيف أجعل لنفسي إرادة إلى جانب إرادة الله فأسأله ما لم يفعل وأنا الذي لا أعلم ما ينفعني مما يضرني .ويقول أبو علي الروذباري في الأدب مع الله : ” يصل العبد إلى ربه بأدبه وبطاعته إلى الجنة ” ، وسرى السقطي يقول في شأن المعنى : ” صليت ليلة من الليالي فمددت رجلي في المحراب فنوديت في سرِّي : أهكذا تجالس الملوك ؟ ، فقلت : وعزتك وجلالك لا مددت رجلي أبدا ” . أما إبراهيم بن الأعزب فله قدر بليغ في التأدب مع الله فيقول : ” من تأدب بأدب الصالحين صلح لبساط القربة ، ومن تأدب بآداب الأولياء صلح لبساط المحبة ، ومن تأدب بآداب الصديقين صلح لبساط المشاهدة ” . والذكر كأحد أدوات الوصل اعتبر في القرآن الكريم نوعاً عظيما من العبادة ، قال تعالى ( واذكروا الله كثيراً) ، كما ورد طلب جريان اسم الله العظيم على اللسان في قوله تعالى ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً ) وقوله ( واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً) . ومن أبرز أنواع الذكر في حال الوصل عند أقطاب الصوفية الحمد والثناء والتسبيح والتفكر والتدبر في قدرته وعظمته وآلائه ، ويستند كثير من الصوفية إلى قول الله تعالى في سورة العنكبوت ( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ) فيعتبرون أن الذكر أعلى منزلة من الصلاة المفروضة وهذا ما ذهب إليه سلطان العارفين محي الدين بن عربي ويزيد بقوله في حال الوصل بأن الذكر الحقيقي هو مجالسة بين العبد والحق وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر الله الذكر المطلوب منه ، فإنه تعالى جليس من ذكره ، والجليس مشهود للذاكر ، ومن لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر ، فإن ذكر الله سار في جميع العبد لا من ذكره بلسانه خاصة .
والذين هاجموا التصوف وأهله ومريديه لم يروا في الذكر كما ارتأى هؤلاء الأقطاب من حيث كونه مشكاة للوصل والقرب ، فالذكر بحال الوصل أداة إيجابية لغاية كبيرة وهي المحبة والقربى ، حيث يتجه انتباه ووعي الذاكر صوب الاتصال بالمذكور وتجتمع همته لتلازم عملية الذكر ، والذكر مقترن بالوصل هو الحضور التام مع الله تبارك وتعالى وهو ليس بترديد لساني آلي بغير انتباه أو إدراك شديد ، بل هو ذكر باللسان في معية حضور القلب وشهوده عليه ، والشبلي كان يروي في مجلسه أبياتا في حال الوصل يقول :
( ذكرتك لا أني نسيتك لمحة وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكدت بلا وجد أموت من الهوى وهام عليَّ القلب بالخفقان
قلما أراني الوجد أنك حاضري شهدتك موجوداً بكل مكان ) .
وكان الصوفي علي بن الموفق وهو أحد المشهورين بالنسك والتعبد وأحد السالكين مسلك أوليائهم من المتعبدين الذين تخرجوا على المتحققين وراضوا أنفسهم رياض العلماء المتقين مثل أيوب الجمال وأبي عبد الله الجلاء يقول في مناجاته ووصله : ” سيدي .. وعزتك لا أبرح عن بابك ولو ضرتني ولا أزول عن جنابك ولو أبعدتني ولا أسلو عن محبتك ولو عذبتني ، سيدي وإن كنت محجوبا عن ناظري فحبك في قلبي وخاطري ” .أما ابن عطاء الله السكندري بحر الحكم فيرى أن المحبة غاية الوصل هي أغصان تغرس في القلب فتثمر على قدر العقول وينظم في ذلك شعرا يقول :
( غرست لأهل الحب غصنا من الهوى ولم يك يدري ما الهوى أحد قبلي
فأورق أغصانا وأتبع صبوة وأعقب لي مرَّا من الثمر المحلي
وكل جميع العاشقين هواهم إذا نسبوه كان من ذلك الأصل )
ولقد لقب أبو سعيد الخراز بقمر الصوفية كونه في نظر كثير من أتباعه ومريديه وتلاميذه أنه أنار لهم طرائق الوصل وسبله ، وأبو سعيد الخراز كان مذكورا في كتب المتأخرين دومًا بالورع والمراقبة وحسن الرعاية والمجاهدة ، ويقول السلمي عنه بإنه إمام القوم في كل فن من علومهم ، له في مبادئ أمره عجائب وكرامات ، وهو أحسن القوم كلاما ، خلا الجنيد ، فإنه الإمام. والخراز في كتابه ( كتاب الصدق ) حاول أن يشرح مفهوم الصدق والإخلاص ، والتوفيق بين الخبرة الصوفية والشريعة ، ويرى أبو سعيد الخراز أن آخر مرحلة للممارسة الصوفية ما أسماه بعين الجمع ؛ حين يسقط من الشهود كل ما سوى الله الرحمن الرحيم ، وفي كتابه الموسوم بكتاب الصدق يشير إلى علامات الواصلين كإيثار الله على نفس العبد ، والورع والزهد والصبر والتوكل والخوف والرجاء والمراقبة والحياء والمحبة والشوق والأنس والصدق في المواطن والإخلاص فيها ، ويقول : ” إنما هي منازل نزلها العمال لله ، ثم ارتحلوا منها إلى غيرها ، حتى وصلوا إلى المنى من قرب سيدهم” .
ويزيد أبو سعيد الخراز في وصله ووجده عن علامات المحبين والواصلين في كتابه كصفاء القلب مع الله الخبير العليم البصير ، والتفرد بالله أي الانقطاع من كل شئ سوى الله وهو قول ذي النون المصري الذي رأى في الوحدة طلبا للإخلاص ، وأقر بأن علامة الحب لله هي أن تنزل نفسك منزلة السقيم وأن درجة المحبين رفيعة ، فقال : ” إن المحبين لله تعالى نظروا إلى نور جلال الله ، فصارت أبدانهم روحانية ، وعقولهم سماوية تسرح بين صفوف الملائكة بالعيان وتشاهد تلك الأمور باليقين ، فعبدوه بمبلغ استطاعتهم لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره ” .
وهو نفس المعنى الذي أراده أبو سعيد الخراز في حديثه عن علامات الواصلين وحقيقة الوصل ، إذ يقول إن الواصلين إلى الله عز وجل وأهل القرب منه ، هم الذين قد ذاقوا طعم محبة الله تعالى بالحقيقة وظفروا بحظهم من مليكهم ، ويحدد صفاتهم المتمثلة في الشوق والأنس والأخلاق الحميدة والصدق والتوكل والثقة والمحبة وما استوطنوه من البر والكرم. ويحدد الخراز أوائل الطريق إلى الله بقوله : ” إن أوائل الطريق إلى الله تعالى التوبة ، ثم ينتقل العبد من مقام التوبة إلى مقام الخوف ، ومن مقام الخوف إلى مقام الرجاء ، ومن مقام الرجاء إلى مقام الصالحين ، ومن مقام الصالحين إلى مقام المريدين ، ومن مقام المريدين إلى مقام المطيعين ، ومن مقام المطيعين إلى مقام المحبين ، ومن مقام المحبين إلى مقام المشتاقين ، ومن مقام المشتاقين إلى مقام الأولياء ، ومن مقام الأولياء إلى مقام المقربين ” .
وجاء في نور المحبة أن أحد المحبين سئل كيف وصلوا فاتصلوا ؟ فقال : طهَّروا الأخلاق ، ورضوا بيسير الأرزاق ، وهاموا من محبته في الآفاق ، وباعوا العاجل الفاني بالآجل الباقي ، جعلوا التقوى مهرا للوصول ، وقرعوا الباب في كل الفصول ، وأسرعوا في السباق ، حتى اتصلوا بالواحد الرزاق” .
ولم يكن بغريب حديث الإمام أبي القاسم الجنيد النهاوندي عن الوصل وهو الفقيه الذي أسس مذهبه على مراقبة الباطن وتصفية القلب وتزكية النفس ، والتخلق بالأخلاق الحميدة ، وفي ترجمته نرى أن ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة ففتح الله عليه من العلم النافع والعمل الصالح بأمور لم تحصل لغيره في زمانه. ولقد لقب الإمام الجنيد بألقاب متعددة منها سيد الطائفة ، وطاووس الفقراء ، وشيخ المشايخ ، وتاج العارفين ، ويقول عنه المستشرق جوزيبي سكاتولين في كتابه التجليات الروحية في الإسلام إن الجنيد تميز بأفكاره النافذة وأسلوبه الغامض وعباراته التي يصعب فهمها ومنها ما أورده بعبارته في مجمل الحديث عن الوصل ، يقول : ” اعلم أنك محجوب عنك بك ، وأنك لا تصل إليه بك ، ولكنك تصل إليه به ، لأنه لما أبدى إليك رؤية الاتصال به دعاك إلى طلب له فطلبته ، فكنت في رؤية الطلب برؤية الطلب والاجتهاد لاستدراك ما تريده بطلبك ، كنت محجوبًا ، حتى يرجع الافتقار إليه في الطلب ، فيكون ركنك وعمادك في الطلب بشدة الطلب وأداء حقوق ما انتخب لك من علم الطلب ” .
وأوسع شيخ الشيوخ العارف بالله أبو القاسم الجنيد حديثه في نعت القاصدين إلى الله وهو ما نختتم به حديثنا عن الوصل فيقول الإمام : ” اعلموا معاشر القاصدين إلى الله تعالى أن العبد كلما قصد إلى الله تعالى ومواصلته وقربه فأول ما يجب عليه أن ينطلق بالسير على مركب المنطلقين إليه ، ويبرز إلى محبوبه ويرتحل عن الكلية إليه بترك إرادة حظه من الدارين ” وختاماً لحديث الواصلين حكي أن ذا النون رأى رجلا يبكي في سجوده وهو يقول : اللهم ارزقني رزقا حلالا واسعا وزوجني من حور العين في الجنة ، فقال له ذو النون : يا مسكين في الدارين تبكي ، تبكي في الدنيا للخبز وفي الآخرة تبكي على الحور العين ، فمتى تتفرغ لمولاك .
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية ( م )
كلية التربية ـ جامعة المنيا .