23 ديسمبر، 2024 1:32 ص

مسيحيّو العراق والإنتخابات القادمة

مسيحيّو العراق والإنتخابات القادمة

– تمهيد
لم يعهد المسيحيون الشرقيون السلطة، ولم تعطى لهم يوماً ما، كما لم يمنحوا الفرصة لممارستها أبداً في كل الأنظمة العربية، ولم يعطى لهم حق المشاركة السياسية كاملا بل منقوصاً في ظل الأنظمة المتعاقبة. وهي حالة عززَّتها المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية على حد سواء. فقد ظلَّت الكنيسة الشرقية توجه أتباعها ومؤمنيها منذ أيام ظهور المسيح وحتى يومنا هذا بالإبتعاد عن السلطة السياسية إقتداءً بالمسيح، وإستناداً إلى تفسير مجحف لقوله (أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ)، وهي عبارة قيلت رداً على سؤال بصدد دفع الجزية لقيصر “أيجوز أن تعطى الجزية لقيصر أم لا؟”، وليس المشاركة السياسية، وهذا ما قاد إلى غياب المشاركة السياسية المسيحية الشرقية في السلطة طيلة الفي عام. بينما دخلت الكنيسة في الغرب السلطة من أوسع أبوابها بعد ثلاثة قرون عندما أصدر الإمبراطور قسطنطين مرسوم ميلانو عام 312م الذي سمح للدين المسيحي بالممارسة والإنتشار في الإمبراطورية، فغدا لاحقاً دين الدولة الرسمي. وبظهور الإسلام، منعت المؤسسة الدينية الإسلامية أية مشاركة فاعلة لغير المسلمين، وما زالت تردد أحكاماً وفتاوى دينية ترجع إلى ما قبل 1439 عاماً، حول عدم جواز ولاية غير المسلم على المسلم، بل بعض من الفقهاء المحدثين والمراجع الدينية من أجاز ذلك أيضاً. والواقع، أن هذا كان شرطاً مقبولاً في دولة الخلافة لا الدولة المدنية الحديثة. ففي الحالة الأولى كانت وظيفة حُكَّام المسلمين الرئيسة هي إقامة شرع الله وإعلاءُ كلمته، وسياسة الدُّنيا بالدِّين، وحِفظ حدود الله ودينه وحقوق عبادِه، فالخلافة نيابةٌ عن النُّبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدُّنيا به، وكذلك الإمامة في المذهب الشيعي كما في إيران الجمهورية الإسلامية. وكان من البديهي ألا يكون (الكافر) ولياً على المؤمنين. ولكن حكم الخلافة قد إنتهى رسمياً عام 1924. أما في الحالة الثانية فإن المواطنة وخدمة مصالح الدولة العليا وحفظ حقوق المواطنين هي أساس الترشح والإنتخاب وإدارة الحكم. ومن البديهي أن يختلف المواطنون في عقائدهم ومذاهبهم وحتى قومياتهم في ظل الدولة الحديثة، ومن الطبيعي أن يترشح المسيحي واليزيدي والصابئي واليهودي وغيرهم، كما ترشح الكردي إلى جانب العربي، والشيعي إلى جانب السُنِّي، بعد أن كان مستحيلاً.

ودون الخوض في تاريخ بعض المساهمات المسيحية في السلطة في العراق، لا سيما وأن الكثير منها معروف، من خلال أسماء متداولة مثل مشاركة البطريرك يوسف غنيمة في مجلس الأعيان الملكي، ومشاركة طارق عزيز في مجلس قيادة الثورة، إلى جانب إنضواء عدد كبير منهم ضمن الأحزاب القائمة على الساحة مثل الحزب الشيوعي والأحزاب الكردية أو العربية وحتى الإسلامية مؤخراً.

وضع مسيحيي العراق بعد 2003
كانت قواعد اللعبة السياسية الجديدة التي حددها التحالف الدولي الذي أسقط نظام صدام حسين للمجموعات السياسية التي سميت إجحافاً بالمعارضة، والتي كان للكثير منها صلات بالنظام السابق سراً وعلناً، والتي كانت تفتقد للشعبية الجماهيرية والمنهاج السياسي، بأن الفسحة الوحيد الممنوحة لها تتمثل في (الكسب غير المشروع) فوجدتها فرصة للإثراء وإستغلال النفوذ بشكل أهوج وإن إقتضى ذلك الإضرار بالمصالح العليا للبلاد، في ظل غياب سيادة القانون.

وكما خَلصنَا في دراسة سابقة منشورة بعنوان (من يمثِّل مسيحيي العراق؟) إلى أنه يمكن القول إجمالا، إن المسيحي العراقي لم يمارس أي دور سياسي في ظِل الدولة الإسلامية إلاّ بتأثير غربي، وفي مرتين هما عشية الاحتلال البريطاني عام 1917، وعشية الاحتلال الأمريكي عام 2017.

وبسقوط النظام السابق في بغداد عام 2003، ظَنَّ المسيحيون أن الطريق قد إنفتح أمامهم ثانية للمشاركة في السلطة، في حين أن الولايات المتحدة كان لها مجموعاتها الخاصة والتي نشأت أصلا في الخارج وكان لها إمتداداتها الدولية وعلى الرغم من أن فكرتها قد نشأت في الداخل إلا إنها زرعت في رحم أجنبي إبان الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988 نظراً لتعذر الرحم الوطني آنذاك.

دخل المسيحيون العراقيون العملية السياسية بأربعة أصناف رئيسية، وصنف خامس يروم دخول الانتخابات الحالية، وهي: –
أحزاب ذات إمتدادات دولية، مثل الحركة الديمقراطية الأشورية التي نمت في رحم أجنبي، وإن إدعى أنصارها إنها نشأت عام 1979 في العراق، إلا أن نموها كان في إيران على غرار الأحزاب الإسلامية الشيعية والكردية. لذا فلم تجد صعوبة في التآلف مع نظيراتها الكردية والشيعية.
أحزاب منضوية تحت سيطرة أحزاب محلية ذات إمتدادات دولية. فظهروا بمظهر المتعاقد الثانوي أو وكيل الوكيل. مثل حزب الاتحاد الديمقراطي الكلداني، الذي تأسس عام2000، أمينه العام أبلحد أفرام ساوا. ثم لحقته أحزاب أخرى عديدة يمكن الرجوع اليها في دراستنا السابقة المشار إليها في أعلاه.
شخصيات سياسية دخلت العملية السياسية وهي ضمن كوادر أحزاب أخرى، مثل الحزب الشيوعي الذي دعم بعض المرشحين المسيحيين للوصول للبرلمان مستفيدين من قاعدة الكوتا الانتخابية الممنوحة للأقليات. ومن هؤلاء وجدان ميخائيل وزيرة حقوق الإنسان عن حركة الوفاق الوطني لأياد علاوي، وفارس ججو وزير العلوم والتكنولوجيا عن الحزب الشيوعي، وجوزيف صليوا النائب عن ذات الحزب، وآخرون غيرهم. وقد إستغلت هذه الأحزاب عدم وجود أحزاب مسيحية محددة، فزجت بعناصرها في الانتخابات مستفيدة من نظام (الكوتا) الإنتخابي في ضمان مرشح لها بأقل الأصوات، بينما هو في الواقع لا يمثل المسيحيين بشكل عام. والأسماء كثيرة لا حاجة لذكرها.
رجال الدين من المؤسسة الدينية المسيحية، التي إنطلقت إسوة بالمؤسسة الدينية الشيعية، والسنية في وقت لاحق. وكان في مقدمتها الكنيسة الكلدانية، بينما إرتأت بقية الكنائس النأي عن نفسها في هذا المعترك الخطر، مسترشدة بنكباتها السابقة. ومعتمدة على نشاط أحزابها في هذا المجال.
وأخيراً، ظهر فصيل مسيحي جديد منضوٍ تحت راية المؤسسة الشيعية وفصائل الحشد الشعبي، مثل كتائب “بابليون” الجناح العسكري للحركة المسيحية في العراق التي يقودها الشيخ ريان الكلداني. وربما سيلحقه آخرون.
وجميعهم يرون أنفسهم ممثلين للمسيحين، وكل حزب يرى غيره لا يمثل المسيحيين، كما أن الكنيسة الكلدانية وعلى لسان بطريركها ساكو إعتبرت كل من ريان الكلداني وجوزيف صليوا لا يمثلون المسيحيين. في الوقت الذي يرى فيه غالبية المسيحيين أن أحد منهم لا يمثلهم.

وبالنسبة للمسيحيين كانت الحركة الأشورية هي أول تنظيم سياسي ذو إرتباطات دولية خارجية وما زال حتى يومنا هذا، ومقره في بغداد هو بناية سابقة لقيادة الجيش الشعبي في منطقة زيونة. وكان لهذا الحزب مرشحيه في كل مرة، بينما تكرر إسم يونادم كنا طيلة 15 سنة الماضية ومنذ مجلس الحكم، إضافة إلى مشاركته في حكومة أقليم كردستان وزيرا للإسكان منذ عام 1992، إلى جانب بقاءه سكرتيرا للحركة منذ أوائل الثمانينات من القرن الماضي، في رغبة شبقة للتمسك بالسلطة طيلة هذه الفترة (35 سنة تقريباً) لا تختلف عن رغبة صدام حسين كثيراً.

الدور السياسي للمؤسسة الدينية المسيحية
بسقوط النظام السابق، إنقلت عقال رجال الدين قبل السياسيين. ومن المستغرب أن نرى رجال الدين المسيحيين يتسابقون إلى السلطة إسوة بأقرانهم المسلمين. ومع ذلك فقد أستُبعد النائب البطريركي المطران (البطريرك لاحقاً) عمانوئيل دّلي من المشاركة في مجلس الحكم عام 2004 بأمر من الحاكم الأمريكي بريمر. في حين فاز المطران لويس ساكو بمقعد في مجلس محافظة نينوى. وبعد تنامي الإنتقادات وتزايدها، أتخذ التأثير السياسي لرجل الدين المسيحي من خلال علاقته بالمرشح وتأييده له وتزكيته لدى المراجع السياسية، وبخلاف ذلك فلن ينال البركة المطلوبة لا بل قد يتعرض لهجمة رجل الدين حتى في حالة فوزه، مهما بلغت درجة إستقلاليته. أما البطريرك الأشوري فكان موقفه ثابتاً ومغايراً، حيث صرح في11 – 3 – 2017 قائلاً: (إن كنيستنا لا تتدخل إطلاقا في المسائل السياسية والقومية فهناك أحزاب سياسية ومنظمات قومية هي المعنية بهذه المسائل أما أنا كإنسان منتمي لهذه الأمة العظيمة يهمني جداً مسألة نجاح هذه الأحزاب والمنظمات في حصول أبناء الأمة على حقوقها وحرياتها في ارض الآباء والأجداد وفي تحقيق أهدافها وخططها لأن نجاحهم هو إنجاز وفائدة للأمة وإخفاقهم لا سامح الله خسارة لها فدوري كبطريرك يقتصر على الصلاة وتفسير الإنجيل والدعاء لهم للنجاح في مهمتهم وتحقيق المصالح القومية العليا للامة).” ولم يمنع ذلك بعض رجال الدين من المطارنة الأشوريين من إبداء الدعم والتأييد لمرشح معين.
وتدخل البطريركية الكلدانية في الشأن السياسي أمر يصعب إخفاؤه مهما حاول الكثيرين، لاسيَّما بعد تبوأ المطران لويس ساكو منصب البطريركية منذ عام 2013، وهو من الطامحين للعب دور سياسي كبير. وكثيراً ما أنتقد عليه، خاصة وأن الكنيسة الكلدانية وطيلة تاريخها الطويل منذ منتصف القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين قد إنتهجت سياسة واقعية قائمة على الحياد والنأي عن النفس من دخول هذا المعترك، فجنَّبت أتباعها العديد من النكبات طيلة الفترة الماضية. إلاّ إنها تلقت مؤخراً إنتكاسة كبيرة بإقتلاعها من أكبر معاقلها التاريخية في مدينة الموصل وضواحيها عام 2014 بعد سيطرة داعش على المدينة.
ويطمح البطريرك ساكو إلى لعب دور مماثل للمرجع الشيعي السيستاني، وهذا ما صرح به علناً في تصريح صادر عنه بتاريخ 16/1/2018 قائلا: “البطريرك لا يقدم نفسه بديلا للأحزاب السياسية ولا للنواب. لكن لو نظرنا إلى الساحة السياسية العراقية لوجدنا ان للشيعة مرجعية سياسية وللسنة مرجعية سياسية كذلك للأكراد، وللتركمان جبهة وللشبك ولليزيديين، أما بالنسبة إلى المسيحيين فهناك تبعثر وتشتت.”. ويبدو أن البطريرك يريد أن يلعب دوراً سياسياً إلى جانب دوره الديني، دون أن يكون بديلاً للأحزاب السياسية والنواب. ولا مجال هنا للخوض في التعاليم المسيحية الكاثوليكية بهذا الصدد.
والدور السياسي للبطريرك الكلداني ساكو، جلِّي وواضح، من خلال تقريب جماعات وأشخاص وإستبعاد غيرهم، وما لقاءاته العديدة بالسياسيين والمرشحين سوى بقصد الدعم والتأييد والتأثير السياسي، وليس بقصد طلب الغفران بطبيعة الحال.

أحزاب مسيحية بعد عام 2003
وشيئاً فشيئاً ظهرت أحزاب جديدة، ونظراً لإفتقارها للسند الدولي، فإنها إضطرت للإستعاضة بالسند المحلي، فظهرت أحزاب موالية لأحزاب عراقية أخرى. فنشأ أول حزب كلداني بعد عام 2000 قاده أبلحد أفرام تابع للحزب الديمقراطي الكردستاني، ثم لحقتة قائمة من الأحزاب الجديدة مثل المجلس الشعبي الكلداني-السرياني-الأشوري تأسس عام2005، لأمينه العام شمزدين كوركيس زيا.

وفي عام 2005 تزايد عدد الأحزاب المسيحية المنضوية تحت سلطة أحزاب أخرى وعلى رأسها الحزب الديمقراطي الكردستاني بعد تكليف أحد المسيحيين الأكراد الذي شغل منصب وزير المالية في إقليم كردستان العراق، بتمويل الجماعات الجديدة، فظهرت أحزاب هزيلة مستخدمة أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، مثل (المجلس الشعبي الكلداني -السرياني-الأشوري، والمنبر الديمقراطي الكلداني، وسورايا، وغيرها) إضافة إلى التسميات التاريخية والجغرافية مثل (بين النهرين، والرافدين، والوركاء وحمورابي، وغيرها) إلا إنها ظلت أحزاباً مقزّمة نظراً لإفتقارها للقاعدة الجماهيرية وللقيادة الحقة، وللمنهاج السياسي، وإعتمادها على تمويل الأحزاب الأكبر منها، وكل إنجازاتها كانت ضمان وصول رئيس الحزب لأحد المناصب الوزارية أو البرلمانية أو المحلية للتمتع بالامتيازات المالية المنصب.

أما على الصعيد الشخصي، فقد إنضم عدد من المسيحيين إلى الأحزاب السياسية المختلفة ومنذ زمن بعيد، وكان في مقدمة هذه الأحزاب الحزب الشيوعي العراقي، لا سيما وأن مؤسس الحزب هو المسيحي يوسف سلمان يوسف (فهد)، ومن بين مرشحيهم المسيحيين كان وزير العلوم فارس ججو الذي أقيل بعد أن ألغيت هذه الوزارة ودمجت مع وزارة أخرى، واليوم يمثل المسيحيين الشيوعيين نائبهم جوزيف صليوا، وبظهور الحركة الكردية إنضم العديد منهم إليها مثل فوزي فرنسو حريري الذي عاش 16 سنة في لندن، ومثَّل الحزب الديمقراطي الكردستاني عند توليه منصب وزير الصناعة، كما إنظم أخرون غيرهم سابقاً إلى حزب البعث بطبيعة الحال.

الدخول إلى معترك السياسة
لم يدخل المسيحيون موحدين إلى ما سمّي زوراً وبهتاناً بالعملية السياسية. وكما شخصنّا هذه الحالة سابقاً بقولنا ” إن المشكلة الرئيسية تكمن في عدم قدرة هذه المجموعات على توحيد نفسها تحت أي مسمى كان. وهذا الأمر ذاته تعاني منه المجموعات السياسية المسيحية جميعها، فالكلدان والسريان في غالبيتهم، يجدون صعوبة في الانضمام إلى الحركة الآشورية، لان التسمية تعيق ذلك. كما تعذر قيام أحزاب سياسية مسيحية، لتعارضها مع التعاليم المسيحية السمحاء، ولتلافي أثارة أي صراع ديني غير متكافئ مع الأغلبية المسلمة”. ورغم كل الجهود المبذولة، والنقاش البيزنطي الذي وصل حد السفسطة بحثاً عن تسمية مقبولة، مازال صراع أنصارها يملأ صفحات الأنترنيت، إلا أنه أخيراً أصدرت المحكمة الإتحادية بيانا برقم 15 لسنة 2018 في 18/1/2018 بخصوص المقصود بمفهوم الكثافة السكانية بناءً على طلب مجلس محافظة كركوك، أشارت فيه إلى مسيحيي العراق بمصطلح “الناطقين باللغة السريانية”، وهو ذات المصطلح الذي إستخدمه قانون منح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية لعام 1972، وبموجبه ضربت عرض الحائط كل التسميات التي أوجدتها الجماعات المسيحية المختلفة طيلة قرن كامل.

وإزاء هذا الإنقسام والتشرذم إنفرط عقد مسيحيّو العراق. “واليوم، ينقسمون الى 14 طائفة دينية، وهناك 14 حزباً سياسياً مسيحياً، و7 فصائل مسيحية مسلحة، و37 صحيفة ومجلة، وقناتين تلفزيونيتين، وخمس إذاعات، وأكثر من 20 موقعاً ألكترونياً. في الوقت الذي تدّعي جميعها تمثيل مسيحيي العراق، بينما تزداد أمور المسيحيين العراقيين سوءا ويتناقص أعدادهم بإضطراد. فمَن يمّثل مَن؟ وما الذي تحقق لمسيحيي العراق؟”

ويمكن ملاحظة أن عدد الأحزاب المسيحية يتزايد عكسياً بإنخفاض أعداد المسيحيين في العراق. فكلما قَّل عدد المسيحيين زاد عدد أحزابهم وبالعكس. فكثرة الأحزاب السياسية المسيحية لم تعزز الوجود المسيحي في العراق، فقد إنخفضت أعداد المسيحيين في العراق خلال العقد الأخير، فبَعد أن كان عددهم 1,400,000 نسمة في عام 1987 إنخفض اليوم إلى أقل من 400,000 نسمة. صحيح أن سقوط الموصل بيد داعش عام 2014 كان سبباً في هجرة المسيحيين إلى الخارج، إلا أنه علينا أن ندرك حقيقة لا مراء فيها، وهي أن ظهور داعش كان نتيجة للسياسة الخاطئة والمنحرفة طيلة عقد كامل 2004-2014.

إختيارات مسيحية فاشلة
يمكن القول، دون تردد، أن مسيحيي العراق لم يتمكنوا من إختيار من يمثلهم سياسيا، منذ قيام دولة العراق الحديث عام 1921 وحتى يومنا هذا. فهذه المجموعات المسيحية أو الطوائف الدينية، أو الكنائس التاريخية تعاني من إنقساماتها المذهبية وعدم إتفاقها على من يمثلها سياسيا، على الرغم من إتفاقها الظاهري فيما بينها. كما إنها تفتقد للقوة التي توحدها بخلاف العرب الذين ظهر فيهم الإسلام كقوة موحدة لهم. وفي تاريخ الكنيسة الطويل فإن إتفاق الجماعات المسيحية وأتحادها كان يتم بإرادة الحاكم وقوة السلطة. وهم لا يختلفون في ذلك كثيراً عن أقرانهم المسلمين والأكراد وغيرهم، لأنهم نتاج بيئة واحدة. وكما قدم المالكي نسيبه وإبن عمه، فقد قدمت الأحزاب المسيحية أشقاءها وأبناءها وأبناء إخوتها وأخوالها وغيرهم. وحتى الأحزاب الأخرى قدمت مرشحين غير مؤهلين كما فعل الحزب الشيوعي العراقي الذي قدَّم مرشحه جوزيف صليوا للكوتا المسيحية، وقد أتضح مؤخراً عدم حصوله على شهادة البكلوريوس فتم حظره من المشاركة في الانتخابات القادمة.

وقد دخل المسيحيون العملية السياسية وفقاً لقواعدها المرسومة سلفاً من الطرف الدولي الأجنبي. وكان أساس هذه القواعد هو (الولاء قبل الذكاء، لترسيخ الغباء بدلاً من البناء). وكان هذا هو الأسلوب المتَّبع على صعيد الحكومة ككل. فعلى سبيل المثال، ومن بين 5 دبلوماسيين يحملون شهادة الدكتوراه في القانون و2 أخرين يحملون الماجستير في ذات الإختصاص، أوفدت وزارة الخارجية إحدى المشاركات في الدورة 25 للتأهيل الدبلوماسي عام 2007 وهي كردية تحمل الجنسية الأمريكية وكانت تعمل في غسل الصحون في أحد المطاعم بمدينة نيويورك، إلى إجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ونفس القواعد طبقتها الأحزاب المسيحية، فقد رشَح يونادم كنا سكرتير الحركة الأشورية إبن أخته سركون لازار صليوا لمنصب وزير البيئة عام 2010، ولكنه لم يستمر طويلا، بعد أن أصدرت محكمة جنايات النزاهة في العراق حكمًا أوليًا بالحبس الشديد لمدة عامين وغرامة 338 مليون دينار عراقي (نحو 300 ألف دولار) بحقه، لـ “ضلوعه بقضايا فساد” عام2015. ويمثل الحركة اليوم نائبهم في البرلمان عماد يوخنا ياقو الذي أعلن البرلمان مؤخراً إستبعاده من الترشح مجدداً نظراً لعدم حصوله على شهادة البكلوريوس بعد قضائه دورة برلمانية أمدها أربع سنوات ممثلاً لجميع العراقيين كما يدعي، ومتنعماً بالإمتيازات المالية الكبيرة في الوقت الذي لا يرى حتى معظم المسيحيين أنه ممثلهم.
لا بل أن الأحزاب كانت تنطلق من مصالحها الضيقة في إختيار ممثليها، وتشابهوا في هذا المجال مع بقية الأحزاب الإسلامية وغيرها. بل أن مصلحة الحزب الضيقة كانت هي الموجه الرئيسي لسياستها عل صعيد الدولة، وسأورد مثلاً على ذلك. ففي صيف عام 2009، رافقت وكيل وزارة الخارجية آنذاك السيد لبيد عباوي، وهو مسيحي مرشح عن الحزب الشيوعي، إلى مجلس النواب للدفاع عن وجهة نظر وزارة الخارجية في الإستدعاء الموجه لها لجنة العلاقات الخارجية، بإعتبار أن معظم المسائل المطروحة هي قانونية، وكنت أشغل آنذاك منصب مدير قسم المعاهدات في الدائرة القانونية للوزارة. وبعد مناقشة مطولة إستمرت لساعتين تقريبا، في مناقشات عقيمة مع الكثير من النواب الذين لا يفقهون أبجديات السياسة فما بلك بالقانون. ثم اعطى رئيس اللجنة همام حمودي المجال للنائب يونادم كنا لمدة 10 دقائق بناء على طلبه. بدأ كنَّا هجومه على وزارة الخارجية بقوله إنها لا تعطي حصة للمسيحيين من المناصب الدبلوماسية كالسفراء وغيرهم. فردّ عليه النائب أياد جمال الدين قائلا: ولكن لديكم سفير من حزبك في الفاتيكان وهو ألبرت يلدا؟ فقال كنَّا: وماذا في الفاتيكان غير الصوم والصلاة. متناسياً أن هذه الدولة الصغيرة ما زالت ترسم وتقود 70% من سياسة العالم حتى يومنا هذا. فسأله همام حمودي: حسناً، هل توافق على أخذها منكم وإعطاءكم سفارة غيرها؟ فردَّ بالإيجاب. وهكذا خسر المسيحيون سفارة الفاتيكان التي أعطيت لاحقاً للمجلس الأعلى فرشَّح عمار الحكيم خاله السيد حبيب الصدر لها. وأعطيت للحركة الأشورية (باسم المسيحيين) سفارة الفلبين وعيِّن لها المسيحي وديع بتّي. فسأل حمودي كنَّا ثانية، هل ليك شيء أخر؟ فقال إن وزارة الخارجية لا تُعيِّن المسيحيين إلاّ بصفة فراش أو چايچي. فأمتعض لبيد عباوي، إلا إنه كظم غيظه، فرديت على كنّا، بالعكس فهناك مسيحي مديرا لقسم المعاهدات في وزارة الخارجية، فهل قدمتم شخص ذو كفاءة وشهادة عليا وجرى تعيينه فراشاً أو جايجياً كما تدعي؟ فتساءل: من هو هذا المسيحي مدير المعاهدات؟ فقلت: أنا. فأردف قائلا: وهل انت مسيحي؟ فرددت عليه: إذا ما تصدق، يمكن أجاوبك بالسرياني؟ فتدخل بعض الأعضاء منهم أياد جمال الدين ونصار الربيعي وغيرهم الذين أسعدهم ردِّي قائلين: يلا إذ أنت مسيحي مضبوط، مو يكولك تريد أجاوبك بالمسيحي. فإنطلق كنّا كعادته متهماً بالقول: أكيد هذا بارتي. أي من الحزب الديمقراطي الكردستاني. فلم أتمالك نفسي فقلت له: والله أنت من البارتي بدليل أنت من جعلوك وزير للإسكان في حكومة كردستان عام 1992. فتفاجأ من معلوماتي عنه. وأنهى حمودي الجلسة داعياً الوزارة إلى إحضاري دوماً. فخرجنا جميعاً، فلحقني يونادم كنَّا ليعطيني بطاقته التعريفية للإتصال به، في تلميحة إلى أنه سيساعدني لاحقا. فقلت أنا لا أعمل إلا ضمن الدولة فلا تتعب نفسك، وسرنا أنا والوكيل لبيد الذي قال: هل سمعت ما قاله دون خجل من أن كل المسيحيين في الخارجية هم إما فراشين أو چايچية دون أن يراعي أعتباري كوكيل وزير من المسيحيين. ربما تعطي هذه الحادثة فكرة عن مستوى تفكير الأحزاب التي تَّدعي تمثيل المسيحين سياسيا.

واليوم يعكس المسيحيون العراقيون الصورة القاتمة في العراق، بل هم جزء من هذه الصورة، فقد تزايد عدد الأحزاب التي ستدخل المنافسة في الانتخابات القادمة التي يتوقع أن تجرى في 12 آيار 2018، إلى 204 حزباً مرشحة للزيادة، سيكون من بينها على الأقل 14 حزباً يعتقدون إنهم يمثلون المسيحيين. وهي حالة ينطبق عليها وصف المثل الكردي (قرية وكل فرد فيها مختار).

يمكن القول إجمالا، أن وضع المسيحيين العراقيين تسوده الفوضى والإضطراب والإنقسام، وهو يمثل صورة مصغرة لوضع العراق عموما بعد عام 2003 وهو بلا شك وضع إستثنائي لا يصلح أن يكون قاعدة أو أساساً للحكم. وإن هذا الأمر نجده لدى الجماعات الأخرى كالأكراد والسنة أيضا، وحتى الشيعة الذين هم قادة السلطة الآن، لأن التقوقع الطائفي والمحاصصة القائمة على أساس المصالح الشخصية الضيقة وإلغاء المصلحة العامة للمجتمع ككل، كانت النهج والسلوك السياسي المتبع بعد سقوط النظام السابق. وإن هذا الوضع قد صيغ ليحقق للبعض مصالحهم الشخصية الضيقة، في ظل أوضاع الفوضى والتدهور على جميع المستويات والصعد، دون أدنى تفكير بالمصلحة العامة، وإن هذه المصالح الشخصية الضيقة هي التي جلبت وستجلب المزيد من الضعف والإنحطاط والتشرذم، وستدفع بآخرين الى سلوك نفس النهج، لأن الفساد ليس حكرا على شخص أو فئة بذاتها. وهذا ما يفسر تزايد أعداد الأحزاب المسيحية وتناقص أعداد المسيحيين في ذات الوقت، وكثرة القادة وبالمقابل غياب الشعب.

وضع الأحزاب المسيحية بعد الإستفتاء الكردي
بحكم التعايش والتواجد المسيحي في كردستان، إضافة إلى الدعم المالي، فقد تعاطفت الكثير من الأحزاب المسيحية مع تطلعات إقليم كردستان العراق، لا بل نجد حتى أن بعض رجال الدين المسيحيين ربطوا مصيرهم بتلك التطلعات.
وبعد تدهور وضع أكراد العراق عقب الإستفتاء الذي أجروه في أيلول 2017، فمن البديهي أن يقل دعمهم للأحزاب المسيحية التي كانت تعتمد على الحزب الديمقراطي الكردستاني في تمويلها المالي ودعمها السياسي. وهكذا نجد أن الأحزاب المسيحية قد فقدت بوصلتها وأضاعت إتجاهها، بعد أن أصابها الذهول وسادها الصمت كمن على رؤوسهم الطير. وباتوا غير قادرين على رسم سياسة جديدة، لا سيما بعد إندفاعهم نحو الإستفتاء مما أفقدهم القدرة على التواصل مع الشأن العراقي بشكل عام.

وفي الواقع، فإن المساهمة السياسية لمسيحيّي العراق في السلطة كانت منذ البدء والى اليوم هي مجرد إسقاط فرض وسدٍ للذرائع بإقصائهم وتجاهل حقوقهم. وتبعا لذلك، فقد كانت تلك المشاركة إسمية وليست فعلية، ومجرد ديكور للزينة وتلميعٍ لصورة السلطة في الدول التي لم تتمكن من الوصول إلى حالة المواطنة الحقيقية لجميع أفراد الشعب، عززتها الأحزاب الإسلامية التي بمجرد تشكيلها تسعى إلى ضم بعض أفراد الأقليات مثل كرات الزينة لشجرة الميلاد.

وكما أضاع الأخرون هذه الفرصة الثمينة طيلة 15 سنة، فقد أضاعها أيضاً مسيحيّو العراق بسبب مشاركتهم الهزيلة وسوء إختيارهم لممثليهم في السلطة، وهم من المغامرين والمتسلقين والمتملقين والمقربين لأحزاب فقدت جماهيرتها وشعبيتها، وأساءوا لتاريخ المسيحيين العراقيين الطويل في كونهم حملة راية العلم وشعلة الفكر، وقدموا أسماء لامعة في مختلف المجالات كالطب والهندسة والقانون، وحتى الرياضة. فقدموا نماذج هزيلة ثقافيا أساءت إلى الإنطباع السائد عن مسيحيي العراق ومساهمتهم في بناء الدولة.

واليوم، والعراق مقبل على إجراء انتخابات جديدة حدد لها يوم 12 من مايس 2018، فهل تستطيع الأحزاب المسيحية والمؤسسة الدينية أن تقدم نموذجا أفضل من السابق، أم سنتفاجأ بعد أربع سنوات بأن مرشحهم لا يحمل المؤهلات المطلوبة أو أنه في أفضل الأحوال لا يحضر جلسات البرلمان أبداً مثل النائب لويس كارو بندر الذي صرّح مصدر برلماني في 29 تموز2015 بأن مجموع عمل النائب المسيحي لويس كارو في جلسات البرلمان 15 دقيقة فقط خلال 3 السنوات. فكيف يستطيع نائب أن يمثل العراقيين عموماً والمسيحيين خصوصاً في 15 دقيقة فقط طيلة دورة برلمانية أمدها 4 سنوات؟

وفي تطور جديد، ظهر في الأيام الأخيرة إئتلاف باسم (إئتلاف الكلدان) يضم حـزب الإتحاد الديمقـراطي الكلداني وحـزب المجلس القومي الكلداني، ويبدو أن الكلدان قد إتخذوا قرارهم وإستجمعوا قواهم القديمة والجديدة للدخول في الانتخابات، وسحب البساط من تحت أقدام الأشوريين الذي إستبعدت السلطة أحد مرشحيها السابقين من الترشح مجدداً. ودخلت البطريركية على خط الأزمة، فأصدرت بياناً بتاريخ 24/1/2018 دعت فيه المسيحيين إلى تحديث سجلاتهم الانتخابية لغرض المشاركة الواسعة في الانتخابات، ودعا البطريرك الكلداني إلى التصويت لصالح أشخاص “مجربين” و”التصويت لصالح أشخاص مجربين ومحبين لبلدهم ومقتدرين على تحمل المسؤولية بأمانة”. في فتوى تختلف مع فتوى المرجعية الشيعية في (أن المجرب لا يجرب). ويبدو أن الشروط التي وضعها البطريرك في بيانه المذكور تنطبق على أشخاص محددين مسبقاً. وقد سارعت الرابطة الكلدانية إلى تأييد هذا الإئتلاف مقدماً في بيان لها بتاريخ 21/1/2018، بقولها “قررنا دعم قائمة (إئتلاف الكلدان) واعتبارنا سنداً وظهيراً لها في الانتخابات المقبلة”. والرابطة منظمة مرتبطة بالكنيسة الكلدانية، حيث ولدت من رحم الكنيسة وما زالت تحظى برعايتها، ولا يعرف عنها ما إذا كانت منظمة سياسية أو غير ذلك، فهناك تناقض في تحديد هويتها، ولا أعتقد أن المنظمة ذاتها تعرف هويتها فيما إذا كانت سياسية أو دينية أو إجتماعية أو غير ذلك. وهي بالتأكيد ليست حزباً سياسياً لعدم تسجيلها رسمياً، لذا يمكن إعتبارها من منظمات المجتمع المدني. وقد عقدت الرابطة طيلة السنوات الثلاث الماضية من عمرها عشرات الندوات التعريفية على مدى أكثر من سنتين للتعريف بها داخل العراق وخارجه. وأقامت عدداً من الدورات التعليمية للغة الكلدانية. وقد نجحت في الإلتقاء بكثير من المسؤولين داخل العراق وخارجه.

وقد أنتقدت هذه الخطوة السياسية الكلدانية من جانب الأشوريين كثيراً، كما أنتقد تدخل البطريرك الكلداني في الشأن السياسي بالقول:
“البطريركية الكلدانية وغبطة مار ساكو بشكل خاص يتدخل بشكل غير مقبول في الشأن السياسي والقومي لشعبنا وكتبنا الكثير في ذلك واني شخصيا لا اكتب بدون دليل لان ارفض تدخل رجال الدين بالسياسة تماما بشكل مبدئي وأخر ما قالته البطريركية الكلدانية حرفيا في 16 – 1 – 2016 مهددة أحزابنا القومية الاتي : (سوف تدعم البطريركية وبكل قوتها وإمكانياتها قائمة كلدانية في الانتخابات القادمة وتشكل فريقا وطنيا كلدانيا لإنجاح هذه القائمة) هل هذا مقبول ولائق بالبطريركية الكلدانية وهل هذا واجبها واختصاصها وفعلا تم تنفيذ هذا التهديد وتم توجيه الرابطة الكلدانية لدعم ائتلاف الكلدان دون غيره اين الحق والعدالة والمقبولية في توجهات البطريركية الكلدانية.” (أنظر مقال ائتلاف الكلدان وغطاء الكنيسة الكلدانية ودعم الرابطة الكلدانية بين الشلل والفشل !! ج1)

وفي تقديرنا أن هذه الخطوة لن تنجح تماماً، فالمرض واحد لدى كل الأحزاب الموجودة على الساحة العراقية قاطبة، وهو سوء الإختيار إستناداً لسوء الغرض، وعدم مشروعية الهدف.

ولا أعتقد، شخصياً، أن الأحزاب المسيحية اليوم قادرة على تصحيح أخطائها وتعديل مسيرتها لإنها قامت أصلا على الخطأ، وما بُني على الباطل فهو باطل. وأملنا في ظهور شخصيات مستقلة خارج هذه الأحزاب تتمتع أولا بالوطنية، وثانياً بالكفاءة، وثالثاً بالجرأة والشجاعة، والسمعة الطيبة لتتمكن من تصحيح هذه الأوضاع الشاذة، وتقدم خدمة حقيقية للعراق بشكل عام ولمسيحيّه بشكل خاص بعيداً عن التأثيرات الدولية والدينية. ففي الأخير لن يصُح إلا الصَحيح.