23 ديسمبر، 2024 3:13 ص

مسيحيو الموصل وموقفهم المشرّف من هويتها العراقية

مسيحيو الموصل وموقفهم المشرّف من هويتها العراقية

لقد كتبتُ مقالات كثيرة وقفتُ فيها مع جميع مكونات الشعب العراقي التي تعرضت إلى التهميش والإقصاء، دفعني إلى ذلك إنتمائي الوطني المجرد من بقية إنتماءاتي الأخرى إيماناً مني بأولوية الإنتماء الوطني على الإنتماءات الأخرى، وها أنا أعرض أمام القارئ الكريم موقف مسيحيي الموصل من الإستفتاء الشعبي الذي حصل برعاية أممية لخيار ضمّ الموصل إلى العراق أو إلى تركيا، والذي لعب فيه المكوّن المسيحي الدور المهم في رجحان كفة إنضمام الموصل إلى العراق، وسأعرضه ليس إنحيازاً إلى ملّتي التي أنتمي اليها وإن كنتُ فخوراً بموقفها الوطني المشرّف، لكنني أعرضه لتذكير المسيحيين بشكلٍ خاص بما فعله آبائهم وأجدادهم من مآثر وطنية، ولتفويت الفرص على من يستغل ظروفهم الصعبة الآن لترغيبهم تارة وتهديدهم تارة أخرى لتغيير مواقفهم الوطنية التي كتبها لهم التاريخ بأحرفٍ من نورٍ، ولمحاولة البعض من هذا الطرف أو ذاك لجر المكوّن المسيحي للتخلي عن مواقفه الوطنية لا سامح الله بحجة الحماية أو الإصطياد في المياه العكرة وخلط الأوراق وبيان أن ما حصل لهم كان بسبب غدر عرب الموصل المسلمين لهم، بنكثهم لعهدهم معهم وتشريدهم بعد أن سلبوا ممتلكاتهم، وعليه يجب توضيح بعض النقاط قبل الولوج في صلب موضوع المقالة.أولى هذه النقاط من أن المصدر الذي سأعتمد عليه في بيان موقف المسيحيين من إنضمام الموصل إلى العراق قد كتبه علم موثوق من أعلام العراق، ألا وهو السياسي العراقي عبدالعزيز القصّاب: وهو عربي مسلم منحدر من عائلة دينية تقية، أنصف إخوانه المسيحيين في مذكراته التي أعدها وحققها في طبعتها الثانية نجله الدكتور خالد عبدالعزيز القصّاب، وحيثُ أخذ (الكتاب/المصدر) حيزاً على رفوف مكتبتي المتواضعة هدية أعتز بها من أحد أقربائي (المهندس نائل عزيز) مشكوراً، كما سأنشر مع هذه المقالة صورة تذكارية فريدة لجلالة الملك فيصل الأول مع مجموعة من رجال الدين المسيحيين يتقدمهم البطريرك يوسف عمانوئيل الثاني توما في دير “مار أوراها”، أرسلها لي مشكوراً أخي وصديقي الأستاذ المهندس غانم كني.
 وحيثُ لا يمكن لأي كان أن يشكك بمصداقية المؤرخ عبدالعزيز القصاب كونه كان متصرفاً (محافظاً) للواء الموصل حينها، ومعاصراً للأحداث ومواكباً لعمل اللجنة الأممية بحكم وظيفته وموثقاً للأحداث بتفاصيلها الدقيقة يوماً بيوم، وإذ لا مجال للتشكيك بتحريف الحقائق التي أوردها في مذكراته لعدم وجود ناقل ثانٍ للخبر عن لسانه كشاهد مباشر، ولا مجال على من يدعي ما يدعي بعدم صحتها، والمعروف عن المؤرخ الجليل أيضاً نزاهته وحياديته(1).
 وثاني هذه النقاط وقوف الأكثرية من عرب الموصل المسلمين بأحاسيسهم ووجدانهم مع إخوانهم المكونات الأخرى حين هاجمتهم وحوش داعش، مع ظهور بعض العوائل المغرر بها من هنا وهناك شوّهت الصورة الحقيقية للنسيج الإجتماعي في الموصل. فمن الموصليين المسلمين من حاول التمويه على بيوت إخوانهم المسيحيين المهجّرين وبقية المكونات وإخفائها عن داعش، لكن جهودهم في أكثر الأحيان ذهبت سُدى نتيجة لوجود شخص واحد في الحي أو مجموعة أشخاص ممن غُرِرَ بِهم أخبروا داعش عن ممتلكات المسيحيين الهاربين، وهذه حقيقة سمعتها من المقربين، ومنهم من ساعد الفتيات اليزيديات على الهروب من قبضة داعش معرضاً نفسه وعائلته للإبادة، وهذا ما أخبرتنا به الناجية نادية مراد التي توجتها الأمم المتحدة كسفيرة للنوايا الحسنة عن قصة هروبها. كما أن هنالك من صرّح علناً من الموصليين العرب المسلمين معلناً إحتجاجه على إكراه غير المسلمين على تغيير دينهم وحيثُ أن “لا إكراه في الدين”، ففقد حياته ثمناً لقوله كلمة الحق أو عوقِبَ بعقوبات قاسية، فليس جميع العرب المسلمين في الموصل/المركز متعاطفين مع داعش، بل هُم أسرى لديهم لا حول ولا قوة لهم أمام العقوبات الوحشية التي يمارسها الضلاليين ضدهم.
 لقد وردني بأن العديد من المخلصين والميسورين مادياً من أهل الموصل النجباء قرروا الإشتراك بصندوق إعانة في إنتظار عودة إخوانهم المهجّرين من المسيحيين وبقية المكونات الأخرى بعد طرد داعش من الموصل، والعمل على إعادة ممتلكاتهم بقدر المستطاع وتعويضهم جزءاً مما فقدوه، وهو ليس بغريب عن مسمعي، حيثُ فعلها أبناء الموصل النجباء من قبل.  
ولبيان موقف المسيحيين الموصليين وتوابعها من الإستفتاء الأممي (عصبة الأمم) على عراقية الموصل أقتطف بعضاً مما جاء في مذكرات متصرف لواء الموصل (الذي شغل موقعه للفترة من 27 كانون الثاني 1924 لغاية 18 حزيران 1926م) حينها عبدالعزيز القصّاب موثقاً في الطبعة الثانية/صفحة (216) ما يلي: “ومما يجب الإشارة إليه أن أمين بك الجليلي، وأحمد الفخري، وناظم العمري، وعلي الإمام، وأرشد العمري، وهبة الله المفتي، والبطريك يوسف عمانوئيل توما(2)، والمطران كريكور، وضياء آل شريف بك، من المستقلين. وآصف قاسم آغا، وسعيد ثابت، وإبراهيم عطار باشي، ومحمد صدقي المحامي، وشريف قاسم الصابونجي، والدكتور جميل دلالي، وعبدالله رفعت العمري، وصلاح الدين الخطيب، من حزب الاستقلال. وفتح الله سرسم، ورؤوف اللوس، والدكتور عبد الأحد عبد النور، الذين كانوا جميعهم من المتحمسين لعروبة الموصل ممن سيسجل لهم تاريخ العراق صفحة ناصعة البياض” ـ ـ إنتهى الإقتباس. يتبين مما ورد في ذكر الوجهاء أعلاه من أن أكثر من ربع العدد كانوا من المسيحيين يتقدمهم رؤساء الطوائف المسيحية، الذين لعبوا دوراً أساسياً في تعبئة الرأي العام لتأييد ضمّ الموصل إلى العراق، وكما بين المرحوم عبدالعزيز القصّاب في توثيقه عندما ذكر في مذكراته من أن لجنة الدفاع عن عروبة الموصل المكونة من خمسة عشر شخصاً التي تشكلت في 25 كانون الثاني 1925م كانت تضم فتح الله سرسم والدكتور عبد الأحد عبد النور، وهما مسيحيان إضافة إلى ممثليهما في الأقضية والنواحي في زاخو ودهوك والعمادية وعقرة وتلكيف والقوش وبرطلة وقره قوش وغيرها من القصبات المسيحية.
ثمّ يسترسل متصرف (محافظ) لواء الموصل في مذكراته موثقاً عن اللجنة الأممية التي قابلت وجهاء الموصل ما يلي(3): “كما ألقى (المونسينور) البطريك يوسف عمانوئيل توما، خطبة بليغة بالفرنسية أشاد فيها بعروبة الموصل، وتعرض بها إلى مشكلة الحدود الشمالية”(4)، ثمّ يضيف قائلاً “زارت اللجنة (يقصد الأممية) ذلك اليوم (الأول من شباط) بطريك الكلدان، يوسف عمانوئيل توما، والقاصد الرسولي والآباء الدومنيكان وبعض المحامين والأطباء. استمرت هذه الزيارات ثلاث ساعات وكانت نتيجتها جيدة جداً” ـ ـ إنتهى الإقتباس.
 أي كانت نتيجتها إيجابية لصالح العراق، كما ذكر المؤرخ في مذكراته زيارة اللجنة في الثاني من شباط لأنطوان زبوني (أعتقد يقصد المؤرخ زيارة الخوري أنطوان زبوني)، كما زار رئيس اللجنة الأممية في السابع من شباط 1925م عمة مار شمعون سرما خانم (يتبين من هذه الزيارة من أنّ سرما خانم أو سورما خانم دبيث مار شمعون كان لها مكانة إجتماعية مرموقة بين أبناء طائفتها والتي توفيت سنة 1975م على ما أظن).ثمّ يكمل المؤرخ في سرد ذكرياته قائلاً: “زارت اللجنة (يقصد اللجنة الأممية) في يوم 11 آذار بعشيقة وقضاء الشيخان ونواحي برطلة وكرمليس وقرة قوش وتل أسقف وتل كيف وصوّت الجميع للعراق”، ويسترسل المؤرخ في ذكرياته موثقاً ما يلي: “وفي 18 آذار، زارت اللجنة قضاء زاخو وقابلت الشيوخ والوجهاء ورؤساء الطائفة المسيحية، وذهبت الى الكويات والقرى المجاورة. وتجول جواد باشا (المفتش العام للجيش التركي في منطقة الجزيرة) مع سكرتيره يوسف كمال ووزع مبالغ من المال، لكن أكثر الأصوات كانت للعراق”  ـ ـ إنتهى الإقتباس. ويذكر المؤرخ موثقاً بأن دهوك والعمادية وعقرة ساروا على خطى زاخو في التصويت لصالح ضمّ الموصل للعراق.
يتبين بوضوح مما ذكره المتصرف الجليل عبدالعزيز القصّاب التأثير الواضح لمسيحيي الموصل في القرار الأممي لضم الموصل إلى العراق، لذا ومن واجبنا نحن أحفاد ذلك الجيل الوطني الغيور أن نستمر في الحذو حذوهم على الرغم من المآسي التي المّت بنا مع كل أبناء الشعب العراقي، ولا بد أن يأتي اليوم الذي ستنجلي فيه الغيوم السوداء، فهي ليست المرة الأولى التي يُمتحن فيها الأصلاء، وإن كانت أشدها قسوة وإيلاماً، وحيثُ لا يزال المستعمر العثماني يحاول العودة، أما بشراء الذمم وكما حاول أن يفعل سابقاً، وحيثُ يبدو أنه إستطاع أن يقنع بمن لديه من أفواه تخرج منها رائحة الخيانة النتنة والأقلام المأجورة لمن كنّا نعتقد من أنهم عراقيين أصلاء لكنهم تجردوا من عراقيتهم ولبسوا ثوب الطائفية المقيت فباعوا إنتمائهم الوطني لإنتمائهم الطائفي، ولهؤلاء أقول أنها لعبة سياسية يلعبها الكبار فليس لها علاقة لا بطائفة ولا دين معين وإن لَعِبَ المتبارون على أوتارهما لمعرفتهم جميعاً بسايكولوجية الإنسان العراقي العاطفية، وأُذَكّر هؤلاء من أن هنالك أدلة دولية لا لبس فيها بإشتراك الحكومة التركية لتسهيل مهمة داعش عرضتها صور الأقمار الصناعية لواحدة من أكبر المخابرات تطوراً، وهي المخابرات الروسية والتي أيدتها فيما بعد حتى الجهات المعادية لروسيا. فالإستعمار العثماني العنصري الذي كان ولا يزال ينظر لبقية الأثنيات ومنهم العرب على أنهم أقل منه لا تزال تراوده الأحلام بضم الموصل وتوابعها إلى تركيا، ولعنصريته المكشوفة والتي لا يخجل من المجاهرة بها وقف في الحربين العالميتين مع المانيا العنصرية لتطابق الرُؤى والتطلعات، وهذا الدليل لا يستطيع إنكاره من يحاول تجميل وجههم العنصري، ولنا في هذا الخصوص عودة لفضح المتعاونين مع الإستعمار العثماني الجديد.
 حفظ الباري وحدة العراق من شماله حتى جنوبه ومن شرقه حتى غربه.
إنتباهة :
(1)- عبدالعزيز القصاب: سياسي عراقي ولد في بغداد سنة 1882م ومن عائلة عراقية عريقة إنحدرت من راوة، تبوّء عبدالعزيز القصّاب مراكز إدارية وسياسية مهمة أهمها متصرفاً للواء الموصل سنة 1924م ولمدة سنتين ونصف والتي جرى خلالها الإستفتاء الأممي من قبل عصبة الأمم لتقرير وضع الموصل وعائديتها إلى العراق، كما شغل منصب وزير الداخلية في وزارة السعدون الثانية والثالثة ووزارة توفيق السويدي ووزارة جميل المدفعي الثالثة، كما أسندت اليه وزارة الريّ والزراعة في الوزارة السعدونية الرابعة، ووزارة العدل في وزارة ناجي السويدي، كذلك شغل منصب رئيس التفتيش الإداري خلفاً لـ (كورنواليس)، وقد أنتخب خمس مرّات لعضوية مجلس النوّاب ورئيساً له في أربع دورات نيابية ورئيساً لهيئة الوصايا على العرش عام 1947م، توفي سنة 1965م بعد أن خدم العراق بإخلاص في أهم فترات تكوين الدولة العراقية الحديثة، هذا ما جاء في مذكراته التي أعدها وحققها نجله الدكتور خالد عبدالعزيز القصّاب.
 (2)- البطريرك يوسف عمانوئيل توما: ولد البطريرك مار يوسف عمانوئيل (الثاني) توما في القوش في 30 تموز 1852م، نصب في 24 تموز 1900م بطريركاً، وثبت في 17 ايلول من السنة ذاتها، ونال الفرمان السلطاني في 26/12/1901، بعد مداولات عسيرة تدخلت فيها جهات عديدة، إمتاز بسخائه ومساعدته للمحتاجين من أبناء العراق دون تمييز خلال فترة الحرب العالمية الأولى وبعدها، يُشهد له بمواقفه الوطنية التي زادت من مكانته وإحترام العراقيين بسياسييهم ورجال الحكم والعامة له، خاصة في قضية الإستفتاء على عائدية الموصل للعراق ومسألة ترسيم الحدود بشكلها النهائي، ولمواقفه تلك عينته الحكومة العراقية عضواً في مجلس الأعيان، توفي في الموصل في 21 تموز 1947م عن عمر ناهز الخامسة والتسعين، وقد تلاه البطريرك يوسف السابع غنيمة الطيب الذكر.(3)- تشكلت لجنة عصبة الأمم في 30 أيلول 1924م بعد أن أصبحت مشكلة الموصل ذو أهمية عالمية، وقد أنتخب (أي.أف.فرسن) سفير السويد في بوخارست رئيساً لها، وأعضائها هم :(الكونت بول تلكي) الهنغاري الذي شغل منصب رئيس الوزراء في بلده، ورئيس وزراء المجر، و(الكولونيل أي.بولص) من بلجيكا، كذلك تكونت اللجنة من أربعة سكرتاريين هم: (كونت دي بورتاليس) من سويسرا، و(السنيور رودولو) الوزير المفوض من إيطاليا الذي كان ممثلاً لبلده في عصبة الأمم، و(المسيو كادير) من فرنسا، و(المسيو ريد) من سويسرا، وقد وصلت اللجنة إلى بغداد في 16 كانون الثاني 1925م لتباشر مهامها ـ نفس المصدر السابق. 
(4)- تعرضت القرى العراقية وخاصة المسيحية منها المتاخمة للحدود الشمالية إلى إعتداءات متكررة من الجيش التركي حتى بتواجد اللجنة الأممية في المنطقة، مما أسفر عن تهجيرهم إلى عمق الأراضي العراقية – نفس المصدر السابق.