23 ديسمبر، 2024 10:25 م

خيال علمي ساخر
(إذا نحن لا نعلم إلى أين نريد الذهاب، كيف يمكن لنا أن نختار سبيلا دون آخر؟)*
استدعاه مديره …وبدأت نبضات قلبه بالتسارع وهو يسير في الدهاليز الرخامية ، وتصاعد قلقه مع قرب وصوله لمكتب الرئيس ، نظر اليه الرجل الستيني المتغضن الوجه من وراء نظارته الأنيقة ، وكاد يخترقه بنظرات فاحصة ذكية باردة :

* ما الذي فعلته اذن يا مدير المشروع ؟ هل يستطيع أحد ان يخبرني بآخر صرعات عبقري الهندسة الورائية ؟ هل تعرف نتاج فعلتك المشينة ؟!

لم يجب “مراد” وبقيت علامات الدهشة والقلق بادية على وجهه ، فتابع الرئيس التنفيذي بتعالي وغطرسة :

* أنا سأقول لك باسهاب ماذا فعلت ، وسأبدأ بالمشكلة الأقل خطرا …لقد تكاثرت ذبابة الفاكهة التي صنعتها او التي تلاعبت بشفرتها الوراثية ، لقد تكاثرت بشكل رهيب واصبحت تقتات على مزارع الفاكهة بسرعة رهيبة ، فالذبابة الضئيلة أصبحت ذبابتين بفعل وجود بطنين لها ، وازداد ازعاجها للسكان عندما ضاعفت جناحيها لأربعة اجنحة ! كما اصبح من الصعب صيدها لسرعة طيرانها وارتفاعها السريع ، وبدا وكانها اكتسبت مقاومة خاصة لكافة انواع المبيدات الحشرية ! وهنا شعر “مدير المشروع” أنه بوضع دفاعي فاجاب بثقة :

* ولكنه بالحق ليس ذنبي سيدي ، فقد كنت أجري ابحاثا اولية على كيفية تغيير الشفرة الجينية ، فصنعت تلك الذبابة التجريبية ، فنالت اعجاب

مدير البحث والتطوير سيدي ، فطلب على الفور انتاج الف ذبابة مماثلة دفعة واحدة ، وكنت قد حذرته سلفا من احتمال فقدان السيطرة على الذباب ، فرفض بعنجهية واجاب بحزم : “أنت هنا يا مهندس الجينات لتنفذ التعليمات وليس لمناقشتها” ! وقال لي بالحرف الواحد “أنت لا تعرف شيئا عن الوثوقية وكيفية التلاعب بها” …هكذا قال لي ، اذن فقد فعلت تماما ما تريدون ياسيدي !

*

ولكن الرئيس التنفيدي المتعالي بادره باستهتار وكأنه لم يسمع شيئا ، واستمر بنظراته النافذة أرفقها بضحكة معدنية ، وتابع :

* ثم لننتقل للكارثة رقم 2 : هل تعرف ماذا فعلت الكائنات البشرية التجريبية التي تلاعبت بجيناتها الوراثية ، تلك الكائنات او لنقل المسوخ ذات الرأسين والأربعة أذرع ، والتي تم بيعها باسعار طائلة لمصانع السيارات العالمية لتحل محل الروبوتات والعمالة العادية ! ثم استطرد “المدير التنفيذي” ساخرا وصوته يعلو :

* هل تعرف أيها ماذا فعلت تلك الكائنات بخطوط الانتاج ايها العالم والمهندس الفذ ؟! وتصاعدت نبرته العصبية بشكل تصاعدي وباسلوب مسرحي استعراضي :

* أنا سأقول لك ماذا فعلت هذه المسوخ المضحكة : لقد قامت بتغيير اداءها الحركي ليتلائم مع الزوائد الجديدة ،فقلبت شكل وتصميم السيارة رأسا على عقب وبمبادرة ذاتية ، وانتجت ألف سيارة ” مسخ ” ، أجل فالسيارة الجديدة تحولت بدورها لمسخ ميكانكي مثل مخلوقاتك العجيبة ! فقد أصبحت النافذة الأمامية محل الخلفية والعكس صحيح ،كما تغير موقع لمبات الانارة بشكل متعاكس أيضا…أما المقاعد فقد ركبت بطريقة عكسية هي الاخرى …فكيف سيتمكن اي سائق عادي أن يقود سيارة بهذا التصميم المشوه ؟! وهناك تفاصيل اخرى لا اذكرها ! أما سائقك الجديد الرائع هذا فهو اجتماعي للغاية لذا فهو لا يدير ظهره للركاب ، وانما يود دائما مواجهتهم واسعادهم بثرثرة غريبة وقصص عجائبية ! ولما لا وهو يملك رأسين أحدهما للتركيز على السواقة والآخر لموجهة الركاب وتسليتهم ! نحن يا عزيزي نواجه هنا قضية تعويض تزيد عن البليون دولار على الأقل ، فهل ستساعدنا من راتبك الشهري ؟ قال “المدير التنفيذي” بسخرية وحنق واضح :

* …كما انا فقدنا مصداقيتنا تماما ، فالنماذج البشرية الجديدة ، كان المفروض أن تكون كنزا وموردا فريدا لشركة السيارات التي اشترتها ، بوجود رغبة كاسحة لمنافسة صناعات السيارات الكورية واليابانية ، وبعد شهر واحد من صفقة البيع …تحولت الفكرة الرائدة لكارثة حقيقية ! ولكن “مدير المشروع ” المتهم تمالك نفسه واعترض قائلا :

* اسمح لي ان أوضح سيدي ، فالتغيير الموضعي لمواقع المقاعد واللمبات هو في حقيقة الأمر شكلي وجمالي ولن يؤثر تماما على تصميم وميكانيك السيارة ، أما طريقة جلوس “المسوخ” ومواجهتها للركاب فهي تقتصر عليهم فقط لفرادة شكلهم ولا تعني السائقين العاديين أبدا …كما أن الأهم هنا من وجهة نظري المتواضعة هو تسريع الانتاج وتخفيض التكاليف ! وأعتقد بالتاكيد انه تم تحقيق ذلك ! فقاطعه “المديرالتنفبذي” مستهجنا ومتجاهلا رده :

* لم تنتهي القصة هنا ، بل قام صنيعتك ” فرانكشتاين ” صناعة السيارات الخارق ، مدير المعمل العبقري ، بالسخرية مني أمام اعضاء مجلس الادارة ، وكنت قد طلبت منه أن يوضح لي ما حدث بالضبط ، فهل تعرف رده الوقح ؟ :

* “أنتم أيها البشر الأغبياء ، لا تفهمون شيئا بالابتكار ، فالسيارة الجديدة تصلح تماما للكائنات البشرية الجديدة”. وبالفعل فقد طلب ان نخرج

لميدان العرض واستدعى على الفور عاملا برأسين واربعة أذرع ، وطلب منه قيادة احدى السيارات الجديدة ، فقادها هذا الأخير بسرعة مذهلة وبمهارة فائقة وارتياح كبير ! وعلق بثقة على تجربة القيادة :

* “أين المشكلة اذن ؟ لا ادري عن ماذا تتحدث” ؟

* “فقد افترض هذا المسخ العبقري أن هذه السيارات ستسوق لهذا النوع الجديد من البشر” !

…وعندما أبلغناه أنها ستسوق لبشر عاديين برأس وذراعين ، أجاب ” فرانكشتاين ” المجنون هذا بايماءة متغطرسة : ” اذن باشروا بصنع نماذج بشرية جديدة لهذه السيارات المبتكرة ! ” هذه كانت اجابته ، وعندما أبلغته بأنها فقط مجرد نماذج تجريبية بشرية خلقت لأهداف صناعية مجدية … أجاب بعبارة غامضة : ” انه صراع التقدم الارتقائي ضد قوى البهيمية والانحطاط ” ! هل تفهم شيئا من عبارته الفلسفية الغامضة هذه ؟ واستطرد “المدير التنفيذي” قائلا والرعب يتملكه :

ثم اقترب مني هامسا ومهددا بحنق : “سأدخل داخل جسدك كذبابة وأرى جسدك من داخله “! وبدا عندئذ كمشعوذ مصري قديم وهو يتفوه بهذه الجملة السحرية المرعبة ، ولكني وللخوف الشديد الذي تملكني عندئذ نسيت أن أسأله بفضول ساخر: “وهل ستكون يا ترى ذبابة عادية ام معدلة جينيا ؟! “

ثم غادر “فرانكشتاين” القاعة غاضبا وتعلو وجهه نظرات امتعاض واشمئزاز ، ولطم الباب الحديدي خلفه وكأنه يصفعنا في وجوهنا !!

لكن “المدير التنفيذي” أصرعلى عناده وسخريته اللاذعة متجاهلا حجج ومنطق “مدير المشروع ” المسكين ، فخاطبه بحنق لافت وبصوت معدني هستيري ساخر:

* والآن بماذا ستنصحنا أيها العبقري المفرط الذكاء ! وقد تحول تلاعبك الجيني لكابوس كارثي حقيقي ؟!

استيقظ “مراد” يتصبب عرقا ويرتج مرعوبا ، فسألته زوجته مستفسرة ، فأخبرها القصة باختصار ، فاجابت بلا تردد : انها الهندرة والوثوقية والجينات وعلوم الوراثة ووحش البحيرة والعين الثالثة وكل الترهات التي تملأ عقلك البائس بها ، والتي حولت حياتنا لجحيم هنا ، وما يعنينا هذا الكلام نحن العرب ونحن لا نكاد نصنع دراجة ، بل حتى ونسخر من اكتشافاتهم العلمية ومغامراتهم المذهلة ؟!

لقد أدخلتنا بترهاتك العلمية – الخيالية وبأبحاثك المجنونة لنفق مظلم طويل لن نخرج منه أبدا بعقول سليمة ، وبدأت الكآبة تتسرب لأرواحنا البائسة ، جل ما اريد أن أعود وبسرعة لحياتي الطبيعية الآمنة وأهلي وصديقاتي ورسوماتي ، وأن يعود ولدي لمدارسهم أسوة بباقي الأطفال ، وكفى …كفى …ثم صرخت بحمق هيستيري : قلت كفى !!
ـــــــــــــــــــــــــــ
*هامش: يعلق المفكر كاستورياديس: “إذا نحن لا نعلم إلى أين نريد الذهاب، كيف يمكن لنا أن نختار سبيلا دون آخر؟ منْ مِنْ رواد التكنو-علوم المعاصرين يعرف حق المعرفة إلى أين يريد الذهاب …؟