19 ديسمبر، 2024 12:11 ص

مسميات تليق بسياسيينا

مسميات تليق بسياسيينا

تتقلب الأحداث في العراق منذ بداية سبعينيات القرن المنصرم حتى اللحظة، تقلبا يكاد يشبه لعبة الـ (حية ودرج) وسط سيطرة شخوص تقمصوا الوطنية والنزاهة والطهر والشرف، فيما هم بعيدون عن هذه المسميات -ولاسيما الأخيرة- بعد ساحة الأندلس عن كوكب زحل. مقابل هذا تقلب العراقيون طيلة هذه المدة تقلب الـ (سمچه المزوهره)، وحال لسانهم يقول:

يقلبني الأسى جنبا لجنب

كأني فوق أطراف الرماح

وما لاشك فيه أن بلدان العالم هي الأخرى، شهدت تغيرات وتقلبات لم تتوقف يوما، إلا أن الفارق بينها وبين عراقنا كان بالنوع والاتجاه، إذ أن دول العالم نهضت طرديا مع الطفرات العلمية والتكنولوجية والإلكترونية، وبات تقلبها نوعيا بين ليلة وضحاها من دول نامية الى متقدمة، وتناغمت آليات مؤسساتهم بانسجام مجدٍ مع صيحات التطور، وواكبتها بتنسيق مدروس ومحسوب بدقة عالية، مع حساب التقاطعات التي قد تصادفهم، ووضعهم علاجات سريعة وحلولا ناجعة، هي الأخرى مدروسة بشكل يضفي على مسيرتهم المزيد من الإيجابية والجدوى. وقطعا انعكست الإدارة هذه على أفراد مجتمعاتهم، بريعها وثمارها فأتت أكلها قطوفا دانية، وتنعموا بهانئ العيش ورفلوا بالطيب من أدواته ووسائله المتحضرة.

يقابل هذا -لسوء حظ العراقيين- تغيرات كانت تتجه نحو هاوية سحيقة، إذ سار البلد متعثرا في درب أقل مايقال عنه أنه “درب الصد مارد”..! حيث انقضّ على حكمه طيلة الربع الأخير من القرن الماضي نظام الحكم البعثي الدموي، وذكره وأفعاله غنية عن الشرح والتبيان، فضلا عن آثاره التي مازالت تخيم على سمائنا شئنا أم أبينا! يومها كان العراقيون لايفقهون في الأمور السياسية إلا ماتمليه عليهم الاجهزة الاعلامية المسيَّسة، من خلال قنوات محلية لايتجاوز عددها أصابع الكف الواحدة. فلم يكن كثيرون يفكرون في يومهم إلا بلقمة العيش، والسياسة كانت خطا أحمر، أو قد لا أبالغ ان شبهتها بحقل الغام، والاقتراب منها يعني الهلاك لامحالة. فكان يُقال لمن أراد العيش بسلام عبارة (لا تندگ بتيل الحكومة، حتى الحكومة ماتندگ بتيلك). أو (لاتدوس على الجني ولا تكول بسم الله). واستمر الامر على هذا المنوال، والناس بين خائف صبور ومتمرد معدوم او مسجون، او فارٍ من العراق الى حيث يدري ولايدري، الى ان جاء الفرج وانزاحت (الغمّه من هالأمّه).

انه يوم 9/4/2003 حيث الديمقراطية والحريات بأنواعها، تلقاها العراقي بتعطش يعود لعقود خلت، اهمها التكلم والبحث بالسياسة ونقد السياسيين وقراراتهم، والتظاهر اذا كان ثمة قرار لايصب في مصلحته. فسالت دماء منه في الدفاع عن حقوقه، حتى بدأ يشعر انه قادر على إجبار المسؤول على العمل لمصلحة البلد، وكان له ذلك، ولكن في النزر اليسير من حقوقه، فالبحر الذي خاض غماره عميق جدا، وفيه من الحيتان ما لم يكن بحسبانه، ومن الأمواج ما لايقدر على الصمود امامها، وجابه سفانين يجيدون فن مجابهة الرياح العاتية، و(لات حين مناص) فصار حاله كحال اولئك الذين قال لهم طارق بن زياد: اين المفر؟ العدو من امامكم والبحر من ورائكم.

إن عراقي اليوم غير عراقي السبعينيات، فقد وعى وبات يميز اي السفانين يسير بالاتجاه الصحيح، وأيهم يسير وراء غايات بعيدة عن المرسى الآمن للبلاد، ولم تعد تنطلي عليه ألاعيب المغرضين، وعرف الشخوص التي تمسك بخيوط الدمى الخليعة التي تتصيد بالمياه الآسنة، وتعكر صفو الماء الزلال. والسياسة التي كانت (بعبع) أصبحت اليوم (نكتة) أو هي حديث شيق تتجاذب أطرافه شرائح الشعب جميعها، وقبل نشرة الأخبار نجد رواد المقاهي على بساطتهم يحللون الاحداث، ويعرفون ماغاية (زيد أوعبيد) من مقاله او تصريحه.

نعم، فالعراقي لم يعد فكره سطحيا عن السياسة وألاعيب الساسة، كما أنه بات على دراية تامة بما يدور حوله من أفانين وخزعبلات يسمونها سياسة، فيما هي كما قال ابو العلاء المعري:

يسوسون الأمور بغير عقل

فينفذ أمرهم ويقال ساسة

فأف من الحياة وأف مني

ومن زمن سياسته خساسة

إذن، على ساسة عراقنا اليوم إيجاد البديل اللغوي لمفردة السياسة، وليتركوها ماداموا لايتقنون اللعب على حبائلها بشرف ونزاهة، وأظن مفردات كالاحتيال، والنصب، والمراوغة، والمماطلة، والسرقة، والنقض، والنكث، والحنث، والقباحة، والبجاحة… وغيرها من المرادفات الكثير، هي أقرب اليهم من مفردة السياسة.

[email protected]