23 نوفمبر، 2024 4:21 ص
Search
Close this search box.

مسلسل سامكو  تفسير غير موفق في الواقع الاجتماعي..

مسلسل سامكو  تفسير غير موفق في الواقع الاجتماعي..

يمكن التصور، مقدماً، أن (مسلسل سامكو) الذي انتهى عرضه هذا اليوم ــ شاهدتُ جميع حلقاته ــ هو وثيقة تلفزيونية  جديدة مؤلفة لكشف اوراق أخرى ، من وجهة نظر فنية ، يجب أن تكون  صحيحة ومتكاملة ، عن جرائم نظام صدام حسين . هذا هدف مشروع وضروي لكل فنان ولكل جهة فنية ، غير ان مؤلف هذا المسلسل أو مخرجه، او كليهما كانا بحاجة – كما اعتقد – الى  تراتبية تلفزيونية رفيعة ، بتكنيك عالٍ ،وبمنهج متطور ، وبوجهة نظر فنية صحيحة ومتكاملة  ليقنعا المشاهدين بفوضوية  رغبة سلطوية حاقدة عن جانب من جوانب موسوعة الجرائم المتنوعة التي خلفها ذلك النظام في حياة الشعب العراقي، بعد أن أتضح لي من خلال متابعتي للمسلسل ان الدور الوظيفي، الخيالي والواقعي، في حلقاته الثلاثين لم يكن فعــّالاً.

لا ادري هل هذا المسلسل بُني على اساس أوراق وتحقيقات القضية الشهيرة التي عرفتها بغداد منذ بداية تسعينات القرن الماضي باسم ( قضية سامكو) التي بدت بداية واضحة في سلب اموال الناس الفقراء ومن أبناء الطبقة المتوسطة، الذين أرهقتهم نتائج الحصار الاقتصادي الدولي فكانوا يبحثون عن مصادر العيش في ظل ظروف قاسية ناتجة عن سياسة الحروب والمغامرات العسكرية التي انتهجها صدام حسين ، أم أن مضمون المسلسل بُني على ذكريات جزئية او عن مزاعم من هنا وهناك او عن معلومات ليست حقيقية كلياً.,؟ كانت هذه القضية من بدايتها الى نهايتها وجعاً حقيقيا يضاف الى اوجاع ابناء الشعب العراقي الذي كان تاريخه خلال 35 عاما من 1968 حتى 2003 يحفل بسياسات الخراب والتخريب السياسي والاجتماعي والاقتصادي. كانت (قضية سامكو) إحدى الهجمات الوجاهية المباشرة  من واقع وتخطيط ورقابة السلطة الرديئة التي ما كان بإمكانها الا ابتداع اساليب رديئة للإضرار بمصالح الناس المغلوبين على امرهم.

كان نظام صدام حسين منذ البداية يدرك ان سياسته وسياسة ميليشياته، السرية والعلنية، لن تستطيع محو جرائم الحرس القومي بعد انقلاب 8 شباط  عام 1963 .. لذلك فقد وجد نصيحة سيكولوجية ــ بوليسية وردته من خبراء دوليين في السيكولوجيا السياسية بضرورة إلهاء الشعب العراقي بأعمال وفعاليات (فردية)  فيها (إثارة ومتعة) او (إثارة وخوف) او (اثارة وتخريب) ليأتي هو أخيراً  ليكون (منقذاً) من هذه الحالات.

اول إثارة ذات (متعة) أقدم عليها النظام الاعلامي  في اول صعود صدام حسين الى السلطة هو خرافة انتصارات بطل المصارعة العراقي عدنان القيسي على عدد من المصارعين الامريكان من الذين دربتهم واوجدتهم نوادي المصارعة الامريكية  الكبرى المرتبطة بالطفيليات الرأسمالية المستهدفة جمع الاموال بطريقة الضحك على ذقون المشاهدين الأمريكيين وغيرهم  من فئات المقامرين. أقيمت في ملاعب بغداد وبعض المحافظات عروض رياضية اظهرت على التلفزيون بطولة خارقة للمصارع العراقي عدنان القيسي بانتصارات ساحقة متتالية على خصومه المصارعين الامريكان كان هدف السلطة خلق جو تمويهي خاص، على أساس إدخال الفرح والبهجة في قلوب العراقيين.

ثاني فعاليات الاثارة ، لكن الباعثة للخوف العام في العراق هي محاولة زرع (القلق العام) في كل نفس عراقية ، في كل بيت عراقي، خاصة النفس البغدادية والبيت البغدادي وذلك عن طريق افتعال شخصية (أبو طبر) المجرم الذي استطاع خلال فترة قصيرة ان يجعل الشعب البغدادي كله يقفل ابواب البيوت والشقق خوفا من ان يكون اي فرد هو الضحية المحتملة القادمة خلال هذه الليلة او صباح الغد .

ثالث وسائل الإثارة جاءت إلى العراق حين ارتدى صدام حسين بدلة عسكرية مليئة بالنجوم والتيجان والشارات والنياشين ، داخلا الى حرب عدوانية اولى ارعبت الشعبين العراقي والايراني،  والى حرب ثانية ارعبت الشعبين الكويتي والعراقي ،اثبت فيهما انه يتمتع بقدرات عظيمة العدوانية في نشر الرعب الاسود بين الشعوب .

الاثارة التالية بعد الحربين أسّس لها بهدوء ورباطة جاش حين راحت اجهزته واجهزة ابنه عدي تجيد اجادة تامة محاولة  تمثيل إصلاح الخراب الاقتصادي الفردي لـــ(المواطن العراقي) بواسطة افتعال وسيلة اقتصادية تخريبية ساذجة ، لكنها قادرة على تدمير الذات الانسانية، والذات العائلية، عن طريق شركة الحلاّق سامي (سامكو) لإلهاء الناس بقضايا يومية جانبية في ظل ظروف اقتصادية متدهورة كانت تثير اعصاب الناس الفقراء العاطلين عن العمل، خاصة بعد ارتفاع اسعار المواد الغذائية بدرجات عالية لم يشهدها اي بلد بالعالم حتى في زمن الحربين العالميتين، الاولى والثانية. كما ان التدهور المتلاحق للعملة العراقية كان عاملا اساسيا من عوامل تراجع القدرة الشرائية للمواطنين إلى حد لا يصدق ولا يطاق.

هذا الوضع كله وغيره مهــّد السبيل لهبوط طائرة (سامكو) المنطلقة من دكان حلاّق في منطقة الزعفرانية لتهبط على سطوح آلاف من بيوت الناس في مساحات واسعة من بغداد اولاً،  من ثم في العراق كله بدرجة اقل.  كانت الدعايات المثيرة  حول أرباح الناس بنسبة 25% من أموالهم المسلمة ألى وكلاء شركة وهمية بلا وصل استلام . كانت أحلام وأوهام الأرباح الضخمة  تسبق نزول  أو صعود طائرة سامكو المحملة بالأموال الهائلة التي ليس من بينها أموال العسكريين في جيش صدام ولا أموال رجال عاملين في الأمن والمخابرات حيث توجيهات إداراتهم إليهم ، سراً وعلنا، أن لا يساهموا في (شركة سامكو) المزيفة.

في المسلسل التلفزيوني عن هذه (القضية) قدّم لنا المؤلف ضياء سالم والمخرج ايمن ناصر الدين رسالة تلفزيونية اظن انها بعيدة عن واقع الحال او انهما قدما أموراً لا يمكن تصديقها عن سيكولوجية شخصية سامكو وعن رغباته في تقديم المعونة الى الناس الفقراء عن طريق ما يحصل عليه من اناس فقراء  غيرهم من الباحثين عن الارباح السريعة.  بهذا صنعا للتلفزيون العراقي نوعا جديدا من شخصية (روبن هود)  وهو امر بعيد تماما عن اخلاقية سلطة صدام حسين وظواهرها الشاملة مثلما هي بعيدة عن أخلاقية الحلاّق سامي ووكلائه وأفراد حمايته من أصحابه المنتفعين  . وقد ظلت هذه الفكرة ملازمة للمؤلف والمخرج من اول المسلسل الى اخره لكي تبعث رسالة الى المشاهدين بأن ضياع مداخيل او ثروات المواطنين لا شأن له بالدولة ولا بنظام صدام حسين ولا بأجهزته الامنية.. بينما المعروف عن اجهزة الدولة الصدامية انها مسيطرة على كل معلومة في الشارع العراقي وأن اي احتفال زواج او ختان أو احتفال بيتي بمناسبة عيد ميلاد طفل أو طفلة  يجري بين الرعية لا يمكن أن يتم من دون علم ومعرفة الاجهزة الامنية . لقد غدا من المعروف تماماً لجميع ضحايا (سامكو) ان الحلاق سامي ليس سوى وحش من وحوش السلطة وأن يده من أيديها ، بل أن بعض الناس يعتقدون أنه صناعة مباشرة من يد صدام حسين نفسه وقد اكتشف المتضررون منه، بعد فترة وجيزة من التعامل معه،  انه ليس سوى حيوان ضار لا نفع منه ولا رجاء.  كما اقتنعوا لاحقاً  ان نظام سامكو يتمثل بكونه سلسلة من العلاقات بين شركاء ينتمون الى مختلف الشرائح الطفيلية في المجتمع غايتهم الاساسية تنفيذ الخطط الرسمية الحكومية كان (سامي الحلاّق)  سيدهم ورب عملهم الذي يمثل رابطتهم الوحيدة مع خطط ورغبات السلطة القاهرة.

لا شك أن الفضيلة الرئيسية لهذا المسلسل انه يكشف العديد من الروابط، الافقية والعمودية،  بين الظالمين والمظلومين، في ظل نظام دكتاتوري قمعي، معادٍ لكل التقاليد الانسانية والانتماءات الطبقية والممارسات الثقافية التقدمية غير ان مثل هذا الوجود والعطاء الذي تسعى له القناة العراقية حقاً لم نجده في المقام الاول في انتاجها لهذا المسلسل، رغم اعتقادي أنها كانت ترمي هذا الهدف.  لكن الملاحظ أن المسلسل حاول بالنتيجة ان يستبعد ذلك عن السلطة  الصدامية ليضعها خارج مسرحها ، بل  ليدخلها الى واقع اجتماعي اخر متميز بعناصر الطفيلية والحرامية الذين استطاعوا ان يفرضوا هيمنتهم على كثير من الناس بدون علم وتوجيه السلطة وليس بينهما غير بعض الاحتكاك . هذا من أمورٍ لا تُعقل. باختصار اقول ان الفعل الدرامي في المسلسل كان هزيلا الى حد الصدمة .

رسالة غريبة جداً قدمها المسلسل الذي يبدو انتاجه واخراجه كان متسرعا جدا ، تماما مثل  تمثيل الممثلين ومثل ديكورات المشاهد ومثل ضياع الروح عن بعض ابطاله وبطلاته في كثير من اللقطات. كما أن (الشورجة التلفزيونية) لم يظهرها المسلسل مثل ا(الشورجة البغدادية).. المستشفيات في بغداد لم تظهر على حقيقتها ولو بالحد الادنى اذ بدت خالية تماما من المراجعين ومن المشاكل الصحية . حتى سلوك الطبيب والطبيبة  ليس في عشقهما صورة واحدة من صور العاشقين.  الليل في المسلسل بهيم والنهار فيه مضيعة للوقت التلفزيوني ومحاولة للحذلقة .

هذا هو شأن كل عمل لا يقوم على وعي فني حقيقي ولا على تجربة وطيدة خالية من الصداع ، حتى انني وجدت الكثير من النقاط السوداء في عطاء بعض الممثلين من ذوي التبصر الفني المرهف في تاريخ الفن التلفزيوني العراقي  كالممثل طه علوان وسعد محسن وسولاف فقد كان اداء اغلب ادوارهم بصورة مشوشة تماما، بل تحتاج الى عالم سيكولوجي ليقوم بفحوصاته ليكشف لنا عن اسباب تدهور قدرة الممثلة سمر وخضير عبد العباس وابراهيم خليل كما نحتاج الى دراسة اسباب الصياح والصراخ في حوار الممثلين بحالات لا تحتاج الى صياح ولا صراخ . بصورة عامة لا بد من التنبيه إلى حقيقة أن (التمثيل) بمجموعه كان لا يشير الى امكانيته في اثارة احاسيس المشاهدين . كان اغلب الممثلين غير متحررين من الكاميرا الاخراجية التي لم يقدم لهم المخرج شيئا جديداً او اصيلاً. لم يكن المخرج متحكما بوعي تام  بحركة الكاميرا القلقة، تماما مثل لغز المسلسل، الذي كان قلقاً كله، لم يستطع توليد طاقات داخلية جديدة لتسجيل خطوة نحو الامام في الدراما التلفزيونية العراقية الذي يغوص في اعماق منتجيها مفضلين (الكم) السريع وليس ا(لنوع) الرزين . لكن هذا المسلسل بالذات كانت مشاكله خصوصية اولها افتقاره الى الاتزان في حركة اغلب مشاهده التي يبدو ان العمل الانتاجي  يفتقر الى خطة محددة او ربما سار منذ بدايته الى نهايته في طريق خاطئ تماما كأن المخرج يفكر بأسلوب (العموميات) في انتاج مشاهده وفقاً لصيغة (صوّر وأمشي)  من دون التيقظ ازاء المشكلات الفنية الناتجة عن (العمومية الاسلوبية) في الانتاج الفني. لقد استسلم اخراج المسلسل لأفكار غير منظمة في مشاهد التعذيب والتحقيق مثلا، ولأفكار بطيئة في مشاهد المستشفى مثلا . اما مستوى الحوار فقد كان اغلبه هشاً ورثاً ومكرراً لا يحمل مستوى رفيعاً من ملامح الأدب التلفزيوني، مثلما المشكلة الانتاجية برمتها كانت ألوانا متعددة لسذاجة العمل السينمائي .

من اضعف نقاط هذا المسلسل هو عنصر المفاجأة بالحلقتين الاخيرتين فقد فشلتا في تصوير الظروف السابقة او المصاحبة ليوم 9 نيسان 2003 فقد افتقر المسلسل الى التركيز على الظروف السياسية، الدولية والمحلية ،  وقد بانً التعبُ واضحاً على ادوات المخرج ورؤاه اذ لم يكن المخرج وربما النص الاصلي اصيلا يمكن السيطرة عليه .

يبدو ان قناة العراقية قد وضعت خطة واسعة للإنتاج الدرامي وهو أمر لا يعارضه احد بل يباركه الجميع ، من الفنيين والمشاهدين .ربما مثل هذه الخطة لا يمكن تطبيقها الا بجهد طاقات المؤلفين الدراميين والمخرجين والممثلين والفنيين جميعا. لذلك ادعو مخلصاً مؤلف مسلسل سامكو ومخرجه وجميع ممثليه وكوادره إلى  اعادة النظر في كل مشهد من مشاهده والى اعادة تقييمه تقييماً شجاعاً اصيلاً لتشخيص نقاط الضعف في لغته الحوارية وواقعية اوصاف الناس المهيمنة  في احداثه  للوصول الى انماط تأليفية واخراجية اكثر امانا من الناحية الفنية . أدعوهم مخلصاً إلى التنازل قدر الامكان عن نظراتهم الدرامية (الكمية) وإلى التخلص من عمليات التطويل في السيناريوهات العراقية المنتجة مشاهدها بحيز متكرر ،دائما ، ليكون صدى هذه المراجعة والتنازل مؤثراً على نوعية الانتاج القادم ليجد نفسه حتما في وضعية جمالية فنية ليس في مظهرها الخارجي حسب، بل في تناسقها الداخلي ايضا بتوخي الإيحاء الفني بديلا عن (التطويل) الممل  و(التكرار) الأكثر مللاً. اعتقد اذا استطاع الفنانون في  قناة الفضائية العراقية ان يبسطوا امور انتاج الدراما التلفزيونية بالمعرفة الفنية العالية بعلاقة مدروسة بين الوعي الكمي والوعي النوعي فأنهم سيتمكنون من ان ينتجوا نسخا رقيقة وسميكة ، مدهشة وعظيمة ، من الدراما التلفزيونية الواعية في المستقبل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات