23 ديسمبر، 2024 5:30 ص

مســــــــــافرٌ

مســــــــــافرٌ

هدايا والدهُ كثيرةً لدرجةِ أنَّ إحصائها أمرٌ شبهَ مُستحيل , كذلك نزهاتُ الزوراءِ ومدينةِ الالعابِ. (أبو فراس) رجلٌ صبورٌ في عَقدهِ السادسُ , يعتاشُ براتبهِ التقاعدي, يسكنُ بيتاً متواضعاً , معْ أسرتهِ (فراس, رقية , سيف ) همْ بالترتيبِ منَ أكبرهمْ الى أصغرهم , بوجود أمٍ متفانية, غزتْ وجهها كسراتُ الكبرَ, وتقوسُ الظهرِ, فهي قدْ بلغتْ الخمسينَ , وتبدو بصحةٍ جيدةٍ , وروح الدعابةِ هو ما يميزها , اعتادتْ تحضيرِ وجبةِ الافطارِ , مع أرغفةِ الخبزِ المحمّصِ , والذي تعدهُ بيديها كلَّ صباح , أولُ الحاضرينَ هي الوسطى المدللةُ , تجذبها رائحةُ الشاي المهيّل , أما الاكبرُ والاصغرُ فهما في سباتٍ يومي , استيقاظهم مرهونٌ بصرخاتِ الابِ العجوزِ, تزعجهمْ قوانينُ أولِ النهار , ولكن سرعانَ ما تدبُّ في نفوسهمْ البهجةُ , خصوصاً وأنهمْ تعودوا أخذَ الرشفةِ الاولى من كوبِ أختهمْ , مطلقينَ ضحكةً حمقاءَ , تجعلُ من المسكينةِ موقفها المتبرمُ دونَ حيلةٍ تفعلها .. ما منْ صديقٍ لفراس إلا وكانتْ لهُ رغبةً للسفرِ, فهمْ يتبادلونَ هذهِ النقاشاتِ كلما اشتدَّ سأمهمْ في العيشِ على أرضٍ زلزاليةٍ , لا تنفكُّ أنْ تهتزَّ كلَّ فترةٍ , لتبتلعَ أحلامهمْ رغمَ بساطتها , إلا أنهُ يعارضُ دائماً الانصياعَ لرأيهم , ويردهمْ أننا أولاً علينا أخذُ شهادةِ الهندسةِ , ثمَّ لكلِ حادثٍ حديث , يقولها محملقاً اليهمْ , فيستعُ بؤبؤ عينيهِ كما تتسعُ طموحاتهِ ..
هذهِ المرةُ فاتحَ الابنُ البكرُ أباهُ على المائدةِ , يا أبتي : لقدْ قررتُ الهجرةَ الى البلدان (الاسكندنافية ). كصعقةٍ كهربائيةٍ تلقى النبأ . ذهولٌ أصابَ الجميع !, فتوقفوا عنِ الاكلِ . بعدها ردّ الابُ : يا بني هلْ من خطب ؟.
– لا . فقط أبحثُ عنِ مستقبلٍ .
– مستقبلكَ ها هنا . وأشار بسبابتهِ الى الخارطةِ الجدارية للوطن.
– وأينَ همْ طلاّبكَ منها بعدَ طولِ السنينِ يا أبتي ؟
– لا يهم ! .
– لماذا نسكنُ بإيجار ؟ . – أطرقَ قليلاً , ولمْ يُجبْ .
تدخلتِ الامُّ قائلةً : اصبر يا ولدي . ولا تتعجل الامور .
ردّها : مازلتِ تبيعينَ الخبزَ .. لماذا؟.
أخفقتْ مساعي الاهلِ لعدولهِ عن قرارهِ . وبعدَ شهرٍ حزمَ أمتعتهُ , وبادرَ بالتسليمِ عليهمْ فرداً فرداً , إلاّ أنَّ (رقيةَ) ضلتْ متشبثةً بهِ , تتوسلهُ البقاء . ولمْ تتركهُ إلاّ عندما سمعتهُ يهمسُ في أذنها بالقول : سأعودُ عما قريب ..
ركبَ الطائرةَ . بعدها عصفتْ بخيالهِ سرعةَ الايامِ ,فتشتتَ بالهُ . بالأمس كانَ يعارضُ أصدقاءهُ والقرارُ معلقٌ بالشهادةِ , والانُ هو يطيرُ . استحضرَ لعبةَ القطارِ المفضلةَ لديهِ, والتي أهداها لهُ والدهُ في عيدِ ميلادهِ الرابع ,حيثُ سألهُ حينذاك : لماذا سكةُ القطارِ مدورةٌ ؟ , فأجابهُ : لانَّ المسافرَ يذهبُ ويعودُ .. جميلةٌ هي ذكرياتُ الطفولةُ – قالها مع نفسه مبتسماً – بعدها ودّعَ بعينيهِ أرضَ الوطنِ قائلاً : أنا مسافرٌ بالطائرةِ وليسَ بالقطار ..!!