22 ديسمبر، 2024 9:41 م

مسرح تشيخوف في رأي بروك

مسرح تشيخوف في رأي بروك

مقاطع من حوار مع المخرج المسرحي الانكليزي بيتر بروك ( 1925 – 2022 ) , الذي قدّم على خشبة مسارح باريس أعمال تشيخوف المسرحية …. .

….. يتميّز مسرح تشيخوف بالدقة والبساطة والاصالة … كان تشيخوف يريد ان يكون الاخراج شفافا , وكذلك التمثيل , شفافا مثل الحياة نفسها , لكن عندما نحاول التعبير عن أجواء المسرحية , فاننا نعاني – بلا ارادتنا – من منح الجمل طابعا أدبيا , بينما هي بالروسية تجسّد البساطة بعينها , ان لغة تشيخوف مركّزة ومكثّفة جدا , وهي تذكّر بلغة بينتر او بيكيت , اذ كما هو الحال لديهما , يعتبر بناء الجملة مهما جدا , وكذلك ايقاعها والشعر المسرحي للمفردات , التي تشغل مكانها المحدد وتمتلك نبرتها الدقيقة والصحيحة , فعندما يقول شخص ما كلمة ( نعم ) مثلا , فانها تعتبر الكلمة الوحيدة التي تعبّر عن الموقف بشكل كامل , ولا يمكن ان تكون هناك كلمة اخرى …
لم يستخدم شكسبير علامات الترقيم , وتلك التي نجدها في نتاجاته جاءت بعد فترة طويلة . ان مسرحيات شكسبير مثل البرقيات , ويجب على الممثلين انفسهم ان يقسموا كلماتهم الى مجاميع , أمّا عند تشيخوف , فاننا نجد العكس تماما , فالنقطة والفارزة وتعدد النقاط , كل ذلك مهم وبشكل غير اعتيادي , وعندما لا نراعيها او نلتزم بها , فان المسرحية تفقد ايقاعها وتوترها . ان الفواصل بين الكلمات عند تشيخوف تؤدّي نفس أدوار علامات البرقيات السريّة , اذ انها تعبّر عن علاقات واحاسيس الشخصيات , وتسجّل لحظات امتزاج افكارهم وتلاحمها او الحركة الخاصة بتلك الافكار . ان علامات الترقيم تكشف الشئ الذي لزمت الكلمات الصمت عنه .
تشيخوف – استاذ مثالي في مجال المونتاج , فبدلا من الانتقال من مشهد الى آخر , ومن الممكن حتى من مكان حدث الى آخر , ينتقل تشيخوف من احساس الى آخر , وهو يقوم بذلك رأسا بعد لحظة من التعبير الكامل عن هذا الاحساس او ذاك , ففي تلك اللحظة , عندما تستحوذ شخصية ما على الانتباه كليّا , يظهر فجأة موقف غير متوقع . كل شئ عند هذا الكاتب المسرحي غير ثابت وغير مستقر . ان تشيخوف يعرض الناس والمجتمع في وضعية متغيّرة بلا توقف , انه كاتب الحياة المتحركة دائما , الحياة الجدّية والمرحة في آن واحد , المضحكة والمريرة معا . يجب ان ننسى الكآبة السلافية , الموجودة فقط في موسيقى المطاعم الليلية , وهذا هو الموضوع الذي غالبا ما كان يثير الخلافات بينه وبين ستانسلافسكي , اذ ان تشيخوف لم يكن يتحمّل تلك النبرة الدراماتيكية التي يضعها المخرج على تلك المسرحيات . ان هذا لا يعني بالطبع , اننا يجب ان نقدم مسرحية ( بستان الكرز ) مثلا , على اعتبارها مسرحية هزلية . ان تشيخوف هو مراقب دقيق جدا لكوميديا الحياة الانسانية . انه طبيب , ومن ثمّ , فانه يعرف مكنونات حياتنا وجوهرها , ويستطيع ان يشخّص الحالة المرضية .
توجد في أعماق تشيخوف الرقّة ويوجد الانتباه والحنان , ولكن لا توجد في أعماقه تلك العواطف الجيّاشة . هل يمكن ان نتصور طبيبا يذرف الدموع على آلآم مراجعيه ؟ ان هذا سيكون منتهى السخف . لكنه مقابل ذلك , حتى عندما كان تشيخوف عاشقا , فانه كان يلاحظ عدم وجود التكامل وعدم الرضى الداخلي في كيان حبيبته , ولم يمتعض منه , وانما كان يستطيع ان يتعامل معه مبتسما .
يوجد الموت في مسرحيات تشيخوف دائما , الموت الذي نعرفه جيدا , لكن لا يوجد هنا شئ مؤلم , كما يحدث في المغالاة الفنية عند الآخرين . ان الاحساس بالموت مرتبط عنده بالتشّوق تجاه الحياة والموت . لقد جاب تشيخوف الحياة طويلا , وشارك في جوانبها الاجتماعية , وكتب , وأحب , ومات شابا , وعندما كان يموت طلب كأسا من الشمبانيا , اما جثمانه , فقد نقلوه في عربة قطار مكتوب عليها ( محّار طازج ) … ان هذه الفكرة عن الموت وعن اللحظات الثمينة التي بقيت لديه في الحياة , هي التي كانت تمنحه دائما الوعي , بان كل الاشياء نسبية , وبتعبير آخر , هي التي ساعدته ان يحافظ على تلك المسافة الكافية , كي لا يغيب عن باله ابدا الجانب الكوميدي للدراما…..
———————————————————————————————————————
——————————————————————————————————————–
من كتاب – ( سبعون مقالة عن تشيخوف ) , الذي سيصدر عن دار نوّار للنشر قريبا في بغداد وموسكو .
ضياء نافع