23 ديسمبر، 2024 10:12 ص

مسرح المقهورين في الناصرية

مسرح المقهورين في الناصرية

طالما طالبت بتفعيل المسرح الجماهيري في العراق عموما وفي الناصرية بشكل خاص كوني جزءا من محيطها الجغرافي والاجتماعي .
مطالبتي هذه متولدة عن قناعة راسخة  تتمثل بقدرة المسرح في التأثير على البناء الثقافي السائد في المجتمع واعادة صياغة هيكله  بعد تقويض مرتكزاته القديمة البالية وتشييد مرتكزات حديثة  تلائم روح العصر الذي نعيشه .
فللمسرح باعتباره فنا جماهيرا خطيرا ، جملة ادوار يضطلع بها ، لعل  من بينها التوجيه والارشاد والتعليم والوعظ ، اضافةالى وظائف اخرى كثيرة ، وهذه كلها اساليب   تثقيفة  تلقى استجابة كبيرة من لدن المتلقين بصورة عامة ، خصوصا اذا ماجاءت عبر خطاب عرض مفعم بالجماليات التي تكشف عن عقلية اخراجية متطورة  .
ورغم ان تجربة مسرح المقهورين لم تأت كأستجابة مباشرة لما ابتغيت  انا شخصيا ، وانما جاءت كمشروع ابداعي ذي طابع جماهيري تبناه الفنان الدكتور ياسر البراك ، الا انني احسست بأن ما تمنيته وحلمت به قد صار واقعا مجسدا على ارض المسرح .لقد وجدتها ، وانا اشاهد التطبيق الاول لها والمتمثل بمسرحية (ورطه) المأخوذة من مسرحية الفيل ياملك الزمان للمؤلف سعد الله ونوس ،  تجربة ناجحة ومهمة  وقابلة للتطور في المستقبل ، وذلك لسبب اساسي  يتمثل  بعملية التوجه المتبادل مابين طرفي المعادلة المسرحية (العرض والجمهور) .حيث توجه الطرف الاول حاملا خطابه نحو من في الصالة بطريقة ايحائية واضحة وتوجه الطرف الثاني الى الخشبة حاملا اراءه وحلوله المقترحة لمشاكل ابطال الحكاية الذين هم في الاصل يمثلون الجمهور نفسه من الناحيةالواقعية.ان الحمولة الفكرية للخطاب وصلت بشكل مباشر الى وعي المتلقين  وذلك لارتباطها باوضاعهم الشخصية المرتبطة اصلا بالاوضاع السياسية السائدة ،  واحدثت تأثيرها الاني عليهم  ،  وهذا ماجعلهم يضفون الكثير من تأويلاتهم الخاصة عليه،  ومن ثم  القيام (بأدوار ممثلين مكملين ) عندما طلب منهم المخرج في نهاية العرض طرح اراءهم ومقترحاتهم الشخصية بخصوص موضوع المسرحية  . حيث اعتلى البعض منهم الخشبة( نساء ورجالا )  ،وعلى ضوء الامكانيات الادائية لكل واحد منهم ، بدءوا يتقمصون دور الشخصية المحورية امام المشاهدين ، ويطرحون الحلول  البديلة ، بعد ان كانوا قد ناقشوها في الصالة مع مخرج العمل .
لقد نجحت مجموعة الممثلين الشبان  وبدرجة مقنعة  في تقديم عرض جمالي- فكري  شد الجمهور نحوهم ، ونجح المخرج في التركيز على الثيمة الاساسية للنص لاعتقاده بأنها خلاصة مايرمي اليه في المحصلة الاخيرة ،حيث عمد الى   ترشيق العرض وعدم الدخول في الترهل الخالق للملل من خلال الانشغال بماهو ثانوي وغير مهم للنسيج الدرامي  . 
وكان لمتممات العرض من انارة وموسيقى تصورية  دور مهم  في النجاح  رغم فقر الامكانيات المزمن الذي يعاني منه المسرح في الناصرية ولعل اول واهم ملامح هذا الفقر هو عدم وجود صالة عرض حديثة تتناسب والتاريخ المسرحي العريق لهذه المدينة .ان مسرح المقهورين الذي نظَر له البرازيلي اوغستو بوال هو نمط من مجموعة انماط مسرحية متقاربة في التوجه مثل مسرح حلقة النقاش ومسرح الجريدة ومسرح الصورة ،حيث تعالج هذه باجمعها  مشاكل اجتماعية وسياسية  ساخنة تخص حياة الافراد الراهنة. ومن هنا جاءت مؤاخذتي الوحيدة على العرض ، حيث وجدت ان الخوف الذي كان ثيمة النص ، ليس هو مشكلة الفرد العراقي حاليا ، اذ ان التحدي والوقوف بوجه القوى السياسية المتسلطة قد اصبح حالة مألوفة في العراق ، وانما مشكلته الاساسية تتمثل بالتشتت وعدم الاتفاق على موقف موحد ازاء اوضاعه الراهنة .ولهذا وددت لو ان المخرج انتبه الى هذا الامر وتجاوز قليلا على مااراده المؤلف وطرح المشكلة المقترحة هذه .
ان قيمة المسرح الحقيقية واهميته كجنس فني ، تتأتى من خلال اقترابه من هموم واهتمامات افراد المجتمع بالدرجة الاولى  وهذا ما وجدته في هذه التجربة الاولى ، لذلك   أأمل ان تستمر مستقبلا ولاتقف عند هذا الحد ، وان تتجه نحو الشرائح المختلفة التي اصبحت بأمس الحاجة الى ثقافة بديلة غير هذه السائدة الان .