لا شك أن المسرح فن عريق وضارب القدم في تاريخ البشرية، بحيث اتخذ أشكالاً متعددة بحسب البيئة والثقافة التي تشكلت ملامحه في أحضانها ولا عجب بأن يسمى المسرح ب(أبو الفنون)، لكن هذا الفن سبقه وجود فنٍ وسيطٍ قائم بحد ذاته وهو من مهد الطريق لوجود المسرح وحتى وسائل الإعلام وشتى أنواع الفنون بالشكل المتعارف عليه بين الناس فبدأ من خلال الفن المعروف بمسرح الدمى..
وهو فن أدائي يضم عدداً من الفنون كالتأليف، والتصميم، والتشكيل، والتنفيذ، والإخراج، والتمثيل، والتحريك كما يمتلك خصائص درامية مسرحية متميزة مثل المناطق المسرحية، والديكورات والماكياج،
والإكسسوارات، والمؤثرات الصوتية والضوئية، والأزياء، وإخراج هذا النوع من الفن يحتاج إلى مهارة الصانع ورؤيته الإبداعية في خطوط العرض المتصلة من لاعبين، ومصممين فنيين ووضع تصور كلي للدمى بكافة أشكالها وأنواعها، والعمل على خلق نوع من الحبكة الدرامية، وتأزيم أحداثها بطريقة ضاحكة وديناميكية، وقد اعتدنا عند مشاهدة عروض مسرح الدّمى على أن يختبئ (المخرج) تحت الطاولة التي تحمل الدمى ليحركها بخيوطٍ ممدودة، كما شاهدنا في شكلٍ أكثر تطوراً له اختباء المخرج خلف لوح خشبي بحيث يُدخل يديه في الدمى ويحركها بأصابعه فوق لوح الخشب، ويتكلم عن لسانها بأصواتٍ مختلفة حيث يضع في فمه جهازاً يُغير الصوت كما هي العادة في العالم كله، والذي تكون عروض مسرح الدّمى فيه مقامةً في الشوارع والميادين والحدائق..
وبالطبع فإن هذا الفن الذي أصبح منحصراً أو لنقل أنه بات أكثر توجهاً نحو الطفل بعد أن كان موجهاً إلى مختلف الفئات العمرية عند ظهوره وبدايته، وبتطوره أصبح له أكثر من معنى وهدف، كان يستخدم بمثابة منبر أو وسيلة إعلامية لإيصال أفكار الناس ورغباتهم عدا عن كونه مصدر تسليةٍ لهم إلى جانب (خيال الظل)، حيث كان وسيلةً جيدة لحكاية القصص ذات المعاني الإنسانية أو المشكلات الإجتماعية والسياسية دون الإحتكاك المباشر مع الحكام، لكنه أيضاً كان أقرب للتهريج الشعبي والكوميديا ويعتمد على الإرتجال في الحوار، وبكل تأكيد فإن الخصائص التي يملكها توفر عالماً من الخيال والأجواء الحسية التي تستحوذ على انتباه وتركيز الطفل كونها تحمل جميع عناصر الإبهار التي تجذبه وتضمن تفاعله معها، خاصةً عند وجود نوعٍ من الإختلاف والتنوع في الشخصيات بين آدمية وحيوانية ونباتية تهتز وتتحرك وتتحدث بطريقة لافتة للإنتباه وقادرة على الإستحواذ على الطفل، من حيث تركيزه على التفاصيل التي قد تدفعه إلى الضحك أو التأثر من خلال حكايات متنوعة تجمع بين الجد والهزل وتقدم الفكرة بأسلوبٍ يتفق مع عمره وتفكيره وتسهم في نموه وتعززه..
وقد اختلف على بدايات هذا الفن العريق من حيث تاريخ البدء والبلد الذي شهد ولادته على أرضه، لكن آثاره وجدت في أكثر من بلد وضمن معالم أكثر من حضارة ورغم ذلك لم يتم الوصول إلى جوابٍ قاطع حول أصوله فهناك من نسبه إلى الحضارات المتعاقبة في العراق منذ ما يقرب الثمانية آلاف سنة كالسومرية والآشورية مستدلاً على ذلك بالدمى الطينية الأثرية التي تمثل بعض الحيوانات وكذلك تمثال (الإلهة الأم)، كما أن هنالك من ينسب هذا الفن إلى الحضارة الفرعونية في مصر القديمة منذ قرابة ٤٠٠٠ عام مستدلاً بالدمى الفرعونية المحفوظة في متحف اللوفر في باريس، حيث امتلكت تلك الدمى تصميماً يحتوي على مفاصل تمكنها من الحركة، بالإضافة إلى اكتشاف ألعاب مصرية قديمة على هيئة دمى لحيوانات وبشر دللت على حضورها كألعاب للأطفال المصريين القدماء، ويشاع أيضاً أن بعض هذه الدمى التي كانت مصنوعةً من الطين والعاج ومربوطةً بأسلاك كانت تستخدم لطقوسٍ دينية عندما وجدت في مقابر المصريين القدماء..
كما أن الهند أيضاً عرفت تاريخاً طويلاً مع مسرح الدمى منذ ٤٠٠٠ عام أيضاً حيث أن العديد من قصص الدمى وردت في ملحمة (المهابهاراتا) الشهيرة، ويعد المسرح (الكاثبوتي) للدمى المتحركة بالأسلاك والعصي التي تشبه القصبات من أشهر المسارح في منطقة راجستان، وبشكلٍ عام توجد كل أنواع عروض الدمى في الهند أو قد وجدت في فترة من الزمن هناك والتي تتفرع إلى عدة أنواع من مسارح الدمى والتي يمثل كلٌ منها شكلاً خاصاً وهم دمى الخيوط والقصبات والقفاز والظل، ومن باب التوضيح فإن فن الدمى المتحركة بالعصي (الماريونت) مختلف في بعض الخصائص عن مسرح الدمى الذي نتحدث عنه كما أن فن (خيال الظل) يعد أحد فروعه بالغة الأهمية خاصةً في العالم العربي والذين ستفرد لهم مساحة لاحقة للحديث عنهم..
وبينما يعود تاريخ مسرح الدمى على سبيل المثال في بلد عريق كالصين إلى ٣٠٠٠ سنة، نجد تجربة مغايرة كلياً في بلد كالفيتنام فيعود تاريخ مسرح الدمى فيه إلى سبعة قرون خلت حينما كانت حقول الأرز مغمورةً بالمياه ويضطر القرويون لإستخدام هذا العرض للتسلية، فعرض الدمى في هذا البلد يختلف تماماً عن العروض في البلدان الأخرى حيث يتم فوق المياه، كما أن الدمى تصنع من الخشب ويتم تنفيذ العرض في بركةٍ كبيرة تصل حتى منطقة الخصر، وهنالك عصى كبيرة الحجم يستخدمها المحركون من تحت المياه للتحكم بالدمى مما يخلق مشهداً استثنائياً للدمى التي تتحرك على سطحها، وأدت المنافسة على مسابقات عرض الدمى بين القرى الفيتنامية في النهاية إلى إنشاء جماعاتٍ سرية للدمى.. والذي لم يتوقف عند هذه البلدان بل ظهر وعرف العديد من التطورات والأشكال التي اتخذها في دول أخرى آسيوية وأوروبية وافريقية ولاتينية وصولاً إلى الدول الكبرى التي قدمته بشكلٍ مبهر وبإمكانات إنتاجية عالية عبر مسارحها كفرنسا وبريطانيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية..
حيث انتقل هذا الفن من بلد إلى آخر فظهر في أوروبا في بلاط الملوك والأمراء والساحات والأسواق، وأصبح لمسرح الدمى ذكر في أعمال كتاب مهمين مثل ميغل، موليير، وليام شكسبير، كريستوفر مارلو وڤولتيير وبذلك اكتسب فرصة تقديم أعمال كتبت أصلاً للمسرح
الآدمي، إضافةً إلى أعمالها المخصصة لها وبذلك نالت شهرة واسعة جداً وصلت لأغلب بلاد العالم..
لكن على صعيد العالم العربي فإن مسرح الدمى ظهر في زمن الدولة العباسية بإسم (خيال الظل) وهو أحد أشكاله العريقة، والذي انتقل إليهم من الصين أو الهند عبر إيران التي دخلها عام ١٠٠٠ م، وقد اشتهر خلال العصر المملوكي في مصر، والذي انتشر وتطور لاحقاً وأضيف له فن الغناء والرقص، وبالطبع فقد عرف هذا الفن طريقه الى بقية الدول العربية سواءاً كان ذلك بإتجاه بلاد الشام أو السودان والدول المغاربية، ولكنها عرفت طريقها نحو تركيا من خلال الحفلات والعروض التي أقيمت في مصر هنالك تكريماً للسلطان (سليم الأول) آنذاك، وقيل انه أعجب بالعرض وقرر أن يأخذ بعضاً من محركي الدمى معه إلى إسطنبول وفي وقت لاحق أبدى السلطان سليمان القانوني اهتمامه الشديد بالموضوع..
واليوم برغم وجود تاريخ وتجارب هامة لمسرح الدمى عربياً إلا أن الواقع اليوم مؤسف للغاية، فبإستعادة نشأة بعض هذه التجارب بدايةً من مسرح القاهرة للعرائس (الذي أنشئ عام ١٩٥٩) كأكبر مسرح في العالم العربي وهو نفس العام الذي تأسست فيه شعبة مستقلة لمسرح الدمى في المملكة المغربية، وتأسيس أول فرقة
لمسرح العرائس في سوريا منذ عام ١٩٦٠ لتبدأ عروضها في العام التالي، مروراً بالتجربة الأردنية عام ١٩٧١ إلى جانب كوكبة من التجارب في السودان عام ١٩٧٦ وتونس عام ١٩٧٨ وغيرهم الكثير.. لا زال الحال لمسرح الدمى أسوة بالكثير من قطاعات الثقافة والفنون والآداب والتعليم مؤسفاً وسط كل مظاهر التطور الرقمي الذي نعيشه ويساهم في تراجعه، خاصةً في غياب الدعم اللازم والثقافة الحاضنة له والفنانين الذين يقبلون على احترافه والمناخ الملائم لينتعش فيه ليقدر على منافسة باقي الفنون وجذب الطفل إليه بعد أن أصبحنا نعيش في الحياة الإفتراضية أكثر مما نعيش على أرض الواقع..