مسرحية (حفلة سمر من اجل 5 حزيران) نموذجاً
لا شك ان المسرح السياسي كرافد من الروافد الفنية المسرحية، يعتبر ثمرة لنضالات الفنان والانسان ضد الاوجه البغيضة بصورها المختلفة والتي تحاول الوقوف بتحد امام اندفاعاته وامتلاكه لوعيه الايديولوجي كقوة ثورية مؤثرة وفاعلة، ولذا، فقد اتخذ منذ البدء مواقف ملتزمة واشكالاً متميزة في التعامل الفني لتحقيق مكانة هامة وبارزة تعيد تصوير المتغيرات الحاسمة في حياة الانسان تصويرا داخلياً، اي تغلغلت في اعماقه واكتشفت جوهر القضية التي يناضل من اجلها، فعبرت عنه بشكل جدلي يحلل العلاقات الانسانية دون ان يبتعد عن الحالة الحضارية فكريا وجمالياً. مما عزز وجود نوع من التفرد والسمو في القيمة الفنية المعطاة في العمل المسرحي وتكييفه ضمن اطار الفكرة السياسية الثورية التي تفهم الواقع ومتناقضاته وتركيب العصر واوضاعه التاريخية.
واذا كان الابداع الادبي والفني في أية فترة حضارية معادلاً للتعبير المباشر او غير المباشر عن هذه الفترة، فأن المسرح السياسي بالذات كان من اهم الابداعات التي تفاعلت مع فترة ما بعد نكسة 1967. وكان للواقع الحضاري والعربي بمكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية تأثيره على المسرح السياسي بانواعه من مسرح تحريضي مباشر يطرح كثيراً من السياسة وقليلاً من الفن، عامداً الى مشاركة الجمهور ومخاطبة عقولهم، ثم المسرح الملحمي الذي يعمد الى مخاطبة العقل وكسر اي ايهام ارسطي، ثم المسرح التسجيلي الذي يعتمد على الحقائق والوثائق والاحصاءات، ثم يعرضها بشكل فني مستخدماً اسلوب المسرح الشامل من تمثيل وغناء ورقص وموسيقى.. واخيراً مسرح الاسقاط السياسي الذي يعتمد الى الابعاد سواء كان ابعاداً مكانياً او ابعادا زمانياً في التاريخ، او اللجوء الى قالب الفانتازيا والاسطورة حتى ينجو كاتب مسرح الاسقاط من عوائق الرقابة، وبعد هذا النوع (مسرح الاسقاط السياسي) من ارقى انواع المسارح السياسية، حيث يطرح كثيراً من الفن وقليلاً من السياسة وقليلاً من المباشرة.
والمسرح السياسي في الحقيقة ليس نقلاً حرفياً او استنساخاً للاحداث دون ان يفسر ويعكس مواقف واراء الكاتب بدافع تغييري غير مطابق للاشكال الاعلانية في الواقع. فتأكيده واضح بالنسبة للالتزام والرؤية السياسية الناجزة في الفن دون تدخل او اضفاء صفة المراقب والواعظ التاريخي.
وهنا تكون للكاتب مهمة ايجابية وتتكشف قيمة مواجهته للحوادث التاريخية على مدى قدرته على اعادة تفسير التاريخ وعلى الاستفادة من الادوات الفنية لتجسيد تفسيره على منصة المسرح.
فموقف الفنان ازاء لخطة التحدي التي تواجهه من قبل القوى المستغلة، وتجسد حالة الصراع القائمة بين القوى الثورية والقوى التسلطية المستبدة.. تجسد الموقف الملتزم بالانسان ومحاولة اتشاله من جيوب التعسف التي تثقل حركته وتضع بينه وبين امتلاك الوعي، هوة سحيقة، تواجه هذه الحالات باستفسارات عديدة
مشروعة تمكنه وتحفزه لتعميق المفهوم الثوري للنضال والتجاوز وفرز المتناقضات الواقعية وتشخيص طموحاته واهدافه السياسية، مبتعداً عن المطالبة بأحداث عمليات تفريغ للعاطفة مستهدفاً ومستنبطاً أثارة الحوافز والتسريع في شد خيوط وعي الناس وتصعيد يقظاتهم ازاء الاحداث وضرورة الثورة والاقتناع بتحدي وفضح الطبقات الحاكمة المتعفنة، رغم خشية العنف الذي تمارسه تلك الطبقة.
من هنا تبرز خصوصية وشكلية المسرح السياسي واختلافاته مع الأطر المسرحية الاخرى، وتمكنه من اتخاذ ابعاد فنية ذات قوة مؤثرة وفعل ثوري متجسد ومتطور اضفى قيمة فكرية وفنية على وظيفته الاجتماعية والسياسية. فسماته تعتمد اساساً على محتوى سياسي يتداخل في العرض المسرحي ويجعله عرضاً حقيقياً منبثقاً من الحياة ويدخل الحيوية على النص المسرحي، ويحتوي على تأثير تربوي ومعرفة شعرية.
ويبدو الاختلاف بيناً في الصيغة التعبيرية وتناول الموضوعات الحياتية. فاذا اخذنا المسائل بشكل مطلق وشمولي نجد ان المسرح كجزء من تكوين حضاري، عالج ويعالج الاوضاع والسمات السياسية بصيغ وصور شتى متناولاً جوانب واطراف الواقع، كقضايا حساسة تؤثر سلباً وايجاباً على حركة التاريخ وحركة الانسان. وبهذا التصور يكون المسرح عموماً مسرحاً سياسياً ولكن الى حد ما غير متضمن لمفهوم المسرح السياسي كمحتوى فكري وفني ذي خصوصية.
فان المسرح السياسي اتخذ شكلاً خاصاً متميزاً من اشكال المسرح واستطاع ان يصل الى المرحلة التي اصبح فيها قوة فنية ثورية مؤثرة بمساعدة نتاجات مجددين امثال: سعد الله ونوس، و ألفريد فرج، ومعين بسيسو،…
فالمسرح السياسي يختار الموضوعات التي تبنى على اشكال وانطباعات ومواقف سياسية مستمدة اساساً من مادة شعرية او نثرية، ومن الوثائق والملفات والحقائق السياسية، اضافة الى انه يطرح احيانا مسرحيات ذات سمات درامية تحمل في فعلها الفني افكاراً ومحتويات متميزة وذات طابع سياسي، متناولاً في احيان مسرحيات كلاسيكية بصيغة الاعداد المسرحي الجديد لها من خلال رؤى سياسية ثورية.
* البعد السياسي في المسرح العربي
اذا حاولنا استقراء الابعاد السياسية في المسرح العربي، تواجهنا حقيقة قائمة لا غبار عليها، وهي محاولة الكشف عن الرؤية والاداة الاساسيتين في هذا المسرح، وخصوصيته، وتطلعاته، ومنطلقاته التاريخية. اي جوهر الجذور والتكوينات والبناءات الفكرية والامتدادات الزمانية والمكانية.
من هنا يتوجب الوقوف على ركائز رئيسية لتوضيح معالم ومنهجية وطموحات المسرح العربي، باعتبار ان خصوصية العام هي احتواء لخصوصية الخاص، وهذا يعول الى الاعتماد او الاحتكام الى نظرية فنية ومنهج جدلي يعبر عن روحية التأريخ العربي بمساراته الفكرية والعقلية التي تدخل ضمن حساباتها – التشكل والتعقد البعيد عن السطحية والسرد الوصفي- نظرية تتكون وشائجها وتحدد ارتباطاتها بصورة الانسان والحياة وتحليلها وفق روح ثورية وبصيغ مستجدة ومتطورة.
وتأسيساً على ما تقدم، نطرح التساؤلات التالية:
* ما هي معالم المسرح السياسي العربي؟
* ما هي مقوماته التعبيرية والشكلية؟
* الى اي حد استفاد هذا المسرح من ادواته الفكرية والبنائية وفي التوعية والنهوض العربي؟
* هل بالامكان اكتشاف الهوية الوطنية وطرحها في افقها العالمي كقضية ذات ابعاد انسانية عبر تأسيساته وطروحاته؟
* ما هي بصماته الفنية التي علقت بذاكرة التاريخ كانجازات تحمل خصوصية عربية؟
* الى اي مدى يظل يعتمد على التجارب المسرحية المطروحة من الخارج؟
في اعتقادي، ان الاجابة على هذه التساؤلات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتكوينات الحضارية والتاريخية والسياسية للامة العربية، وبتطور الواقع العربي وبمديات قدرة المبدعين العرب على تجسيد واحياء الفكر العربي وصراعاته والتعبير عن ارهاصاته السياسية على مدى قرون ماضية طويلة.. كون المسرح هو تعبير حي عن الحقيقة الواقعية، وان هذا التعبير يأخذ صورة التحرر والانعتاق من قمقم التشويه والمسوخات الفكرية والفنية، وهذه الصورة لا تتشكل ابعادها الجمالية الا في المجتمعات المتحررة. فالشرط الاساس هنا هو مستقبل هذه الامة ومستقبل الواقع العربي وانعكاساته على مجمل العملية الابداعية والفنية ومن ضمنها المسرح باشكاله المتعددة.
المتتبع لحركة المسرح العربي وتجاربه السياسية المتواضعة، يجد هناك ايماءات تمثل البدايات والبذور الاولى التي تحاول ان تأخذ على عاتقها مهمة الوظيفة الاجتماعية في امتاع الجماهير واتحافها باعمال مسرحية تعلمها وتحمسها على التفكير والفعل، وتعالج مشاكلها الواقعية والحياتية باشكال يتوخى منها امكان اسعاد انسانها العربي وانتشاله من اتون الاستغلال والعبودية، آخذة به في طريق البناء العربي الديمقراطي الموحد لخدمة الانسانية في اوجه الحقيقية والجمال.
ولكن مع كل ذلك تظل الازمة، ازمة الفكر المتخلف السائد او الحاكم في بعض الانظمة، وعدم قدرته على معاناة الفكر المعارض، ليس فقط في المسرح، بل في كل وسائل التعبير، مما يدلل ويؤكد على اهمية هذا المسرح وقدراته على استنهاض الجماهير وشحنها بطاقات الوعي السياسي المرتكز على فهم عميق للانسان ودوره الفاعل والخالق في الممارسة الثورية والانقلابية الاجتماعية ومعرفته التاريخية والايديولوجية في التحديات والمواجهات..
ان المسرح العربي عموماً والمسرح السياسي خاصة، بحاجة الى ان يعمق العناصر الاساسية في التعامل مع التاريخ والواقع، وان يركز على شمولية البطل وعرض قدراته المتحكمة في مجرى التاريخ، وتأصيل شخصيته وتبيان امكاناته غير المحدودة على تغيير وجه الزمن.
ستبقى للمسرح السياسي ضرورته في التوعية الجماهيرية وتوصيل الفكر العربي الملتزم والمضاد لكل الطبقات والانظمة المضطهدة للانسان وقيمه التاريخية والانسانية وتعميق الفعل السياسي الثوري المناضل لاسقاط البنى التعسفية المستبدة.
* احباطات الواقع…
مع نهاية عقد الستينات من القرن العشرين، وبداية عقد السبعينات، خضع المسرح في الوطن العربي لمراجعة اساسية فبدأ يتخذ طريقاً جديداً لرؤياه، فقد حاول اعادة اكتشاف الواقع العربي، وكشفه والاسهام في تغيره، بدأ المسرح الاستفادة من منهج التداخل والمباعدة والاغراب وكسر الحائط الرابع والاتجاه نحو المسرح الملحمي والتعليمي والتسجيلي، مثل مسرحية (حفلة سمر من اجل 5/ حزيران) لسعد الله ونوس – موضوع دراستنا- ومسرحية (النار والزيتون) لالفريد فرج، و (ثورة الزنج) لمعين بسيسو.
وظهرت تجارب تدعو للتغيير، لم تكن وليدة الصدفة ولكنها كانت امراً طبيعياً ومنطقياً، جاء نتيجة التحولات الجديدة في مجتمنا وخاصة بعد النكسة، حيث بدأ المثقفون والمسرحيون العرب يفتحون اعينهم على الواقع، وبدأت رحلة البحث عن الذات العربية وعن حقيقة الواقع العربي الذي نعيشه، وقد استطاعوا كسر حاجز الصمت الذي عرفه المسرح العربي، وغدا الجمهور مشاركاً في العمل المسرحي، يناقش ويحاور ويقبل ويرفض، يعارض ويعترض.. انطلاقاً من ان المسألة تخص هذا الجمهور اولاً واخيراً لانه يتحمل نتائج الصراع.. وبذلك اصبح المسرح بعد النكسة في بعض الاحيان –اذا استطاع ان ينجو من الرقابة- مسرحاً للمعركة، واصبح بامكان رجال المسرح المشاركة في صنع تاريخهم الخاص وتاريخ امتهم، باسهامهم فعلياً في حركة النضال، بغورهم داخل الاشياء والاسباب التي ادت الى الانتكاسة العربية، وفهم كل ابعاد مأساة انساننا في جميع انحاء الوطن العربي ومعاناته، عبر معركته الحضارية الضارية ضد كل اوضاع السلب والتخلف والنكسة الحضارية المزمنة.
* حفلة سمر من اجل 5/ حزيران
لعل مسرحية (حفلة سمر من اجل 5/حزيران) لسعد الله ونوس، هي اهم مسرحية ظهرت اعقاب هزيمة حزيران 1967، لتعبر عن هموم الهزيمة ولتجيب على جميع الاسئلة التي تتبادر الى ذهننا حول اسبابها من محاور شتى.
فكيف صنع سعد الله ونوس ذلك؟
ان للمسألة بعدين: واقعي ورمزي.
نحن في مسرح يقدم عملاً عن حزيران/ 1967، ويحضر العرض عدد من الرسميين. وعلى المسرح، الذي يشير الى ابعاد اكبر من حجمه، نرى قضية مصيرية تتعرى.
المخرج يريد ان يقدم قصة الهزيمة كمهزلة تعتمد التزييف، وعندما يثور المتفرجون ويطردونه ليقولوا كلمتهم ويناقشوا هزيمتهم، الاسباب والنتائج الحقيقية، نرى فجأة في اللحظة الحاسمة، كيف تفتقر قوى القمع فتمنعهم كما منعتهم من قبل عندما اتت لحظة الفعل عن ممارسة حقهم في التعبير والفهم ومن ثم المشاركة في النضال.
وقد تكون جرأة هذه المسرحية في التعرض لسياسة الايهام والكبت، هي احد الاسباب التي صنعت شهرتها وقتها، خصوصاً وانها منعت من العرض طيلة سنوات.. ولكن ذلك من جهة اخرى ادى ببعضهم الى اساءة تفسيرها، فرحبت بها جماعات على انها احد اصوات الثورة المضادة، وخافت منها جماعات على اعتبار انها طعنة موجهة الى القوى التقدمية، ورغم هذه العوامل الجانبية كانت المسرحية غير ذلك.
حفلة سمر، اراد لها كاتبها ان تكون عملاً تقدمياً يحرض ويحض على مزيد من الثورية.. اراد لها ان تكون صرخة سياسية جريئة ساخرة متوجعة بقدر ما هي مفجعة. لكن ما الذي اغنى تلك الصرخة وجعل من مباشرتها فناً طليعياً رفيعاً؟ أهو الشكل الفني الذي يحطم الجدران الاربعة بآن واحد بدلاً من حائط واحد، او يبنيها بناء جديداً يضم الخشبة والصالة، الممثل والمتفرج؟ ام ترى الجرأة في طرح الاشياء التي افتقدناها طويلاً؟ وماذا كان التأثير والدافع من تقديمها متأخرة عن ظهورها: التحريض ام التنفيس؟ اهم ما في المسرحية، هو الاخلاص وهو التشبث بموقف واضح هو امام ضغوط الاحداث العامة، والبناء السياسي القائم على الاحباط والقمع في عديد من الاقطار العربية. انها كانت بداية واعية وواعدة لمسرح النقد السياسي.
المسرحية لم تعالج الحدث السياسي الواقعي بتسجيلية محضة، بل بحثت في مسبباته، وجسدتها. والمسرحية ضمن اعمال سعد الله ونوس تنويع جديد على لحن الخوف. وما اسميه الخوف هنا ليس مفهوماً سطحياً مباشراً كما في (مأساة بائع الدبس الفقير) ولا حتى في معالجة (الفيل يا ملك الزمان) للكاتب نفسه، ولكنه الخوف بمعناه الاشمل، معناها الجدلي، اي ما يتضمن النقيض ايضاً وهو الشجاعة. والامر لايقتصر على مضمون المسرحية وانما على شكلها ولا يقتصر على فكرها وانما على ذاتها.
لقد عبر نوس عن موقف تقدمي دون ريب، لكن ما يلفت نظر الجميع واعجابهم بالمسرحية ليس تقدميتها فحسب وانما امران: اولهما بعدها عن الدعائية وتهكمهاعلى اساليبها المزيفة، وثانيهما الانطلاق من واقع هذه الامة وآلامها للتحدث عن أخطر القضايا وهي قضية الحرية وقضية المسؤولية تجاه احداث الوطن: الحرية والمسؤولية في الداخل والخارج، والهزيمة في الداخل والخارج. وقد استطاعت المسرحية فعلاً ان تمس صلب ازمتنا وتطرح التساؤلات الخطيرة حول ما كان وما يجب ان يكون. وهي تنتهي من دون حل جاهز نهاية مأساوية ساخرة فيها جميع ما في واقعنا من تبرير وتزييف واحباط. ولكن الغريب فيها انها حاربت الخطابة، وانها عالجت واقع امتنا بطريقة تبناها اليمين واليسار العربيين بآن واحد.
حفلة سمر، رغم طبيعتها، تحمل نفس الايقاعات التأثيرية للدراما العظيمة، فلنلق نظرة جديدة على المضمون او بالاحرى على طرح المضمون.
المسرحية يمكن ان تلخص في انها صراع درامي بين مجموعة اصبحت تحل محل البطل التراجيدي، تبحث عن هويتها “من نحن؟” وعن سبب احباطها وضياعها الذي ادى الى الهزيمة. ولماذا؟ هذه المجموعة الحقيقية تناضل ضد قوى التزييف المنعكسة على المسرح.. تناضل ضد قدر لم تصنعه لها السماء، ولا العدو وحده، قبل الهزيمة يوجد السؤال: الهزيمة تنفض عنه الغبار لا اكثر، والسؤال هو عن الهوية وعن المسؤولية عن حركة الفعل، عن خنقة تلك الحرية في لحظة المواجهة.
“هل نحن موجودون؟” يتساءل احدهم، تركيب آخر بأن هذه ليست القضية وانما هي في الاصوات التي احبطتهم قائلة خلف المكبرات: “نقدر عواطفكم، ولكنكم تسهلون مهمة اعداء الشعب والمتآمرين على النظام”. الحرب ليست من شؤونكم وعودوا الى بيوتكم وتابعوا من وراء مذياعاتكم بطولات جيشنا الباسل.
بكلمات قليلة يلخص ونوس ابعاد القضية، وسالت بنا الشوارع، آلاف من الناس البسطاء الذين لا يريدون ان يغتصبوا، الذين لا يريدون ان يزدادوا فقراً ومذلة. هتاف وجيز وبسيط.. ماذا تطلبون؟
ان الظلم الطبقي اساس في القضية وسبب جوهري لها، فاللصوص عددهم كبير، وحماة اللصوص اكثر عدداً من اللصوص، كانت تلك حرب الجماهير ذات الابعاد الواسعة ضد شتى انواع الظلم. وتمنينا جميعاً ان نكون ذلك الذي كالجنود يحمل بندقية، لكنه لا يلبس ثياباً خضراء وعن الجنود يختلف ويتخلف.
انه صراع ضد الخوف، بحثاً عن الكرامة الانسانية وعن الحرية ليمارس الشعب دوره في تحمل المسؤولية ويخترق الحجب التي تفرض جهله وفقره، لكن “لا تنسى ان للمصلحة الوطنية سجوناً لا تنفذ اليها الشمس ولو مرة واحدة في العالم”. تلك هي الحقيقة المرة. ان بقية القصة هي في محاولة التبرير والتزييف الملحقة بالهزيمة حيث لا يدرك المتحدثون انه “عندما تكون رائحة الفم كريهة ينبغي الا يتكلم الانسان..”.
في هذه المسرحية هناك دائماً تقابل جدلي، سؤال وجواب، مقولة ونقيض، دون ان يحول ذلك من اتصال اجزاء المسرحية ببعض وترابطها الوثيق. من هنا تأخذ حفلة سمر شكلاً درامياً نابعاً من طبيعة تكنيكها، تتصاعد حدته تدريجياً.
هناك اتساق شديد الانسجام بين الشكل والمضمون بحيث يصعب فصلهما، فالعلاقة بينهما ايضاً هي علاقة جدلية.
* أخيراً…
ان من يدعي ان ازمة المسرح العربي ازمة نص، قول مغلوط، فالوطن العربي مسرحياً لا يعاني ازمة فكر بقدر ما يعاني ازمة حرية، ازمة النص المسرحي ليست منفصلة عن ازمة الحرية سواء من قبل الدولة او من قبل المثقفين انفسهم.
ان عدم وضوح الرؤية لدى الكاتب ناتج عن عدم نضوج الفكر المحيط به، وفرق كبير بين المسؤولية والعجز، والفرد في مجتمعنا كان عاجزاً لأن اجهزة السلطة كانت تقهر، ولم تكن تبنيه مما اعاق الكاتب المسرحي عن التعبير عن قضايا واقعة.
مسرحية حفلة سمر، تنضوي تحت صنف (الدراما الجدلية). لانها كانت قفزة ذات بعد درامي جيد نحو مسرح حديث طليعي. وكان للتجربة خطرها الكبير بالطبع، خطر ان يكون ضوءاً يشع قليلاً ثم ينطفيء، لانه بلا تيار، بلا اسس. مغامرة اقدم عليها ونوس. مغامرة اختلافية، اختلاف يمكن في النهج وفي التكنيك واحياناً كثيرة في المضامين المطروحة.
لا اعتقد ان احداً يختلف مع الاهداف العامة البعيدة للمسرح الذي دعى اليه ونوس. الاختلاف يكمن في النهج وفي التكنيك واحياناً كثيرة في المضامين المطروحة. شعار ممتاز لمسرح اصيل فعال- المسرح العربي الذي نريد هو الذي يدرك مهمته المزدوجة هذه: ان يعم ويحفز متفرجه. هو المسرح الذي لا يريح المتفرج او ينفس عليه كربته.. بل على العكس هو المسرح الذي يقلق، يزيد المتفرج احتقاناً، وفي المدى البعيد يهيؤه لمباشرة تغيير القدر. ولكن كم هو رقيق وشفاف الخيط الفاصل بين نهاية تشحن واخرى تُفرَغ.
* التوثيق
1- سعد الله ونوس- حفلة سمر من اجل 5 حزيران، ط1، دار الاداب، بيروت، 1968.
2- عادل غضبان- المسرح والمسرح السياسي العربي، مجلة الطليعة الادبية (بغداد)، العدد 9، السنة السادسة.
3- ع. ن- كيف ولدت المسرحية السياسية في الوطن العربي، جريدة القبس (الكويت)، العدد 5042 (24/5/ 1986).
4- رياض عصمت- من مسرح اليسار السياسي،حفلة سمر من اجل 5 حزيران، مجلة الاداب (بيروت)، العدد 10 (ت1/ 1972).
[email protected]