شاهدت خبرا ثقافيا بثته قناة ( روسيا اليوم ) باللغة العربية حول تقديم مسرحية غريبويديف الشعرية من قبل مجموعة من الفنانين الشباب الروس , واطلقت القناة تسمية ( ذو العقل يشقى ) على تلك المسرحية,و قد سررت جدا بذلك, اذ ان هذا يعني ( الاعتراف الرسمي !) برأينا , الذي يؤكد ان هذه التسمية هي افضل وأصح ترجمة عربية لعنوان هذه المسرحية الروسية الشهيرة . لقد سبق لي ان نشرت مقالتي الموسومة – ( غريبويديف والمتنبي ) في عدة مواقع وصحف , ودافعت في تلك المقالة عن هذا الرأي الذي تبلور في اجواء قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد اواسط سبعينيات القرن العشرين الماضي ,عندما رفضنا كل الترجمات المختلفة لتلك المسرحية مثل –( المصيبة من العقل / مصيبة من الذكاء/ الويل من العقل / البؤس من العقل/ الشقاء من العقل / ويل من الفطنة / محنة العقل/ الخ …)وثبتنا ترجمتنا –(ذو العقل يشقى ) , مستخدمين شطر البيت الشعري من قصيدة المتنبي الشهيرة باعتباره العنوان الاصح والاجمل عربيا .
لم تترجم هذه المسرحية الشعرية الى العربية مع الاسف رغم مرور حوالي القرنين تقريبا على ظهورها في روسيا , وموضوع ترجمتها ليس أمرا بسيطا ابدا اذ ان ذلك يتطلب جهودا استثنائية , اما اهميتها ومكانتها في تاريخ الادب الروسي ومسيرته فتكاد ان تكون شبه مجهولة للقارئ العربي , وسنحاول في هذه المقالة الحديث قليلا عن هذه المسرحية بشكل عام ونتمنى العودة لاحقا اليها وتناول جوانبها المختلفة بالتفصيل.
يقف في مركز المسرحية بطلها جاتسكي , النبيل الشاب الذي يعود الى وطنه من السفر ويذهب رأسا الى بيت حبيبته صوفيا فاموسوفا, التي لم يرها لمدة ثلاث سنوات , وهما اللذان تربيا منذ الطفولة معا وكانا يحبان بعضهما بعضا منذ ذلك الحين , الا ان صوفيا غضبت منه لانه تركها فجأة وسافر الى بطرسبورغ ,و ها هو الان يرجع الى بيت والدها فاموسوف بشوق ولهفة وفي اعماقه قرار لتقرير وحسم علاقته بها , ولكن صوفيا تقابله ببرود لم يكن يتوقعه , ويبدو له انها الان تحب شخصا آخر وهو سكرتير والدها الشاب مولجانين , والذي يسكن في دار والدها نفسه , ولم يستطع بطل المسرحية جاتسكي ان يستوعب هذا الموقف من قبل حبيبته السابقة صوفيا , خصوصا وانه فهم طبيعة وخصائص حبيبها هذا واكتشف انه شخص تافه و منافق ومستعد لخدمة كل من يشغل منصب كبير ومتميز , وبالتالي فانه لا يليق بصوفيا وحبها له , وعندما اقتنع جاتسكي بذلك كليا فان أمله قد خاب بالطبع بها وباخلاقية المجتع المحيط بها , وكان والد صوفيا قد دعى في ذلك اليوم مجموعة كبيرة من وجوه المجتمع الارستقراطي لحفل كبير في بيته, وهكذا ( انفجر ) جاتسكي امامهم و بدأ يتصرف انطلاقا من موقفه هذا وأخذ يفضح خصائص ذلك المجتمع الارستقراطي وأخلاقياته ومفاهيمه بشكل صريح ومباشر وأخذ يتناقش مع بعض الحاضرين نقاشا حادا حول عدة قضايا مهمة و ساخنة في ذلك الزمان , والتي كانت مطروحة امام المجتمع الروسي باكمله لدرجة ان هذا المجتمع لم يستطع استيعاب كل هذه الافكار التي تحدث عنها جاتسكي وبدأباثارة اشاعات وأقاويل عن جنونه ليس الا, وهكذا اضطر جاتسكي ان يترك ذلك الحفل ويترك حتى موسكو باكملها. وتوجد اشارة في تاريخ الادب الروسي الى ان غريبويديف نفسه قد تعرض عام 1816 الى حادث مشابه في حفل بمدينة بطرسبورغ , عندما شاهد كيف ان احد الفرنسيين الثرثاريين التافهين قد حاز على اعجاب جميع الروس الذين كانوا حاضرين في الحفل لمجرد انه اجنبي ليس الا, ولم يتحمل غريبويديف ذلك واضطر ان يعبٌر عن آرائه حول كل هذا بخطاب حاد وحاسم لدرجة ان احد الحاضرين قال ان هذا الشخص مجنون, وهكذا سرت الاقاويل والاشاعات في بطرسبورغ حول ذلك , وقد خطط غريبويديف منذ تلك الحادثة ان يكتب مسرحية يسخر فيها من ذلك المجتمع , الذي ينبهر امام ثرثرة الاجانب لمجرد انهم اجانب ليس الا دون ان يتعمق بتأمل مشاكله التي يعاني منها فعلا, ويحاول ايجاد حلول لها تنطلق من واقعه الحقيقي وامكانياته. وهكذا بدأ غريبويديف بتأليف مسرحيته الشعرية تلك متأملا مسيرة حياة المجتمع الروسي آنذاك وحفلاته وما يجري فيها من احاديث وطروحات فكرية متنوعة , وفي عام 1823 قرأ بعض مقاطع من تلك المسرحية الشعرية امام مجموعة من الاصدقاء , ثم نشر مقاطع منها عام 1825 , واجبرته ظروف عمله الدبلوماسي ان يسافر الى القوقاز ومنها الى بلاد فارس , اذ تم تعينه في سفارة الامبراطورية الروسية آنذاك,وهناك لقي مصرعه في عام 1829 بطهران على ايدي مجاميع من الغوغاء المتطرفين بمؤامرة حاكتها السفارة البريطانية هناك ضد مصالح روسيا مستغلة تأجيج النعرات الدينية في بلاد فارس . وهكذا تم قتل غريبويديف دون ان يستطيع نشر مسرحيته الشعرية تلك , رغم انه حاول مرة ان يعرضها باشرافه عام 1825 في معهد بطرسبورغ المسرحي الا ان الرقابة منعته من ذلك.
ظهرت الطبعة الاولى للمسرحية بعد وفاة مؤلفها وذلك في عام 1833, ولم تكن كاملة نتيجة حذف الرقابة لمقاطع كثيرة منها , واستمر ت طبعاتها وعروضها على خشبات المسارح بحذف مقاطع من هنا وهناك,ويمكن القول ان الطبعة الاولى الكاملة لها ظهرت فقط في عام 1862, بل ان هناك بعض المصادر الروسية تشير الى ان الطبعة الكاملة ظهرت عام 1875 , ولم استطع تحديد تاريخ تلك الطبعة مع الاسف لان هذا يقتضي ان احصل على الطبعتين القديمتين واقارنهما بالنص الكامل وتلك مهمة ليست بسيطة مع الاسف, وفي كل الاحوال فان مسرحية غريبويديف هذه تعد ظاهرة فريدة في تاريخ الادب الروسي باكمله, اذ انها واقعيا العمل الادبي الوحيد لهذا الكاتب ( رغم وجود بعض النتاجات الادبية الاخرى له قبلها ولكن لا يمكن اعتبارها سوى تمارين على الكتابة الابداعية ليس الا), وبالتالي فان غريبويديف يقف متفردا في مسيرة هذه الادب باعتباره مؤلف نتاج ادبي واحد لا غير ( المسرحية الشعرية تلك فقط )ومع ذلك شغل وبجدارة مكانة متميزة فيتاريخ الادب الروسي واصبح اسما لامعا بين اعلام هذا الادب, ويعد الان واقعيا مؤسس المسرح الشعري في تاريخ الادب الروسي, ولا زالت هذه المسرحية تعرض على مسارح روسيا لحد الان ويتابعها الجمهور بكل سرور وحماس, اضافة الى ان الكثير من تعابير تلك المسرحية وجملها قد تحولت الى اقوال مأثورة وحكم لا يزال الروس يستخدموها في حياتهم اليومية بما فيها عنوان المسرحية نفسها , وقد روى لي احد اساتذة الادب الروسي في جامعة موسكو قبل فترة ليست بعيدة حكاية عن احدى طالباته , والتي سألها عن رأيها الشخصي بالمسرحية فقالت له انها معجبة بها الا ان عيبها يكمن في ان مؤلفها يستخدم كثيرا من الامثال والحكم الروسية المتداولة في نص المسرحية لدرجة انه لم يستطع ولم ينجح في بلورة اسلوبه الخاص به!!! وقد قلت له انها نكتة بالطبع , فضحك وأجابني ان النكات تعكس دائما السمات الواقعية لحياة المجتمع الانساني .