19 ديسمبر، 2024 3:58 ص

مسرحية الشرق الأوسط بين حياة باي وشمسين ساطعتين

مسرحية الشرق الأوسط بين حياة باي وشمسين ساطعتين

في أوقات الشدّة، تلك التي لا تشبه سوى شدائد “الشرق الأوسط”، والتي دائماً ما تقترن بالحروب والنزاعات، يجد الإنسان الواعي نفسه مجبراً على التمسك بجرعة معينة من الأمل. ولأنني لا أريد أن أبدو وكأنني أنظّر أو ألقي محاضرات، أعترف أنني في مثل هذه الأوقات أملي على نفسي، بعفوية وربما بلا وعي، أن أتشبث بالأمل والتفاؤل. قد يعود ذلك لطبيعتي المتفائلة، التي تقاوم الاستسلام بطبيعتها.

لكن ما حدث في بلدي خلال الأسبوعين الماضيين لم يقتصر على إيقاظ الأمل داخلي، بل حرّك في ذاكرتي مشاهد من روايتين قرأتهما عن الأمل والصمود وسط الأوضاع الصعبة. على الرغم من أن ظروفي بالطبع أقل قسوة بكثير من تلك التي مرت بها الشخصيات الرئيسية في الروايتين، إلا أن هاتين الروايتين كانتا دائماً مصدر إلهام لي، إذ تبثان في نفسي أملاً مضاعفاً وروحانية مليئة بالفرح.

شعرتُ أن هاتين الروايتين تستحقان أن تُقدّما في عمل فني يدمجهما معاً؛ ربما فيلم، مسرحية، أو حتى لوحة أو مقطوعة موسيقية. فكرت أنهما ضروريتان لأي شخص يتوق إلى المزيد من الأمل والإنسانية. ومن هنا، تخيلتُ “ألف شمس ساطعة” لخالد الحسيني و”حياة باي” ليان مارتل في قالب مسرحي.

كانت عملية التخيل مع “ألف شمس ساطعة” أسهل بكثير من “حياة باي”، خاصة وأن الأخيرة قُدمت كمسرحية في برودواي منذ فترة، وقد شاهدتُ مقتطفات منها عبر الإنترنت. أما “ألف شمس ساطعة”، تلك الملحمة الإنسانية الأفغانية، فقد أخذتني في رحلة خيالية بين قرى أفغانستان؛ رأيتُ أطفالها يلعبون في أزقتها الرملية، وشاهدتُ ليلى ومريم وكأنهما جزء من حياتي اليومية.

“ألف شمس ساطعة” كانت روايةً علقت في وجداني منذ قراءتي الأولى لها، حتى أصبحتُ أتذكر ليلى ومريم بمناسبة أو بدونها. أراهما في شوارع سورية أحياناً، وربما سأراهما كثيراً في المستقبل. أما “حياة باي”، فقد قرأتُها وشاهدتها كفيلم مرتين، ورأيت أن العمل المسرحي الذي قُدّم عنها يكفي لتصوير قصتها العميقة، حيث جسّدوا النمر “ريتشارد باركر” بدمية، وحوّلوا المسرح إلى لوحة متحركة تدمج بين السرد البصري والحركي.

الحياة وسط محيط مجهول، في الشرق الأوسط وأفغانستان:

ومن هنا ننتقل إلى نقاط التشابه بين الروايتين، أو المسرحيتين، وبين واقعنا والتي رأيتها كالآتي:

* الصراع كقوة محركة في السرد والمسرح:

 في life of pi يشكل الصراع بين Pi وضبع السفينة رمزاً لمعركة الإنسان ضد الفوضى والخوف وقوى الظلام التي تسعى للقضاء على الشر، في “ألف شمس ساطعة” نرى الصراع بين ليلى ومريم ، والتي قررنَ أن يتوحدنَ ضد زوجهما رشيد والذي يعبر عن نظام اجتماعي فاسد أخلاقياً ومعنوياً ونفسياً بتداعياته على ضحاياها والقائم على البلطجة، لكنه كان مصيراً مفروضاً، كان حاجة بسبب الحرب. وما أحببني في الروايتين هو أن الضبع هو تعبير صارخ أيضاً عن قوى الحرب والدمار التي تهدد ليلى ومريم، بينما النمر ريتشارد باركر والذي أنقذ باي من الضبع المتوحش هو الإرادة المتوحشة العنيفة القوية للبقاء داخل كل إنسان، داخل ليلى ومريم، داخلي وداخلنا، الصراع بيننا كأناسٍ واعية، كقوى تحاول وتعتقد أنها تحارب قوى الظلم والفوضوية والجهل ، ونحن كما قلت ، في “شدة شرق أوسطية” كأننا مثل باي نعيش في محيط لا تعرف متى يهيج ومتى يهدأ، كأننا مثل أفغانستان، لا نعرف متى تهيج ومتل تهدأ. ولكن اللاعب الأساسي بنظري هو الأمل، وهو ما دفع قلبي وعقلي لأنه يعجبنا بالروايتين، فكلاهما تمسك بالأمل وحاول ابتكار الطرائق للنجاة والهروب، ففي Life of Pi يتمسك Pi بالأمل من خلاله إيمانه وابتكاره وإبداعه في محاولة تأسيس مسافة أمان بينه وبين النمر وهو الإرادة المتوحشة، وأخذ يخترع قصصاً ويبني نظاماً وروتيناً يقنّن فيه استعمالاته لما هو متوفر من مواد قليلة استعداداً لما هو مجهول من مخاوف كبيرة، ويبني نظاماً ليحافظ على صحته النفسية والجسدية، ونرى في “ألف شمس ساطعة” يشكّل ارتباط ليلى ومريم نموذجاً للأمل وسط الحرب، حيث يتحول عداؤهما الأول إلى رابطة عميقة جداً تعبر عن ذات الإرادة القوية التي لم يعرف باي أنها تتجسد في علاقته مع النمر ولكن ليلى ومريم عرفتا جيداً أنهما وحدة واحدة وإرادة متوحدة وينبغي أن تكون متوحشة كريتشارد باركر النمر البنغاليفي مواجهة تمكّنهما من مواجهة القمع، والتضامن في استعمال ما هو متوفر من مواد قليلة استعداداً لما هو مجهول من مخاوف كبيرة، وما الأمل فينا كبشر سوى كتلة تتشكل في داخل كل إنسان تعززها الإرادة المتوحشة بالبقاء ولكن وحشيتها سلسة وغير متكلفة وتعبر عن رغبة مطلقة بالحياة وممارسة الإنسانيّة لأقصى حدودها وأبعادها من أجل البقاء. 

البقاء

وعلى ذكر البقاء، كلا العملين يدوران حول البقاء، لكن في قصة الشاب الهندي باي يتعلق البقاء في مواجهة الطبيعة والفوضى، وفي ألف شمس ساطعة يرتبط بالحرب وفقدان الأمان والأحباب ولكن Pi أيضاً يواجه خسارة عائلته وحياته القديمة وحريته بفعل صدفة من تدبير الطبيعة، إلا أن ليلى ومريم تخسران حريتهما وحياتهما القديمة بفعل قوى إنسانية، وهنا يأتي الرابط في حياتنا بين الحرية من جهة والقوى الإنسانية البشرية من جهة ثانية والقوى الطبيعية من جهة أخرى، فإن إرادة البقاء لدينا كشرق أوسطيين نتجت وحشيتها والتي أنتجت شعلة الأمل عن عمل قوى إنسانية سياسية بالواقع، إلا أننا وأمام قلة حيلتنا أمام تلك القوى نراها توازي القوى الطبيعية في استحالة تغييرها واستحالة توقعها، ولهذا رأيتُ في حياة باي وفي ألف شمس ساطعة مرآة لواقعنا، أما شعور الأمل فهو الذي ذكرني بتلك الروايتين ودفعني إلى التخيل بأن تكون الروايتين كلاً منهماً مسرحية متكاملة، وبعد نقاط التشابه هذه، ربما مسرحية واحدة. ولا أرى حياتي سوى ألف شمس ساطعة، سوى باي في وسط المحيط، محيط كذاك الذي في اللوحة الشهيرة the great wave off kanagawa، لكن بصراحة، أنا أحب ذلك المحيط جداً فهو الذي يحفز مخيلتي على تخيل مسرحيات وأفلام، هو يعطيه القدرة على الدمج بين القصص والروايات وإيجاد الترابط بينهما، وبالخروج من المساحة الشخصية، رواية ألف شمس ساطعة لخالد الحسيني هو تمثيل للآمال التي لا تموت ، رواية حياة باي ليان باتيل هو تمثيل للبقاء والقدرة على الصمود، والقارب هو المكان الذي تتحقق فيه معجزة البقاء.

مشهد الختام

 وأرى في مخيلتي على المسرح، الشمس تتباهى وتزدهي في لحظة الانتصار، بينما يتغير القارب إلى منصة رمزية تجمع باي، ليلى ومريم في لحظة اتحاد إنساني، وبالتأكيد أنه بإمكاننا أن نمسك بأيدي ثلاثتهما ونصعد على القارب، وربما تنتهي المسرحية، وتطفئ أنوار الخشبة، لكن من المؤكد أن أنوار المسرح لن تنطفئ، من المؤكد أن أنوار الشموس الساطعة ستبقى خالدة في عقولنا وقلوبنا. 

الستارة تغلق

حياة باي وألف شمس ساطعة ليستا فقط روايتين عن البقاء، بل هي حكايا مكتوبة بالدموع والآلام التي توحد البشر. في المسرح، يمكن لهذه القصص أن تجتمع لتروي حكاية أعمق عن صراع الإنسان مع قوى تفوقه، وينتصر عليها، وعن إصراره على الإيمان بأن الأمل هو مصدر النور الوحيد الذي يربط بين البحار المضطربة وتحت ألف شمس ساطعة، فوق ركام الشرق الأوسط. 

أحدث المقالات

أحدث المقالات