19 ديسمبر، 2024 1:20 ص

مؤسسات ثقافية أوروبية كثيرة اتخذتْ من كاتدرائيات وكنائس مقرات لها، بحيث بات مشهداً مألوفاً جداً أن تقام أمسية شعرية أو موسيقية أو ندوة فكرية في قاعة بكاتدرائية وإذ تخرج من القاعة تلاقيك جموع أناسٍ خارجين من طقس زفاف كَنسيّ أو من صلاة في القاعة المجاورة.
 شخصياً أتيح لي أن أرى هذا المشهد مراراً، القساوسة والشماسون يحضرون أمسية شعرية أقيمتْ في كنيستهم ثم يخرجون بعدها ليؤدوا طقوسهم الدينية المعتادة.
 في كاتدرائية ريامونت بباريس تقام أسبوعياً حفلات موسيقية وأدبية، في إحدى الحفلات ـ وكانت لفرقة موسيقية هندية ـ أصرّ عازف الأورغ ـ وهو من منتسبي الكاتدرائية ـ على مشاركة الفرقة ما خلق جواً قدسياً فعلاً، القدسية ليس بمعناها الدينيّ بالضرورة، بل القدسية التي لا غنى لكلّ فن عنها كما عبر مرة الشاعر عيسى مخلوف ونحن نتجول أنا وإياه وعباس بيضون في حدائق كاتدرائية باريسية أخرى أصبح فيها متحف للفنّ.
 أبهة المكان وذلك المسّ القدسيّ الذي في الأعمدة والأقواس، والهواء المعتّق، هواء قرونٍ من الصلوات والتراتيل والموسيقى، يزجّك تلقائياً في جوّ ثقافيّ لا يتحصل عليه أحد في مكان آخر إلا بصعوبة، بعض الكاتدرائيات أصبحتْ محلّ إقامة لأدباء وشعراء يتفرغون للكتابة هناك، سكنت كاتدرائية ما لأسبوعين تقريباً ولن أنسى تلك الليالي التي كنت أفتح فيها شباك غرفتي ليطلّ عليّ ـ مع النسائم ـ صوت فرقة تتدرب في القاعة المقابلة على الفصول الأربعة لفيفالدي، مع شعورٍ بأن من يتسنى له العيش هناك سيكون الشعر والتوحد مع الجمال أقرب إليه من حبل الوريد.
 كيف حدث أن أمكنة دينية تقليدية استطاعتْ أن تتصالح مع فنّ دنيويّ ويندغمان لصنع هذا السحر؟
 أفكّر الآن بأن الدينيّ هنا لم يخسر شيئاً من قداسته، على العكس من ذلك، فقد أصبحتْ هذه القداسة مبثوثة في غير مظانها التقليدية حائزة على جمال مضاف، كما ان الفنّ ـ وهو دنيويّ دائماً ـ ربح هذه المسحة السماوية التي جعلته أثيرياً كصلاة مرفوعة من فم مؤمن صادق فقير.
 المكان الإسلاميّ المقدس “الجامع أو الحسينية” لم يكتشف للآن طريقة تصالحه مع الفنّ، مع الشعر مثلاً، بل هو لم يتصالح حتى مع محاضرات فكرية ليست ذات بعد عقائديّ تقليديّ.
 لا أظنّ أن سبب ذلك يتحمله المسجد، المثقف ـ الفنان أو الشاعر ـ يتحمل قسطاً وافراً من هذا الجفاء، نحن وضعنا حدوداً غليظة بين المقدّس والدنيويّ، غير عارفين انهما يمكن أن يلتقيا وأن ينشئا حواراً فريداً.
 وإذا كانت الموسيقى والغناء ذات معطى إشكاليّ في مبتنياتنا الإسلامية فإن الشعر والفكر والمسرح يمكن أن تجد نفسها ذات يوم في مكان مقدّس دينياً، لنرى كيف يمكن للقداستين أن تتواشجا دون أن تلغي أحداهما الأخرى.

* جريدة الصباح العراقية

أحدث المقالات

أحدث المقالات