نهر الحيوية والإبداع والتجدد والجمال في حياة البشر لا يفسده ويحوله الى مستنقع راكد كالخوف، ولنا في جمهوريته التي بسطت هيمنتها المطلقة على حياة ومصائر العراقيين لأكثر من ثلاثة عقود، مثالاً مؤلماً على ذلك. بالرغم من مرور أكثر من أربعة عشر عاماً على زوال سلطته السياسية، إلا أن منظومة القيم والسلوك والتقاليد التي خلّفها، بقيت راسخة ومؤثرة في غرائبية أحداث وتحولات ما بعد “التغيير”. لا نحتاج الى تقديم براهين وأدلة كي ندرك حقيقة دوره في الفشل الذريع الذي رافقنا في مواجهة تحديات ما يعرف بـ (المرحلة الانتقالية) إذ قادنا الخوف ومخلفاته الى انتخاب برلمان ومجالس محلية ومن ثم سلطات وإدارات تنفيذية، وضعتنا ضمن قائمة الدول الأكثر فشلاً في عالم اليوم. تجارب المجتمعات والدول جميعها أكدت على ما يتركه الخوف من آثار مدمرة وبشعة، حيث تضمحل وتتلاشى حيويتها أكثر فأكثر مع استمرار وتعاظم هيمنته عليها، وهذا ما حصل تماماً للعراقيين بعد عقود من العبودية والاستبداد. بالرغم من استلام “معارضيه” السابقين لأسلاب النظام المباد، إلا أنهم بنحوٍ عام لم يلتفتوا الى المهمة الأساس في مثل هذه التجارب الانتقالية للمجتمعات والدول؛ أي تجفيف بؤر ومستنقعات الخوف وآثاره المترسبة عميقاً في سلوك وممارسات ضحاياه. هذا الخلل البنيوي يمكن مشاهدته بسهولة في الأشكال الجديدة من التنظيمات والجماعات التي أخذت على عاتقها ملء الفراغ الهائل الذي تركته جمهورية الخوف وراءها، وفي المؤسسات القمعية القديمة التي أعيد ترميمها وضخها بالمزيد من الدماء التي لا تقل فساداً عن سابقيهم في هذه المهن، التي أصبح أمر إصلاحها وتقويمها بما يتفق ومنظومة الحقوق والحريات الحديثة؛ مهمة شبه مستحيلة بفعل التقاليد السائدة والديناصورات المهيمنة على القرار فيها.
إن منظومة الخوف والاستثمار في نشر الرعب عند الآخر المختلف، هي عبارة عن حلقات مترابطة، لا يرجى منها غير نسخ متكررة من العبودية والاستبداد والإذلال، وهذا ما كشفت عنه غير القليل من تجارب الحركات السياسية والاجتماعية والتي شكّل الخوف محورا أساسيا لنشاطها، وعلى العكس من ذلك قدمت الحركات التي اختارت طريق اللاعنف والنشاطات السلمية، والتي وضعت حرية الإنسان وكرامته وحقوقه على سنام أهدافها وغاياتها؛ أفضل وأكثر التجارب نجاحاً وازدهارا واستقراراً. كما أن تجربتنا نفسها تؤكد ذلك، بعد أن أرغمنا العنف والخوف على تقديم أسوأ ما لدينا من صفات وسلوكيات، أصبحت اليوم عائقاً كبيراً أمام أي مشروع جدي للخلاص من هذا المأزق الحضاري والتأريخي. وما النتائج الوخيمة لعقد ونيف من “التغيير” إلا مثالا لا يقبل التأويل على نوع الحصاد الذي جنيناه برفقة هذا الطفح الهائل من الجماعات والفصائل والعصابات المسلحة ولعنة العسكرة التي اكتسحت حياتنا بفظاعة لا تقل عما حصل لنا مع “العصر الزيتوني”. لذلك فأن طريق النجاة من مستنقع العنف والخوف، لن يكون إلا عبر ضده النوعي أي؛ اللاعنف وسيادة القانون بالمعنى الذي اعتصمت به غالبية الأمم والمجتمعات التي وصلت لسن التكليف الحضاري، وهذا ما لم تظهر أعراضه بعد، لا على الكتل المتنازعة على أسلاب الوليمة الأزلية من شتى الرطانات والبيارغ والأزياء وحسب، بل شمل الكثير ممن يدعي أنه مشروع بديل أو قارب نجاة من هذا المستنقع..
نقلا عن الصباح الجديد