في اول انتخابات بعد 2003، كانت الصبغة الدينية هي الماركة المسجلة التي جذبت انتباه وأصوات وعواطف الناخبين. ودفع العراقيون ثمنها غاليا، فتفتت أجزاؤهم وتبعثرت أشلاؤهم على رصيف الطائفية والمطامع الشخصية والعربية والدولية. وبعد ان صار اسم الدين شعارا تلفع بعباءاته السياسيين والعاملين في الأحزاب والمجالس والبرلمان، تراجعت هيبته لدى الكثير من الشرائح حتى شكل هذا التراجع صورة الانتخابات التي حدثت في الحادي والثلاثين من كانون الثاني2010. جاء جواب الشارع العراقي واضحا وصريحا من خلال إعلان أسماء القوائم التي طغت عليها صفة (مستقلون) أو (مستقل) والتي صبغت معظم الأحزاب والكتل التي شاركت في الانتخابات. وسواء كانت صفة (مستقلون) نابعة من رغبة هذه الكتل والأحزاب وتمثل حقيقة انتمائها أم لا، فإنها جاءت استجابة للشارع العراقي الذي أبدى رغبة واضحة وشهية مفتوحة لكل ماهو مستقل.
وبعد إن قال المواطن كلمته، وطويت صفحة الإنتخابات لتفتح صفحة التآلفات التي مازالت (قيد الارسال)، شغل أذهان المواطنين السؤال عما إذا كانت هذه الكتل والأحزاب مستقلة فعلا ، أم إن استقلالها جاء فقط لتمرير مرحلة الانتخابات وكسب رضا ودعم المواطن؟ وعلى غير المتوقع، لم تفلح صنارة (مستقلون) باصطياد المواطن العراقي كما اصطادته غيرها لسنوات طويلة، فسيطرت ردود افعال الحرب الطائفية والولاءات على نتائج اللانتخابات التي جاءت (ففتي ففتي) تقريبا.
الحقائق من حولنا تشير الى ان المواطن فهم اللعبة ولن ينفع أي طعم في اصطياده ثانية، فقد تعلم الفرق بين الحقيقة والكذب، وعلمته تجارب السنوات الماضية أن يبحث عن حقيقة الإنتماءات والولاءات التي لا تخدم مصالحه بل تسهم فقط في خلق عازل بينه وبين القادة ومجالسهم وبرلمانهم من ناحية وبين إخوته من ناحية أخرى. وبرغم من إن غالبية المواطنين من البسطاء اختاروا المرشحين اعتمادا على العلاقات الخاصة ومبدأ العشائرية وغيرها، فقد تميزت الإنتخابات باندفاع فئة ولاسيما الطبقة الواعية نحو القوائم التي تحمل صفة (مستقل) أو (مستقلون) وعزوفهم عن الأحزاب الدينية. فالوعي السياسي هو ميزة العراقيين بكل مستوياتهم الثقافية وانتماءاتهم العشائرية، ورغبتهم في إبتعاد مرشحيهم عن التحزب والطائفية ماهو الا نتاج المعاناة التي خلفتها الفتن الطائفية ما دفع بعض الاحزاب الدينية لإضافة كلمات مثل (احرار، مستقلون، وطنيون، عراقيون الخ ) لاقناع المواطن العراقي بتغيير نهجهم الماضي والمضي في نهج جديد لبناء البلد. وبعد ان (فضّت الزفة) وجد المواطن واقعه ينتقل من هم الانتخابات الى هموم التحالفات التي إن تغيرت بعض مفرداتها، الا أنها ظلت تدور في فلك الأحزاب الكبيرة التي سيطرت على مؤسسات الدولة وسياساتها ولم تقدم للمواطن سوى خيبة مضافة الى حصة تموينية شحيحة تناثرت مفرداتها فتقدم بعضها وتأخر الآخر وحذف حتى لم تعد تتعدى أصابع اليد الواحدة. وشيئا فشيئا لاذت (مستقلون) بالفرار امام عمق التحزب والطائفية لتصبح وزارات الدولة ومؤسساتها ملك (طابو) بعد ان كانت مجرد (حوسمة) في الانتخابات الاولى، ليدرك المواطن بإن (استقلال) هذه الأحزاب لم يكن ماركة مسجلة بل (تقليد) لماركات عالمية في مصانع دول الجوار تصنع خصيصا للعراقي (المكرود) الذي طحنه الحصار والحروب سنوات طويلة حتى صار يفغر فاه دهشة امام أية بضاعة حتى لو كانت (مغشوشة)، لكنه تشبع بالمغشوش، واصبح قادرا على تمييز الماركات، وربما سيبحث عن ختم السيطرة النوعية في الانتخابات القادمة!.