23 ديسمبر، 2024 12:58 ص

مستقبل الوساطة الكويتية في الأزمة الخليجية

مستقبل الوساطة الكويتية في الأزمة الخليجية

مع دخول الأزمة الخليجية شهرها الخامس لم يعد يبدو في الأفق أية بوادر لحلها. فمع تعدد جهود الوساطة وفي مقدمتها الجهود الكويتية، إلا أن نتائجاً لتلك الجهود لا يبدوا لها أثر في المستقبل المنظور. ومع ترنح جهود الوساطة الكويتية يُثار التساؤل حول مستقبل تلك الوساطة؟.
وبداية نشير إلى أنه على الرغم مما ساد من تصور متجذر في عمق العمل الخليجي بإمكانية تجاوز الأزمات من خلال العرف الخليجي القائم على الإحترام المتبادل بين الأشقاء وبخاصة الكويت وما لها من سيرة تعاونية ونهج متزن داخل البيت الخليجي الأمر الذي أسهم بدرجة واضحة في تجاوز الأزمة الخليجية السابقة (2013/2014)، على الرغم من كل ذلك إلا أن الأزمة القائمة بين الدوحة من جهة، والرياض، ودبي، والمنامة من جهة أخرى لا تبدو كسابقاتها إذ تمثل بدورها محطة مهمة في مسار العمل الخليجي سياسيا واقتصاديا وأمنيا بل حتى على المستوى العربي ولعلنا لا نبالغ إذا اتسع الأمر بنا ليشمل تأثيرات عالمية لما يمثِّل أطراف الأزمة من أهمية بالنسبة للسياسة العالمية وذلك في ضوء المعطيات الجيوستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط بشكل عام ومكانة أطراف الأزمة في تلك المنظومة.
إلا أنه عند مناقشة مستقبل جهود الوساطة الكويتية وتداعيات ذلك على الأزمة في مجملها تجدر الإشارة إلى أهم الخصائص التي ينبغي أن يتمتع بها دور الوسيط كما يقدم علم التفاوض كما يلي:
الحياد Neutrality فالحياد في أبسط مضامينه يعني الوقوف على مسافة متساوية بالنسبة لأطراف النزاع. كما أن الحياد من شأنه أن يحدد درجة ثقة الطرفين لدى الوسيط.
السلطة Authority بمعنى حيازة الوسيط القدرة الإقناعية وإن كان ذلك باستخدام السبل التحفيزية أو الإكراهية Carrot And Stake Policy فضلا عن الإلمام بكافة خيوط وتفاصيل النزاع. ويتجلى في هذا السياق درجة مرونة الأطراف وهو ما يرتبط بدرجة كبيرة بحيوية موضوع النزاع. الأمر الذي يعني أن قدرة الوسيط تظل طول الوقت مرهونة بامتلاكه أدوات التأثير.
وفي ضوء ذلك انطلقت جهود الوساطة الكويتية منذ اللحظات الأولى للأزمة الراهنة وهو ما ارتبط بالسياق الخليجي شكل عام ودور الكويت في تلك المنظومة التي انحازت تاريخيا إلى مثل تلك الأدوار، فلطالما التزمت السياسة الكويتية نهجاً قائماً على التوازن والاعتدال تجاه قضايا المنطقة لحل الأزمات من خلال الحوار المباشر. فبجانب دورها في تخطي أزمة 2014 حاولت الكويت التدخل لخفض التوتر بين كل من السعودية وإيران والتمهيد لخلق حوار خليجي إيراني، كما نجحت في ممارسة الدور ذاته بين مصر والسعودية منذ أشهر، وكذلك حاولت الكويت تكرار الأمر للتقريب بين مصر وتركيا بعد أن توترت العلاقات بينها في أعقاب الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي وسقوط مشروع “الإخوان المسلمين” في مصر.
وعلى الرغم من الدور الكويتي المتميز والجهود الدبلوماسية لاحتواء الازمة الخليجية إلا أن فاعلية ذلك الدور تعوقه عدة إشكاليات ينبع بعضها من طبيعة دور الوساطة ذاته وما ينبع من طبيعة الأزمة الراهنة مقارنة بغيرها من الخبرات التي خاضتها الكويت. أما ما يتصل بدورالوسيط Mediator ففيما تذهب الأدبيات إلى ضرورة تمتع القائم به بقدرة على التأثير وامتلاك أدوات القوة الإكراهية أو التحفيز على دفع طرفي الخلاف تجاه التقارب عند حد الحل الأمثل الذي لا تتحقق عنده خسائر للطرفين نجد الدور الكويتي ومكانته في إطار منظومة مجلس التعاون الخليجي يواجه إشكالية عدم القدرة على ممارسة هذا الدور أو حتى الضغط على أحد طرفيه. كما أنه على الرغم من توافر حد معقول من الحياد لدى الكويت إلا أنه ثمة ما يقوِّض ذلك الحياد في الوقت الذي تقف العلاقات القطرية الإيرانية مباشرة خلف أزمتها مع الدول الخليجية فضلا عن التقارب التركي القطري، نجد أن العلاقات الكويتية المستقرة نسبيا مع كل من طهران وأنقره لا تحقق ذلك القدر المطلوب من الحياد وخاصة من تنامي الهاجس الأمني لدى الخليجيين تجاه طهران وأنقره.
ومع اتساع نطاق الأزمة يدرك صناع القرار الخليجيون الأزمة باعتبارها تتصل بوجود الأنظمة الحاكمة وذلك على خلفية الخطر الذي يحسه كل طرف تجاه الآخر. فالقطريون يترسخ لديهم الوعي بالموقف المناهض من دول الجوار وهو ما ترجمته السياسات القطرية القائمة على الاستقواء بكل السبل في مواجهة التهديدات المحيطة كما يدركها القطريون منذ اليوم الأول لانقلاب حمد بن جاسم على والده عام 1995. وعلى الجانب الآخر يدرك كل من السعوديين والإماراتيين والبحرينيين قدر التهديد الوافد للمحيط الخليجي بأكمله مع اتساع النفوذ الإيراني المدعوم من الدوحة. ولا يخفي التمدد الإيراني بالشرق الأوسط بأكمله في أعقاب التطورات الأخيرة التي تشهدها المنطقة، فتكفي الإشارة إلى زيارة قائد فيلق القدس “قاسم سليماني” لعدد من المناطق المتوترة كالموصل وسوريا أخيراً. الأمر الذي يعزز مخاوف الخليجيين. ومن ثم يترسخ الطابع الوجودي للأزمة بالنسبة لكلا الطرفين.
وهنا نشير إلى أنه على الرغم من تجذر قيم الإحترام والتقدير في الثقافة الخليجية مما سهَّل مهمام الوساطة كما حدث نسبيا خلال الأزمة السابقة (الرياض 2014، والأزمة بين السعودية ومصر)، إلا أن خطورة الأزمة هذه المرة وارتقائها للمتسوى “الوجودي” ودخول العامل الإيراني على مسار الأزمة وتهديد حقيقي يدركه القادة الخليجيون يجعل من مثل تلك القيم السابقة بمثابة العبارات الإنشائية في خطاب تتجاوزها خطورة الموقف. ولعل ما يؤكد على ذلك المرونة والاستجابة القطرية لوساطة برلين والسماح للاستخبارات الألمانية للاطلاع على ما لديها من وثائق تخص المعاملات المالية، وكذلك الإتفاق الأخير الذي أبرمته مع واشنطن فيما يسمح للأخيرة بالرقابة على المعاملات المالية القطرية، فضلا عن الترحيب القطري بدخول أنقرة، وواشنطن على خطة الأزمة مما يعكس تغليب الطابع البراجماتي على ثقافة الأخوة والقيم الخليجية في تلك الأزمة.
وفي هذا السياق يرتبط مستقبل الوساطة الكويتية بفاعلية الدور الذي يرتهن بدوره بتأثير النفوذ الكويتي على أطراف الأزمة وهو ما لا يُتَصور جدواه في ضوء تعقيداتها فضلا عن حجم التهديد الذي يدركه صناع القرار في الرياض ودبي والمنامة . الأمر الذي يعني أن المزيد من التعقيد ينتظر المشهد الخليجي بشكل عام فضلاً عن تراجع دور الوساطة الكويتية مع ترك مساحات لجهود أخرى كالدور الأمريكي الذي تتحول معه الأزمة من مساعي الحل إلى جهود لإدارتها لتحقيق اقصى استفادة ممكنة لصالح الأمريكان في المقام الأول وهو ما تسعى إليه واشنطن من خلال تقاسم محترف للأدوار بين مؤسسة الرئاسة بقيادة ترامب وحساباته البراجماتية وسماته الشخصية من جهة ووزارة الخارجية بتأثيرات الرؤية الاستراتيجية المتوازنة التي تغلب المصالح الأمريكية في المقام الأول وهو ما نرصده من خلال التوافق المحدود (ظاهريا) بين المؤسستين إلا أن انتقال الأزمة من مستوى مساعي الحل من خلال الوساطة الكويتية، وجهود إدراة الأزمة للدور الأمريكي، بين هذا وذاك يترنح الأمن الخليجي ومعه الأمن القومي العربي بشكل عام. وطبعاً في هذا السياق، لا عزاء للوساطة الكويتية، ولا حتى للحديث عن الجامعة العربية.