” كلما زاد اقترابنا من الخطر تبدأ الطريق إلى المنقذ تلمع بجلاء أكبر ونصبح أكثر تساؤلا، ذلك أن التساؤل هو قمة التفكير”[1]
افتتاح:
” يجب أن تكون معرفة الإنسان أكثر علمية، وأكثر فلسفية، وأخيرا أكثر شاعرية ، في الوقت نفسه ، مما هي عليه”[2]
لا يقدر الإنسان على تفادي وضعه المتناقض الذي وجد فيه ، فهو كائن صغير يتصف بالضعف والعجز وجزء مفرد يمثل حالة عرضية في الكون ويمتلك وضعا هشا من جهة ولكنه يمثل نقطة مميزة تحتوي على معظم صفات الكونية ويحمل في داخله كمال الواقع وكل شيء من هذه البشرية من جهة أخرى.كما أن تعيين هوية له تخصه من بين الكائنات واثبات ذات تميزه عن الكون هو أمر جلل ومهمة عسيرة، فكل محاولة لرده إلى الطبيعة أو اختزاله في النوع أو تذويبه في المجتمع أو ربطه بالثقافة هي فاشلة ومتعثرة وذلك لأنه هوية واحدة لا يمكن تجزئتها من ناحية وكائن متعدد الأبعاد لا يمكن ضبطه من ناحية أخرى.
إذ ” يقوم الكائن في الوجود ويجري بفضله قضاء محتجب يسري بين الإلهي وما يتعارض معه. لا يستطيع الإنسان أن يسيطر علي الكثير من الوجود، والقليل فقط تتم معرفته. يبقى ما نعرفه تقريبيا وما نتحكم فيه غير مضمون. ليس الوجود أبدا- كما نعتقد بسهولة فائقة- صنيعتنا وأكثر من ذلك مجرد تمثل لنا”[3].
لهذا يعاني خطاب الهوية من أزمة وذلك بسبب تأرجحها بين الاستمرار والدوام والوفاء من جهة والحاجة إلى تنويع شروط وجودها وتغيير علاقاتها وإثراء تجاربها بالمختلف والمتعدد والجديد من جهة أخرى. ويتراوح هذا الخطاب بين عدة دوائر وجملة من مدارات ويمنح الفرد والمجتمع والتاريخ والكونية حقل انتماء وبالتالي لا توجد هوية واحدة للكل بل هويات متنوعة وملل مختلفة وجماعات متقاطعة وتتشكل الهوية الفردية إلى جانب الهوية الاجتماعية وترزح الهوية التاريخية قبالة مطلب الهوية الكونية ويزداد التفكير في الهوية المستقبلية أو مستقبل الهوية في الكوكب. غير أن المنظومة البشرية أصبحت تعاني من نواقص كبرى وتعيش بين السرنمة والضبابية وبين الجنون والبلاهة وترزح في قبضة آلة استحواذية يصعب السيطرة عليها وتتخبط في فوضى غير أكيدة حولت البشر إلى شتات ومسوخ وصار التوحش يتهددها من كل صوب وحدب وبلغت التناقض الذي يمزقها ويصل إلى صلب الأشكال المتعددة لهويتها.
من المعلوم أن تأصل كوني من الناحية الفيزيائية قد حدث وأعقبه تأصل بيولوجي من جهة العضوية ساعد الطبيعة البشرية على التكون وسهل عملية الانبثاق وتعلق بمصيره ولكن عملية الأنسنة هي الطبيعة الثانية والانطلاقة الفعلية لمسيرة الاستخلاف وتعمير الكائن الآدمي للكوكب ولقد ارتبطت بالنزول على الأرض والانتشار في العالم والانفتاح على الغير وتغليب غريزة حب العمل والأمل في الحياة على غريزة الكره والتدمير والكسل. بيد أن الاستفاقة الحاسمة للبشر بواسطة العقلانية والتقنية ومن خلال ثورة الذهن وتداولية اللّسان قد حاولت طمس عدة بديهيات منغرسة في جذور الطبيعة البشرية مثل الطقوس والسحر والأضحية والمتخيل والأسطورة والرمز والمقدس والاعتقاد والتدين والإيمان والمرويات الكبرى التي تشير إلى عالم الغيب والحياة الأخرى. لقد سبب ذلك الطمس للغيرية ضعفا في الذهن وزرع الخطأ في قلب الكائن الآدمي وانغرست ازدواجية في الشخصية والفكر وأصيب الأنا بانقطاع في استمراريته وصارت الذات غريبة ومحبوسة في كهوف داخلية مظلمة وأسرف الإنسان في تعقله وجرفته وفرة الإنتاج إلى جنون الاستهلاك وخلفت الدولة المهيمنة الاستبداد وتزايدت المخاوف من النهاية الكارثية وبرزت علامات على إمكانية التقهقر إلى ما قبل التاريخ. لكن هذا التقدم في إنسانية البشرية قد كشف عن تلازم الثالوث البشري ( الفرد المجتمع النوع) وعن اللحمة الابستيمولوجية بين العقول البشرية والهوية المشتركة والوحدة النوعية إزاء الموت وسمح بانطلاقة الحوارية والتآزر والتفكير الجماعي في تأمين المصير المشترك والسير في اتجاه المجتمع العالمي والعودة إلى كونية الأصل ويقظة الفكر والتعويل على الإنسان المنتج ضمن شروط وأوضاع فعله والكائن الآدمي المتسلح بقيم الشهادة والوعد والصفح والأمل.
هكذا “يشعر الذهن البشري بأنه ينتمي إلي هذا العالم من جانب، وبأنه غريب عنه من جانب اخر، وهذا ما ينطبق علي حالتنا، اذ نحن بمثابة أبناء الكون وغرباء عنه”[4]. لكن هل حديث الهوية هو عمل إبداعي تلهج الآدمية بإشكاله دون أن تكون قادرة على الإجابة عنه؟ وما الذي يضمن بأن مقولة الذاتية هي حدث هووي مابعد مقولي؟ وكيف يفترق الأمر بين الهوية والذاتية؟ بأي معنى تصير الذاتية غير هووية ؟ وكيف تجري الهوية تجربة بيذاتية ؟ وماذا يترتب عن تشكيل الذات موضوع هويتها من خلال إظهار ذاتيتها بالقدر الكافي؟ ثم ألا يتشكل مفهوم الهوية المركبة عند أدغار موران من تعقد العلاقة بين الواحد والكثير ومن تجديل الصلة بين الوحدة والتعددية؟ وبماذا يمكن أن نتجاوز كل هذا العنف وهذه الفوضى التي تلف عالمنا المعاصر؟ وماهو المصير الذي تنحدر صوبه الهوية الإنسانية؟ وهل يمكن تجديل كل هذه التناقضات التي تزداد يوما بعد يوم وضوحا ما بين “الخير” و”الشر”؟ وكيف للبشر أن يطمئنوا من هذا المستقبل الذي يتجه بشكل ثابت نحو اللاّيقين والعماء المطلق؟ من أين يأتي المنقذ يا تُرَى؟
إذا كان تاريخ الإنسانية مهدد بشكل جدي بسبب حالة الفوضى والعنف التي تميز الحضارة المعاصرة نتيجة التناقضات التي تتحكم في الطبيعة البشرية بين قطبي الخير والشر اللذان يمتلكانه فإن تدبير مسألة التواصل بين الأفراد والجماعات يمكن أن تطرح ضمن التفكير في مسارات الذاتية والهوية والإبداع .
حري بنا أن نبين أن التمعن في هذه الإشكاليات يقتضي الاشتغال على ممكنات التفكير التالية:
– الهوية بين الذاتية والموضوعية
– الهوية بين الانقطاع والاستمرارية
– الهوية بين الثبات والتطورية
– الهوية بين الجوهرانية والتاريخية
– الهوية بين الطبيعة والثقافة
– الهوية بين الفردانية والمجتمعية
– الهوية بين الانغلاق على الخصوصية والانفتاح على الكونية
– الهوية بين إحياء الماضي واستشراف المستقبل
ما نراهن عليه في هذا المقام ليست ثبت الهوية بالنسبة إلى الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد على جهة التعريب والاستعراب والمستهدية بأنوار القرآن والحديث وحكمة المأثور مرة واحدة والى الأبد بل محاولة الرد على التحدي العولمي بإبداع نمط مخصوص في التعاطي مع مشكلة الهوية من منظور الفكر المتعقد وضمن حركة تركيبية تجمع بين العودة إلى الينابيع وتجديد التفرد وبين الانتشار الكوني والبدء الجديد.
1- التأصل الكوني والأنسنة الثقافية:
” عرفنا اليوم أننا متأصلون في الكون الفيزيائي وفي الفلك الحي، فنحن داخل الطبيعة وخارجها في نفس الوقت”[5].
يمكن تقسيم سؤال الهوية: من نحن؟ إلى ثلاثة أسئلة فرعية هي سؤال الوجود في العالم: أين نحن؟ وسؤال المصدر: من أين أتينا ؟ وهل نحن وحيدون في الكون وبلا نظير؟ وسؤال المصير إلى أين نحن ذاهبون؟ وبالتالي إيجاد اقتران بين معرفة الكائن البشري بتحديد موقعه في الكون وربط الانبثاق الإنساني بالتأصل الكوني والبيولوجي والكشف عن أسرار غامضة مع تقدم معرفتنا بذواتنا وعن وجودنا بين لامتناهي الكبر ولامتناهي الصغر ولا متناهي التعقيد وبين العقلانية المنظمة والفظاعة التدميرية وتأرجحنا بين المحبة والكراهية للبشر وبين الإشادة بالحياة على الكوكب والعزوف عنها والارتماء بين أحضان الوهم والعدم .
لقد تعذر على الإنسان اليوم أن يتوقع خاتمة القصة الطويلة للعالم الذي أتى إليه بشخصه وبصورة متأخرة. وبالتالي لم يدرك أصل المغامرة الكونية التي خلقته وأنتجته وحملته في ركابها وظل مستقبلها أمرا ملغزا.
إذا كانت المادة الفيزيائية قد انتظمت على الأرض بشكل ديناميكي حراري من خلال تبلل بحري وتفاعل كيميائي وشحنة كهربائية وتحولت إلى مادة حية فإننا نحن البشر الأحياء أولاد الماء والأرض والشمس برعم صغير للوجود نشكل تنظيما ذاتيا ناتج عن عمليات فيزيائية كيميائية تقودها آلة حرارية عضوية وتجعلنا نعيش لعبة العالم الكبيرة التي تتكون من تفاعلات عشوائية بين النظام والفوضى وبين التنظيم وسوء التنظيم وبين التنافر والتناغم وبين البناء والهدم وبين وجه الحياة ووجه الموت وبين العقل والجنون.
لا تعني الأنسنة[6] تجاهل لأصلنا الكوني وتكويننا الفيزيائي وتأصلنا الأرضي والبيولوجي بل هي مغامرة كونية خضعت لمجموعة من التحديات وشهدت عدة معارك وصراعات وانتهت إلى خلق حوارية إبداعية.
توجد عدة فرضيات تشير إلى حقيقة أن الإنسان هو الكائن البشري الفاني والمخلوق الذكي الأرضي الوحيد واليتيم في تكوينه الفيزيائي الكيميائي وبالخصوص حيازته على تنظيم ذاتي حيوي يتعذر إدراكه منطقيا. وبالتالي يبقى الإنسان حيوانا تناسليا من فئة الفقريات ومن صنف اللبائن ذات الأقدام المنتصبة التي تمتلك طاقة حيوية مفرطة وقدرات تنظيمية وإدراكية سمحت له بتطوير إمكانات جديدة من الحياة على نحو مذهل وإنتاج عمليات خلق حيوي أتاحت له فرص التفوق على بقية الكائنات بتقنيات في العديد من المجالات. لقد بدأت مغامرة الأنسنة قبل ستة ملايين عاما من ملحمة التطور ولقد أدت إلى تشكل الإنسانية بفضل النمو الداخلي في طور تخلق الجنين وتقلص حجم الجمجمة وأخذها في التسارع قبل مائتي ألف عام. من اللافت للنظر أن غياب البراهين إزاء أصل الإنسان ليس دليلا قاطعا على غياب بداية الإنسانية وبالتالي تظل عملية الأنسنة مغامرة غامضة ارتبطت بظهور أنواع جديدة تعمل باستخدام اليدين ومنتصبة القامة وتتميز بالمهارة والعاقلية وكانت قد طورت اللغة في التواصل والتعقيد الاجتماعي وأنتجت الثقافة لنقل المعارف عبر حقب التاريخ. لقد أوجدت الأنسنة علاقة مترابطة بين الطبيعة والثقافة ومنحت الكائن البشري المقدرة على الاكتساب والتكيف والتطوير والأداء وجهزته بدماغ قادر على إسناد اليدين عند العمل في مهمات تخصصية عديدة. لقد دفعت الأنسنة البشرية إلى تخطي مرحلة الحيوانية الإحيائية في مغامرة الحياة الخلاقة إلى بداية جديدة نحو الإنسانية وذلك بالتسلح بالدماغ واليدين واللغة والذهن والثقافة والوجود الاجتماعي والفكر المركب.
لكن كيف كانت الأنسنة البيولوجية ضرورية لتطور الثقافة؟ ولماذا كان انبثاق الثقافة ضروريا لاستمرار الأنسنة حتى مجيء الإنسان العاقل واستخدام اللغة بصورة منطقية دالة وتشكل الهوية الإنسانية؟ ومتى تحولت تجربة ثبت الهوية إلى انشغال رئيسي في الفكر والواقع؟
لقد دأبت الفلسفة على تطبيق مفهوم الهوية على شخص واحد في مستوى هويته العددية ولتشير إلى هذا الفرد الحي بكونه يمتلك هوية شخصية، ولكن مثل هذا التناول لا يمنح سوى المعنى المتداول ولا يعطي للفرد إلا هوية قانونية يتم التعامل معها بشكل رسمي ويعبر عن دوامها الفيزيائي واعتراف اجتماعي بها.
على هذا النحو يمكن إخضاع هذه الهوية المتعينة والبسيطة إلى التحليل الفلسفي والتفطن إلى تنوع وثراء مكوناتها وتعدد عناصرها واستخلاص إمكانية وجود هوية كيفية أو نوعية إلى جانب هوية كمية عددية[7].
إذا كانت الفلسفة الميتافيزيقية تقيم تعارضا بين الهوية والاختلاف وبين الإثبات والنفي وبين الطرح والسلب فإن الفكر الجدلي يرى إمكانية التعايش دون الاختلاط بين هاتين القيمتين وتبادل الأدوار في التحديد ويجعل من الهوية التاريخية حصيلة الاستيعاب والتجاوز والتأليف ووليدة حركة تقدمية.
غير أن رونيه ديكارت لا يمكن اعتباره مبدع مفهوم الهوية عند اكتشافه للكوجيتو وتأسيسه للذاتية وإنما جان لوك في كتابه “الهوية والاختلاف”[8] لما مهد الطريق لقيام فنومينولوجيا الذاكرة ولما شَيَّدَ نظرية المعنى الزمني للهوية وساهم في تطوير هرميينوطيقا الذات ونظرية في الاعتراف عند بول ريكور[9] جعلت من قدرة الشخص على بلورة علاقة باطنية مع نفسه وسردها مسألة أساسية. كما ساعد على تعيين الهوية الشخصية في إطار فلسفة المماثلMême وكشف عن المنظورية التراثية للنظر الباطني التي طابقت الذاكرة مع الوعي وجعلت من طبع الشخص كيفية لثبت الهوية ونمط من تملك الذات لذاتها[10].
من المعلوم أن الهوية الإنسانية عند أدغار موران تقوم على منطق الكثرة والتعدد وهذا المنطق يتجلى في ارتباط هذه الهوية بثلاثة أبعاد هي الهوية الفردية البيولوجية والهوية الثقافية وانتمائه للنوع الإنساني. كما أن هذا التركيب هو الذي يفرض على الأنا الانفتاح على بقية مكونات هويته، و تجاوز فرديته الضيقة، فيكون من الضروري بالنسبة له أن ينفتح على الآخر الذي يشترك معه في الانتماء لنفس الثقافة كما يلتقي مع الآخر الذي يشترك معه في صفة أعم هي الانتماء الإنساني. إن الهوية المتلاقحة ثقافيا وعرقيا تضم جملة الانتماءات المتعددة إلى العائلة والجهة والإثنية والوطن والدين والثقافة والفلسفة والقارة والأرض.
لقد اقتضت حكمة العيش المشترك رفض الانغلاق والتماثل وقبول المختلف والمغاير وتنظيم اللقاءات بين الهويات وتنمية هوية متعددة المنابت والاعتراف بالجذور المتشابكة للهوية المتعددة والسماح بتشكيل هوية مركبة انسانية. بناء على ذلك يستلزم الانفتاح على الأبعاد الثلاثة المكونة للهوية الإنسانية تأسيس إيتيقا كوكبية تقوم على أساس قدرة الفرد على مراجعة ذاته قيما وممارسة، والقبول بالأخر والتلاقح معه.
من هذا المنطلق يتوجه البحث إلى الهوية الإنسانية للمبدع وقول الأنا للذات واحتلال موقع في العالم ويرنو نحو جعل موضوعية الإبداع إظهارا للذاتية بما لا يكفي من الوضوح وبالتالي يلتقي الالتزام الوجودي عند المبدع بالمسارات المتبعة في التقصي والسبر والتدبير المسلط على الكائن مع طرق أبواب السؤال عن ثوابت ومتغيرات وأحوال وهيئات الهوية الثقافية ضمن دوائر السلطة وأنظمة الخطاب وفضاءات الرغبة.
إن السؤال عن الإنسان لم يعرف حضورا وكثافة مثلما يعرفه اليوم داخل الثقافة المعاصرة. كما إن السؤال عن هوية الإنسان هو سؤال ثقافتنا المعاصرة بامتياز. تعود كثافة حضور هذا السؤال ليس لما تعرفه حضارتنا من كثافة العنف ووحشيته، فالعنف خاصية ملازمة للتاريخ البشري، وإنما لشيوع وكثافة حضور صور العنف ذاته والذي لم يعد بالإمكان إخفائه تحت تأثير الآلة الإعلامية والتغطية التلفزية.
السؤال عن الإنسان هو سؤال الراهن المرتبط بالمفارقات التي تشق الوجود الإنساني. كما تتعلق هذه المفارقات بتراوح الوجود الإنساني بين البناء والتهديم، وقدرة الإنسان اللاّمتناهية على الإبداع والتسامي ولكن كذلك هوسه بالعنف والتحطيم وتهديد الحياة، تمسكه بأكثر المعتقدات سحرية وأسطورية ولكن كذلك إبداعه للفلسفة والعلم، قدرته على الحب كما الكراهية. لقد أدت التطورات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العالم الحديث بعد الثورة العلمية التي بدأت منذ القرن السابع عشر إلى وعي الإنسانية بمسألتين حاسمتين:
– المسألة الأولى هي اكتشاف الهوة العميقة التي تفصل بين العالم الإنساني والعالم الطبيعي وتجذّر الفصل بين الفكر والمادة وبين الطبيعة والإنسان وتجعل الكائن سيدا الكون الفيزيائي.
– المسألة الثانية هي اكتشاف الوعي العلمي للحركة التاريخية ووضع البشرية في حالة حركة مستمرة وتدافع دائم وتشكل ثورة سياسية تحقق للمجتمع الإنساني صيرورة تقدمية دائمة[11].
لكن بدأت علامات الاستغراب تظهر حينما تشعبت الروح الجديدة لهذا الزمان إلى مجموعة من الاتجاهات يمكن أن نذكر منها ما يلي:
– انقلاب في علامة القيم الاندماجية قد أدى إلى الحيلولة دون اكتمال عملية الاندماج.
– أشكلة مظاهر الحياة اليومية المعاصرة وإعادة صياغة خصوصياتها بطريقة معممة.
– ظهور وتطور قطب الصدمة الثورية وبالموازاة مع ذلك انتشر قطب إصلاحي أكثر اتساعا.
– التفاعل المعقد بين الأقطاب الثقافية الثلاثة أي التكميلية والمتنافسة والمتعارضة.
– توسيع وتعميق الأزمة التي تعرفها الهوية الثقافية والإبداع الثقافي نتيجة تطور المجتمع المعاصر[12].
من الواضح أن الكائن البشري قادر على تفحص الواقع الذي يحيط به على نحو عقلاني مسدد ولكن العقلانية لا تقدم له سوى صورة مجردة ولا تدرك التجربة المعاشة ولا تتمكن من الإحساس بماهيته. والأكثر غرابة تضمن الواقع البشري جزءا مرعبا يظل موجودا بصورة مجهرية وينتج عن عجز الكائن تحمل الكثير من المعرفة والوعي والعقل والحقيقة والوعي ولذلك يضطر إلى الاحتماء بالتخيل والإحساس والأسطورة والتدين. لهذا كانت السمة البارزة لهذا العصر هي استثارة الكائن لكي ينكشف ويتراءى للجميع كيف أصبح الإنسان مهدد بالذوبان في طريقة الانكشاف هذه وبالغرق في العدم وفقدان ماهيته لكي يصبح مجرد رصيد يستعمل ويستهلك في الاستحضار ويتم اختراق كل مجالات حياته وتصبح الأشياء دون حقيقة. في هذا الصدد يصرح موران بأنه ” يجب أن يكون تصورنا للذات معقدا. وأن يكون المرء ذاته تابعا ومستقلا في الوقت نفسه. أن يكون فردا عابرا ورفافا ومحتارا، أي أن يكون كل شيء تقريبا بالنسبة إلى ذاته ولاشيء بالنسبة الى الكون”[13].
من هذا المنظور إذا كان الأمل في العثور على مخرج من هذا الوضع المتردي مازال قائما ويبدو أمرا متاحا وفي المتناول فإنه ينبغي أن يتساءل المرء عن وضع أصلي في الكون لا تكون فيه الأشياء مجرد مواد للاستعراض والاستعمال والاستهلاك، ويجيب أن يبحث عن تجربة بدئية للهوية المشتركة لا يفقد فيها الكائن قدرته على التنظيم الذاتي والتكيف والاندماج، فهل هذا الوضع أمر مأمول؟ وهل هذه التجربة ممكنة؟ و كيف ينعكس مسار الأنسنة الثقافية على عملية تشكيل الهوية الإنسانية؟
2- الوحدة المتنوعة للهوية البشرية:
” يسمح مبدأ الهوية أيضا ببلوغ نجاعة المناهج العلمية التي تتبعه. لهذا السبب يكون من الممكن التفكير في إعادة تقسيم الكوني إلى جزئي وخصوصي”[14].
لقد جرت العادة أن يتخصص المرء في ميدان معرفي ما، يزداد مع الوقت تشعبًا وتعقيدًا. فمع أننا نحيا في عصر الاختصاص تبرهن محاور البحث الأساسية أن هذا الموضوع مهما استدقَّ، يظل لا يقل تعقيدًا عن بينة المخ –والكون والهوية. إنه اكتشاف حدود المعرفة ومحدوديتها وطبيعتها المفتوحة غير المنتهية أبدًا. أمام هذه الحقيقة البسيطة تصير كافة الفرضيات والنظريات التي صيغت لوصف الطبيعة والوعي مجرد نماذج مسرفة في التبسيط، من إسقاط الذهن البشري، الغرض منها تقريب الواقع الذي صاغها وقدرتها على الاستيعاب، المحدودة بالتعريف، بينما يبقى هذا الواقع يتعدى الذهن – لا بل ويحتويه أيضًا. لقد عزم موران على استبدال المنظور الاختزاليréductionniste، الذي يقلِّص أوجُه الواقع المتعددة والغنية إلى وجه واحد، بالفكر المتعقد الذي يقدم منظورًا عبرمناهجيًّا مركَّبًا وأن يرتب سائر مفاهيم النظام والفوضى والتفاعل والانتظام ضمن حلقة منطقية رباعية الحدود وذاتية التوالد. ولقد انطلق موران من سؤال بسيط: ما هو الإنسان؟ ولقد بات هذا السؤال الجوهري هاجسًا يؤرقنا ونحن نشهد ما نشهد اليوم من تحول الأرض إلى ميدان لأبشع أنواع الهمجية المطروحة فرجةً لسكان كوكبنا الأزرق. من هنا أتت الضرورة الملحة “لتعليم الإنسان الإنسانية” واستعراض فيلم تاريخ تشكل الإنسانية، منذ فجرها حتى الساعة. لقد أدى ظهور الثقافة إلى حدوث تغييرات جوهرية في مسار تطور النوع البشري على المستوى التشريحي والفيزيائي وتشكلت طبيعة ثانية تشتمل على لغة مزدوجة الترابط بين الأسطورة والسحر والدين والعلم والتقنية وتكونت عادات وتقاليد وتمت مراكمة الابتكارات والمهارات والمعارف والفنون بشكل سريع.
لقد انبثقت الإنسانية من تداخل عناصر ثلاثية هي الفرد –المجتمع- النوع والدماغ- الثقافة – الذهن والعقل –الانفعالات- الغريزة وعكست الأبعاد الاجتماعية والنفسية والبيولوجية وتحركت ضمن الفيزياء وما بعدها. لكن هذه العناصر الثلاثية تميزت بالحوارية والتكاملية والتجاوز بالرغم من بروز التضاد والنزاعية والعدائية، كما أوجدت لحمة ابستيمولوجية بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان وعند المرور من البيولوجيا إلى الأنثربولوجيا. لقد ترتب عن تطور الأنسنة الإقرار بالتنوع البيولوجي المذهل على مستوى الجسد والطبع والجبلة والنفس من ناحية وباختلاف الثقافات وتعددها على مستوى اللغة والنفس والعقلية والرؤية من ناحية أخرى ولكن توجد وحدة نوعية وهوية بشرية مشتركة غير واضحة للعيان ومنطوية على ذاتها ولا تدرك إلا عن طريق التشريح الثقافي والتحليل النقدي الذي ينتهي به الأمر إلى اكتشاف التنظيم المشترك وكونية التعبير. بناء على ذلك” يتسم جميع الأفراد بسمات مشتركة تضفي الإنسانية على البشرية : تفرد وذكاء من نمط جديد وسمة عقلية تتيح تجلي الذهن الذي يتيح بدوره ظهور الوعي”[15]. كما تتمثل مظاهر الوحدة بين البشر في بعض السمات النفسية العاطفية الكونية وفي توحد البشرية إزاء حقيقة الموت وفي الوحدة الثقافية والاجتماعية. غير أن أدغار موران ينفرد بـتأكيده على مقولة الواحد المتعدد والتنوع في الوحدة ، فكلمة إنسان هي مفرد واحد ولكنها تشير إلى المذكر والمؤنث وكلمة البشر هي حلقة نوعية تضم الأطفال والعاقلين والشيوخ والكهول والمرضى والعاملين والعاطلين والشباب والرجال والنساء والأحياء والأموات. زد على ذلك ” لنضف دلالة أخرى على الوحدة داخل التعددية وهي أن كل مخلوق بشري معرض للخطأ والوهم “[16]. كما يتراوح الكائن البشري بين المحبة والكراهية وبين الصداقة والعداوة وبين الانغلاق على الذات ورفض الآخر وبين الانفتاح على العالم ونزعة التملك وبين النزعة التدميرية والعقلية البنائية. علاوة على أن ” كل مخلوق بشري يحمل في داخله أجود وأردأ ما في الإنسان وأن الهمجية جزء من البشرية”[17]. بيد أن الوحدة التعددية تعاني من تناقض داخلي بين الانفصال والتواصل باللغة وبين التشابه والاختلاف في الثقافة وبين التماثل والغيرية في العضوية . وبالتالي ليست الوحدة بادية في البيولوجيا والاختلاف في الأنثربولوجيا بل يوجد اختلاف بيولوجي في المزاج ووحدة أنثربولوجية في العقلية والنفسية والعاطفة. والآية على ذلك موران يبرهن على هذا التكوين المركب والطبيعة البشرية المتعقدة بقوله:” ثمة وحدة بشرية. وثمة اختلاف بشري. وثمة وحدة داخل الاختلاف البشري وثمة اختلاف داخل الوحدة البشرية…و تبدأ هذه الوحدة- الاختلاف من التشريح إلى الأسطورة.”[18]
لكن يتعذر على الفكر التبسيطي الاختزالي الذي تعود على الفصل والتحليل أن يدرك الوحدة في الاختلاف والاختلاف في الوحدة ويصعب عليه أن يفهم الانفصال في الاتصال والمتصل في المنفصل وأن يدرك الواحد داخل المتعدد والمتعدد داخل الواحد. لقد عثر موران على هذه الوحدة المؤلمة في الإنسان المنتج عند ماركس الشاب ورفض أن يختزل وحدة البشرية في معيار ثقافي أو تحديد وراثي ونادي بمرونتها.
لكن كيف يمكن للفكر البشري إدراك الوحدة التي تؤيد التنوع وتسجيل التنوع الذي يضمن الوحدة؟
صحيح أن البشرية تنتمي إلى الكون ومتأصلة في الطبيعة فيزيائيا وبيولوجيا وانتشرت إنسانيا في التاريخ وتحوز على هوية كونية من جهة الثقافة والذهن والوعي ولكن انفتاحها على الحياة في أبعادها المتعددة جعلها تخوض مغامرة مجهولة تخرج فيه عن ذاتها وتفقد صوابها وتضل عن طريقها وتنتج لاإنسانية البشرية. لقد قامت الفلسفة الغربية على مفهوم الأنا بالمعنى الفردي وبالتالي استبعدت مفهوم الذات بالمعنى الشخصي وتم زرع الهوية المنطقية في المجال الأنثربولوجي وكانت النتيجة هوية بلا ذاتية وأنا أفكر منفرد بنفسه. وبالتالي كان مشروع إثبات الهوية الشخصية هو مجرد تأكيد ذاتي للأنا بشكل فردي لا دور للمجتمع والتاريخ والثقافة والآخر فيه وكانت السمة الجوهرية للحداثة هي قدرة الذات على النظر إلى نفسها كأنا. لقد تم استبعاد الذات من عالم الحياة ووقع التضحية بالجسد من أجل الوعي وتم منع الذات من إقامة علاقة ودية مع الآخر ووقع الاقتصار على التواطؤ ضمن منطق الأناوحدية وتم التركيز على الرؤية التي تعرف الذات من خلال مبدأ الوحدة الجوفاء وتم تهميش مبدأ الكثرة المادية والتقليل من قيمة الرغبة في الوجود. غير أن الذات الغربية هي معقدة بطبيعتها وبتعريفها ووقعت في الوضعنة[19] والذاتانية[20] وتعرف أن مصيرها الموت الحتمي والفناء نتيجة الإفراط في العدم ولذلك ظلت تطلق صيحات الفزع وتنبه نفسها من الكارثة. ربما من عيوب الذات الغربية أنها توهمت امتلاكها القدرة على أن تحكم على نفسها وتعالج مشكلتها الشخصية بصورة منفردة ولوحدها ودون مدد الهي وبطريقة موضوعية وهو ما يسميه موران “موضوعية الذاتي”. أما “الوهم الثاني” فيتمثل في اعتقاد الذات الغربية أيضا بأنها لوحدها في الكون ولا يشاركها أحد ولا تنافسها ذات أخرى على رعاية الوجود وبالتالي سقوطها في التمركز على نفسها. على خلاف ذلك لا يمكن للذات أن تحقق نفسها إلا بالاعتراف بكونها حوارية ذات وموضوع لا تكف عن أن تكون رؤية ذاتية لإنسانية الآخرين ولا تنفك عن أن تكون معرفة تبادلية تتلازم مع شخصية الآخرين وثقافاتهم وهوياتهم. وبالتالي “عندما تتمكن الذات من الانفتاح على الآخر بالضمير نحن وعلى أقرانها وعلى الحياة والعالم تزداد إنسانيتها ثراء”[21]. فمتى تتخلص الذات من المعاناة وتضع حد للتسلط الاجتماعي والتبعية الثقافية؟ ماهي المحددات الأساسية التي تقوم عليها الهوية المركبة عند موران؟ أليس حينما تدخل في حوارية مع الأغيار وتفكك أمراض المركزية والذاتانية والوضعنة والتحلي بالإيثار وتؤسس هوية ديناميكية متعددة الأشكال ومركبة بطريقة تجمع في رحمها بين الواحد والمتعدد؟
حقيق بنا أن نبين أن الهوية العلائقية تتكون من الأنا والآخر والروابط الاجتماعية والنفسية والثقافية و” تتحدد هويتنا ليس بالانفصال عنها فحسب ، بل على النقيض من ذلك، بضم أسلافها وانتماءاتها”[22]. بهذا المعنى يمكن التمييز بين الهوية الشخصية التي تعرف بالاستناد إلى الآباء والأجداد وامتلاك الاسم الشخصي وممارسة الحياة بشكل ذاتي والهوية الاجتماعية بالإشارة إلى القبيلة والقرية والمقاطعة والأمة والدين والوطن. غير أن الهوية الإنسانية تحمل في داخلها على نحو غامض وسري وعميق هذه التعددية من القوى والكائنات والعناصر المتداخلة والمتشابكة. وتجد هذه الهوية المركبة أساسها في “الطبيعة المزدوجة” للوجود الإنساني. فإذا ما كان كل فرد، وبما هو فرد، يحمل ضرورة خاصيات بيولوجية ونفسية محددة وتتجلى فيها فرديته وتمايزه عن الغير، وهذه الخاصيات البيولوجية هي التي تحفظ بقائه وتضمن استمراريته ، فان هذه الخاصيات ليست ثابتة أو نهائية، وإنما خاضعة للتغير و قابلة للصيرورة بفعل التأثير الذي تمارسه مقتضيات الوجود الاجتماعي والثقافي على الوجود الفردي للانا، والتي تجعله، منفتحا على الغير. إن هذا الانفتاح على الغير هو الذي يربطنا بحدود الوجود الثقافي والاجتماعي، وهذا البعد الاجتماعي الذي يفرض انفتاح الكائن الإنساني على الغير ويجد عمقه الحقيقي في اشتراكنا مع بقية البشر في الانتماء للنوع الإنساني وفي إطار كونية الوجود الإنساني، لذلك وتحت تأثير هذه المقتضيات الاجتماعية والثقافية التي تحكم وجودنا الإنساني، فانه لا يمكن الحديث عن هوية فردية خالصة تتشكل داخل الأنا على نحو يستبعد حضور الغير ويستعديه، كما لا يمكن للكائن الإنساني أن يذوب في المجتمع أو في النوع لأنه في هذه الحالة لن يستمر في البقاء أصلا ولن يحافظ على تفرده ونماء ذاته. كما يطرح مفهوم الذات الذي من المفروض أن يوحد الهوية البشرية ازدواجية داخلية ويتكون من الرائي والمرئي وبعبارة أخرى من العين والغير ومن الجانب المبتذل والجانب المثالي ومن الأنا والشخص. من المعلوم أن الهوية الشخصية تخضع لتحولات مستديمة في الحياة تجعلها مزدوجة حينا ومتعددة أحيانا وتقوم بأدوار متنوعة في المجتمع تتراوح بين التقليد والإبداع وبين الوظيفية والامتثالية مما يجعلها تخرج من كهوفها الداخلية وتلتقي بالأغيار في العالم وتمارس طقوسا متناقضة وتحترف التصنع والتظاهر.
اللافت للنظر أن الهوية الشخصية تعرف بعدا مستمرا ثابتا على طول حياتها وقطبا منقطعا يشهد التغيرات والإضافات والانحرافات والتطورات التاريخية وتجد نفسها مضطرة إلى السكن في العالم ومع الآخرين.
من المعلوم أن علاقة الهوية بالغيرية لا تقتصر على الوجود الخارجي للهويات المغايرة بل ماهو مدهش أن الغيرية تقيم في قلب الهوية قبل أن توجد في تخومها وعلى حدودها . إن العلاقة مع الغير قائمة بالقوة في علاقة الذات بذاتها أي أن كل واحد منا يحمل في داخله أنا آخر يكون في نفس الوقت غريبا ومطابقا لذاته. وللبرهنة على هذه الفكرة يستنجد موران بتجربة المرآة حيث يجد المرء نفسه مصاب بالذهول أمام المرآة إذ يشعر بغربته عن نفسه ويتعرف إلى نفسه في ذات الوقت. وبالتالي تعيش الهوية صدمة الغيرية والغرابة حينما تنظر إلي نفسها من منظور الهويات المغايرة وتتخذ قرارا إيتيقا حاسما بضرورة مغادرة وضع السكون والسفر من أرض الثبوتية والتطابق والتوجه بالذاتية نحو لقاء العالم والغير والمستقبل. فعن أي إيتيقا مستقبلية يجدر بنا الذهاب إليها ؟ وكيف تترتب عن سياسة الحضارة؟ هل يسعى موران إلى اعتماد إيتيقا الاقتناع التي تقتضي الإيمان أم إلى تفعيل إيتيقا المسؤولية التي تشترط الفعل؟
3- الفكر المركب وإبداع إنسانية المستقبل:
” إن الفكر المركب لا يرفض اطلاقا الوضوح والثبات والحتمية الا أنه يعلم أنها غير كافية، ويعلم أنه ليس بإمكاننا برمجة لا الاكتشاف ولا المعرفة ولا الفعل.”[23]
يصعب في مقام محدود زمنيا، مثل هذا الملتقى- كهذا تقديم صورة متكاملة وشافية عن التصور المركب لمسألة الهوية ، وذلك لتعدد اهتمامات الفكر المعاصر وانشغالاته وتعرضه لكافة أوجه النشاط الإنساني، على تنوعه وتعقيده، وتطبيقه للمقاربة العبرمناهجية للمعرفة. ولعل غاية المقاربة العبرمناهجية[24] هي فهم العالم الحالي الذي صار فيه توحيد المعرفة الإنسانية إلزامًا يتاخم الضرورة القدرية وتتوقف عليه حتى انعتاق الإنسانية كنوع. في هذا الصدد “لا تقترح العبرمنهاجية برنامجا في البحث ولا مشروع مجتمع ، لكنها تحاول تعريف طريق معين”[25]. لكن كيف يمكن لفرد واحد، مهما بلغت سعة اطلاعه، أن يحيط بكافة المعارف المتاحة، على الرغم من اتساعها وتنوعها وكثرتها – لا بل وتناقضها في كثير من الأحيان؟
تتكون النواة الرئيسية للمبحث الأنثربولوجي عند أدغار موران من العناصر التالية:
-الشروط الأنثربولوجي للمعرفة التي تحيل إلى الاستعدادات العصبية والذهنية للكائن البشري.
-الشروط التاريخي والاجتماعي للمعرفة التي تحيل إلى الشروط الخاصة بالثقافات والأزمنة التي تتبلور فيها المعارف.
-الشروط المنطقية للمعرفة التي تحاول تجاوز المنطق الأرسطي نحو المنطق الحواري بالاعتراف بصلاحية المعارف المتعلق بالمواضيع المفصولة عن بعضها البعض وفي المسارات التحليلية.
– الشروط التداولية للمعرفة التي تراقب وتفرض استعمال المنطق ليس فقط في تنظيم المعارف ولكن أيضا في تنظيم المجتمع. إن تداولية المعرفة هو نواة النواة بما أنها تتخطى أنثربولوجيا المعرفة وسوسيولوجيا الثقافة ويكون معهما نوعا من القطب الثلاثي[26].
يترتب عن ذلك أن الذهن البشري يتأرجح بين القوة والضعف وأن الخطأ سمة بشرية نافعة وأن الفكر واحد ومتعدد في نفس الوقت وأن الدماغ البشري يشتغل مثل الحاسوب ويمتلك لغة رمزية تواصلية.
غني عن البيان” أن الفكر أحاديا ، تعدديا ، ومتعدد الأشكال ، يبتكر استراتيجيات فكرية أو عملية متنوعة، بحسب المشاكل التي يصادفها ويستخدمها. وثمة تنوع في أساليب الفكر كما في الأنماط الفكرية”[27]. كما أن الطابع المزدوج الذي يسكنه يدفعه إلى إجراء حواريات بين المنطق والأسطورة وبين العقل والتجربة والى معارضة ذاته باستمرار والإقامة في التناقض الذاتي ومواجهة الواقع الخارجي على ما فيه من تعقد.
من جهة أخرى يقتحم الفكر بحار المغامرة ويقوم بخطوات جريئة في اتجاه المجهول ويستعين بالرمزي والخيالي والافتراضي والتجريبي والتجريدي ويمارس النقد الذاتي للعقلانية العلمية محاولا رسم حدودها.
الحركة الإبداعية للذهن البشري هي تجربة روحانية بامتياز تحاكي القدرة الإلهية على الخلق والإنشاء وتتميز عبقريتها الأصلية بجملة من التمظهرات المادية والقدرات المدهشة التي يمكن أن نذكر أهمها:
– إبداعية تقنية: اختراع الآلات والوسائل
– إبداعية فكرية: سبك النظريات والمفاهيم
– إبداعية اجتماعية: سن القوانين وتشييد المؤسسات
– إبداعية جمالية: نظم الشعر ووضع الفنون[28]
على هذا الأساس يوجد مفهوم الإبداع Création في مفترق ويتشعب إلى دلالات ثلاثة:
– معنى جذري: خلق الله للعالم من العدم.