23 ديسمبر، 2024 12:48 ص

مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء موجتي ثورات التغيير

مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء موجتي ثورات التغيير

يعتبر الصراع العربي –الفلسطيني الإسرائيلي احد أقدم وبالتالي أعقد الصراعات التي تجري على سطح الأرض، لذا فدائماً ما تسمع عندما يدور الحديث عن أصول وأسباب وخلفيات هذا الصراع، تسمع أطراف الصراع أو مناصريهم يستندون إلى نصوص الكتب السماوية (وهي بطبيعة الحال من أقدم المراجع للتاريخ البشري إن صحت العبارة)، وقد أخذ هذا الصراع شكله الأخير في العام 1948م عندما أعلنت منظمات يهودية ومستوطنين يهود على أرض فلسطين قيام دولة إسرائيل، وذلك بمساعدة من بريطانيا التي كانت تحتل هذه الأرض بعد أن أجلت عنها الوجود والنفوذ العثماني في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبمساندة من الدول الغربية الأخرى.
وفي أثر إعلان سنة 1948م مباشرة نشبت أولى الحروب بين العرب وإسرائيل، ثم نشبت حرب ثانية في 1956م وثالثة في 1967م، وقد خرجت إسرائيل بمكاسب عسكرية من كل تلك الحروب مكنتها من احتلال أغلب الأراضي التي يتأسس عليها الوجود الإسرائيلي والدولة الحالية بما في ذلك القطاع (غزة) والضفة الغربية (واللتان تمثلان أرض مشروع الدولة الفلسطينية المقترحة) والجولان السورية، وكانت قد احتلت سيناء المصرية ولكن أجليت منها بعد الحرب الرابعة سنة 1973م، كما احتلت أراضي في جنوب لبنان لكنها انسحبت منها سنة 2000م، ولم تتوقف المعارك والاشتباكات بحرب 1973م فقد وقعت معارك في لبنان سنة 1982م وأخرى سنة 2006م مع حزب الله كما أن الاشتباكات مع الفلسطينيين مستمرة وكان آخر أكبر اشتباك قد وقع سنة 2008م وهي العملية العسكرية التي أسمتها إسرائيل (الرصاص المسكوب).
في ذلك الوقت بلغ المشهد في الشرق الأوسط مرحلة غاية في التعقيد لدرجة يصعب توصيف الحال معها.. فالأوضاع الآن هي مزيج من بقايا الصراع والحرب، وبقايا ما بات يصطلح على تسميته بالعملية السلمية. بقايا صراع لأنه انحصر في مقاومة حزب الله بجنوب لبنان، وهي مقاومة دخلت طور السكون لأن المقاومين قبلوا والتزموا بقرار مجلس الأمن الذي أنهى حرب 2006م، وانحصر كذلك في مقاومة حزب الله بقطاع غزة الفلسطيني، وهي مقاومة دخلت طور الجمود بفضل حالة الهدنة التي أعقبت العملية العسكرية الإسرائيلية (عدوان الرصاص المسكوب) سنة 2008م، لذا فالصراع العربي الإسرائيلي دخل طور مختلف وأصبح أشبه بصراع يستخدم فيه سلاح الكلمات والادانات والرفض بدلاً عن سلاح القنابل والصواريخ والمتفجرات.
وبالمقابل فإن العملية السلمية التي انطلقت بعد مباحثات ومعاهدات أوسلو ومدريد (والاتفاقيات المصرية الإسرائيلية في كامب ديفيد قبل ذلك)، ثم اتفاق وادي عربة وخارطة الطريق وأنا بولس…الخ وصلت بدورها إلى طريق مسدود أو إلى مفترقات عدة تقود كلها على لاشيء.. فخلقت العملية السلمية تلك مشهداً هشاً يكاد ينهار على رأس السلطة الفلسطينية وحركة فتح أولاً، ثم على رأس الجميع بما في ذلك إسرائيل ومصر والأردن.
وهذا المشهد لم ولن يخدم أحداً ولا يصب في مصلحة أي طرف، بل ويضر بالجميع.. وللمفارقة فقد أسهم الجميع في الوصول إليه.
أسهمت إسرائيل أولاً لأنها أرادت تجزئة أصل الصرع (القضية الفلسطينية) ففصلت عملية السلام إلى مسارات سوري، وأردني، ولبناني، وفلسطيني..الخ، تتقدم في هذا المسار لتتراجع في ذاك، وتجمد هذا لتحرك ذاك، وهكذا دواليك، فإسرائيل لا تريد سلاماً ولا تطبيعاً على عكس ما كانت تروج له، كما أنها لا تريد حرباً مفتوحة كما تتظاهر، فوجودها اقترن بصورة الدولة (الضحية)، أي الدولة الديمقراطية الصغيرة والمتحضرة وسط غابة من الدول الكبيرة المتخلفة والديكتاتورية، فبذا تستدر عطف الأمم والدول الأوربية وأمريكا و دعمهم، بما أصابها بما يشبه عقدة كينونة وأزمة صدمة ميلاد.
وأسهم الفلسطينيون ثانياً.. لأنهم على اختلاف تياراتهم عجزوا عن خلق إطار وتقديم تصور لتسوية معقولة تقنع العالم بعدالة قضيتهم ونزاهة مطالبهم ونظافة أياديهم من تهم الإرهاب.. ففتح عزلت فصائل منظمة التحرير الأخرى، وتصدت منفردة لعملية التفاوض وللعملية السلمية والسياسية بافتراض أنها الوصي الشرعي على الشعب الفلسطيني وعلى كفاحه، والجبهات الشعبية والديمقراطية أسهمت لأنها شاركت في عمليات الكفاح المسلح، ثم تخاذلت عن الإسهام الفكري والسياسي، وعن تأسيس ركائز كفاح سياسي سلمي، وأخلت المسرح الفلسطيني لفتح وحماس، وحركة حماس أسهمت لكونها تمتلك إرادة خوض صراع لا ينتهي، وبوسائل وأدوات ضعيفة (تصل حتى مستوى العمليات الاستشهادية الانتحارية) ويمكن أن تقود الشعب الفلسطيني كله إلى الانتحار.. ولكنها لا تمتلك شجاعة وإرادة الجنوح إلى السلم وما يتطلبه من مقدرة على إدارة الصراع على مستوياته السياسية والدبلوماسية والفكرية، وما يقتضيه من حوار لا يعرف ولا يعترف بالثوابت المطلقة والخطوط الحمراء، حوار مع الداخل ومع الذات أولاً، ثم مع الخارج.. وافتقار حماس لتلك المؤهلات تضافر مع موقف فتح لتنتج عنه حالة الانقسام العميقة والتي يجاهد الطرفان لإنهائها.. هو ما يشكك في إمكان قيام دولة فلسطينية (موحدة)، هذا ناهيك عن قدرتها على التعايش مع الكيان الإسرائيلي.
وهنالك أيضاً إسهام عربي وإسلامي.. لأن الدول العربية والإسلامية اكتفت بدور المتفرج الذي يدعم هذا الطرف الفلسطيني على حساب الآخر، وينافق في ذات الوقت باقي العالم وذلك بإقامة علاقات سرية وتطبيع صوري مع إسرائيل لكون انظمتها ايضا مستفيدة من استمرار حالة الصراع.
وأسهم العالم أخيراً.. لأن دول العالم وخصوصاً دول الغرب (صاحبة القدح المعلى في مشروع إقامة دولة إسرائيل وفي دعمها) وهي للمفارقة المتسبب الأول فيما حاق باليهود، تعود لتتسبب ثانية فيما حاق ويحيق بالفلسطينيين وكل شعوب المنطقة، فها هو الغرب يغض الطرف حتى عن حصار الشعب الفلسطيني في غزة، ذلك الحصار الذي تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق (أولمرت) بأن يحيل به غزة إلى معسكر هولوكوست ضخم! في إشارة لمعسكرات النازية التي تعرض فيها اليهود للاضطهاد والإبادة..
وسكت العالم عن تلك الإشارة الواضحة بل وعن الوقائع على الأرض، مع أنها لو بدرت من أي طرف آخر لأقام الإعلام العالمي قيامة الرأي العام!
وتأكد أن دول الغرب لا تستطيع التكفير عما ارتكب من مأساة إلا بتسبيب مأساة أخرى، ولا يستطيع إنهاء معاناة شعب ووضع حد لاضطهاده إلا عبر اضطهاد ومعاناة شعب آخر!! وتأكد كذلك أن اليهود لا يمكنهم نسيان مأساتهم والعفو إلا بطريق تسبيب مأساة لأبرياء آخرين.
إن هذا المشهد المتشعب يفتح الباب على مصراعيه للتشكيك بكل مسلمات الصراع العربي الإسرائيلي وكل مسلمات السلام أيضاً..
فعلى اليمين الفلسطيني واليمين الإسرائيلي إقناع العالم بتصورهم لهذا الصراع والذي يؤمنان بحتميته واستمراره، وأنه صراع أزلي وسرمدي في ذات الوقت، وإقناع أنفسهم أولاً بهذا التصور وإلا فعليهم الانسحاب من المشهد وإخلاء المسرح للقوى القادرة على إنهاء الصراع الطويل، وعلى بقية القوى أن تتبنى منهجية عقلانية ومصلحية (براغماتية)، لمحاصرة القوى التي تعبث بحياة الشعوب وأمنها وتطلعاتها المشروعة في الاستقرار والسلام. وعلى القوى العالمية (اللجنة الرباعية ومن يقفون خلفها) دعم هذا الاتجاه.
ثم بعد اختبار مسلمات الصراع وتمحيصها، ينبغي إعادة النظر فيما اعتبرت سابقاً مسلمات للعملية السلمية (الأرض مقابل السلام، خيار الدولتين… الخ) وترتيب الأولويات من جديد.. فخيار الدولتين هذا ثبت أنه ليس الخيار الأنسب لتسوية الأزمة في الشرق الأوسط (وليس القذافي وحده من يقول بذلك، بل كارتر، عراب كامب ديفيد الأولى، أيضاً قال بذلك في تصريحات صدرت عنه سنة 2009م)، إذ كيف ستقوم دولة على أوصال أرض مقسمة ومعزولة عن بعضها (الضفة والقطاع) ؟؟، ثم علاوة على ذلك تعج بالمستوطنات، ثم لديها امتدادات سكانية تتمثل في عرب 48 المتواجدين داخل إسرائيل، ولديها كذلك ملايين اللاجئين في دول الشتات. ولدى مواطنيها ارتباطات اقتصادية لا تنفصم عن إسرائيل.. هذا بالإضافة لوضع القدس المختلف عليه؟؟
لكل ذلك فإن خيار الدولتين تضعف حظوظه لصالح حظوظ الدولة الواحدة المدنية والديمقراطية، والتي يمكن أن تمثل إسرائيل مركز ثقلها السياسي والاقتصادي (لعوامل جغرافية وتاريخية ..(
إن الثورات العربية الديمقراطية تشير إلى إمكان إحداث اختراق سياسي تفاوضي في ملف الصراع / الحوار العربي الإسرائيلي، لكن على إسرائيل أن تتنازل عن مسلمات وأفكار ما قبل الثورات الشعبية العربية.. فمسألة الدولة اليهودية التي يدفع باتجاهها رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) ويغض زعماء الغرب )الديمقراطي) طرفهم عنها، بل ويدعمونها في تناقض مفضوح مع مبادئ الفكر السياسي الحديث الذي يدينون به!
ولن يكون من السهل الوصول لصيغ تفاهمات واتفاق حول كل تفاصيل خيار الدولة الواحدة وذلك بسبب ما يواجهه من تاريخ ملئ بالتشكك والخوف وبسبب تراكم التوجس الناتج عن تجارب الحروب والصراع..
بل ويمكن أن يكون مستبعداً حالياً (فالثورات الديمقراطية العربية تحتاج لوقت حتى تعيد تقييم هذا الوضع وتحدد موقف الشعوب العربية الحرة منه) إلا أنه يظل أكثر واقعية من خيار الدولتين الذي ثبت فشله، والثورات العربية تمثل خطوة الشعوب العربية في هذا الاتجاه وعلى إسرائيل وداعميها أن يخطو بدورهم في ذات الاتجاه، لتغليب إرادة التعايش على إرادة الحرب والتطرف.