«عليك دائماً أن تعمل كرجل فكر، وأن تفكّر كرجل عمل»؛ ذلك ما قاله المفكر الفرنسي هنري برجسون. وأجِدُ ترابطاً عملياً لهذه العبارة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون في علاقات دول الإقليم وأممه بين بعضها، خصوصاً حين تصل الأمور إلى مفترق طرق، فإمّا استمرار التناحر وتبديد الطاقات البشرية والمادية وتعطيل التنمية، وإما التفاهم والتعاون وصولاً للتكامل والمشترك الإنساني.
وإذا كان حصاد الحروب والنزاعات والصراعات في الإقليم الذي نعيش فيه، والذي يضمّ الأتراك والفرس والكرد والعرب، عدّة ملايين من الضحايا وما يزيد على 12 تريليون دولار في التقديرات غير المبالغة خلال العشرين عاماً الماضية، فهذا يعني تعويم التنمية أو تعطيلها على أقل تقدير، وعرقلة خطط الإصلاح، التي لا يمكن الحديث عنها إلّا في ظل أجواء الاستقرار والسلام. ف«الحروب تولد في العقول»؛ ولذلك ينبغي «بناء حصون السلام في العقول أيضاً»، حسب دستور «اليونيسكو»؛ ولأن وظيفة النخب الفكرية والثقافية بشكل عام، التوجّه إلى الإنسان ومخاطبة عقله، فلا بدّ لها إذاً أن تتحرّك؛ لتقديم رؤية نقيضة للحرب على الرغم من الخراب والدمار وثقافة العنف.
خطر ذلك ببالي، وأنا أساهم في جلسة لإعلان منبر جديد للحوار باسم «منتدى التكامل الإقليمي»، أطلق من الجامعة اللبنانية. والفكرة وإنْ انطوت على تقدير إيجابي لمستقبل علاقة أمم الإقليم المشرقي، الذي اعتبره مجالاً حيوياً لاهتمامه، فهي في الوقت نفسه تمثّل جامعاً يسعى إلى تعظيمه، وأمّا ما هو مفرّق فقد نظر إليه بكونه طارئاً وعابراً وظرفياً ينبغي العمل على تقليصه.
ولعلّ هذه النظرة المستقبلية، شغلت مثقفين من بلدان عدّة تلمّسوا بتجاربهم وكلٌ من موقعه أهمية الحوار خارج دائرة الاشتباكات الإيديولوجية والاستقطابات الطائفية والاحترابات الإثنية والمصالح الأنانية الضيقة؛ لأنها تقوم باختصار على أن الأمم والشعوب، التي تعيش في المنطقة، والتي تعاني توتّرات وصراعات داخلية وإقليمية وخارجية، تحتاج إلى إعادة بناء علاقاتها مع بعضها؛ لتنميتها بروح القيم الإنسانية، التي تمثّل المشتركات بين البشر، وكان ذلك مدار بحث وحوار في تونس وما ينتظر أن ينطلق بصورة واسعة في منتدى الفكر العربي بعمّان.
وإذا توقّفنا عند الحروب والصراعات، التي تعيشها دول الإقليم، فسنراها حروباً مركّبة سياسية واقتصادية وإيديولوجية حتى وإنْ حملت في حقيقتها مصالح قوميّة جيوسياسية ونزعات للهيمنة وفرض الإرادة، سواء حدثت بصورة مباشرة أم بالواسطة، وبالتداخل والتناظر مع مصالح دولية أحياناً، ليس بعيداً عنها الدور «الإسرائيلي» العدواني المستمر.
فهل ثمة فرصة لأمم الإقليم؛ لتعزيز الروابط فيما بينها، والنهوض بمستلزمات التحدّي الذي يواجهها، خصوصاً وأن هناك استهدافاً شاملاً لها جميعاً دون استثناء؟ ثم كيف يمكنها استثمار اللحظة التاريخية والتقاط ما هو جوهري ومستقبلي؛ لبناء العلاقات وفقاً لقيم ومبادئ كونية جامعة قوامها: الحرية والسلام والتسامح والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة واحترام الخصوصيات والهوّيات الفرعية، وتلك جوامع إنسانية لبني البشر، فما بالك بالنسبة لشعوب المنطقة. وإذا كانت أوروبا قد سبقتنا بوضع حدٍّ لحروبها الطائفية، ولاسيّما بين البروتستانت والكاثوليك، وخصوصاً «حرب الثلاثين عاماً»؛ بإبرام معاهدة وستفاليا 1648، فسيكون جديراً بالإقليم المشرقي إعادة بناء علاقاته وفقاً لهذه الأسس الجيوسياسية الثقافية، وعلى قواعد القانون الدولي المعاصر، وميثاق الأمم المتحدة ووفقاً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، التي يمكن أن تضع حداً لحروب عبثية باسم السنّة والشيعة، وباسم «الإسلام» ضد الأديان الأخرى، وهذا ما كان قد طغى على خطاب «داعش»؛ بعد هيمنته على ثلث مساحة كل من العراق وسوريا، لاسيّما باستهداف المسيحيين والإيزيديين، وأتباع الأديان الأخرى، وجميع المسلمين وفقاً لاجتهاداته الجهنمية بتكفير الجميع.
وبتقديري، إن النخب الفكرية والثقافية والحقوقية ومن موقعها التنويري يمكن أن تكون «قوة اقتراح» وخصوصاً، حين تستطيع بناء جسور الثقة مع أصحاب القرار؛ بحيث تصبح شريكاً فاعلاً ومشاركاً لا غنى عنه في عملية التنمية المنشودة، سواء في صنع القرار أم في تنفيذه.
يمكننا تصوّر كم كان وجه الإقليم سيكون مختلفاً ومكانته كبيرة؛ لو اعتمد «تعاهداً» أو «ميثاقاً» عاماً للسلام؛ أساسه احترام مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحق تقرير المصير وإنماء التعاون والشراكة ؟ وكم سيكون انعكاسه فاعلاً على كل بلد، وعلى مستوى الإقليم؛ بل على المستوى الكوني؛ بالاستثمار لمصلحة الإنسان وحقوقه وحرّياته وتعليمه وصحته وبيئته وتنميته؟ وبالطبع بالتكامل وليس بالتناحر!!