في البلدان المتقدمة ، وحتى في دول مجاورة للعراق ، يشكل تعدد مراكز صنع القرار مصدر قوة لبلدانها وشعوبها ونهوضها،ومعرفة مواقع الضعف والوهن التي تعترضها، الا في العراق ، فأن تعدد دوائر صنع القرار فيه يشكل كارثة على مستقبل البلد ، لأن كل واحد هنا في العراق ، يريد ان يبحر بسفينة نجاة خاصة به، واذا بسفنهم تدور في البحر وقد أظلت طريقها، لأن كل واحد منهم يغني على ليلاه ، ولا أحد يريد للآخر ان يكون له وجود على أرض العراق!!
أجل ، فضياع مستقبل العراق يتحملها سياسيو العراق وحدهم ، أو الغالبية العظمى منهم، وهم من أوصلوا البلد الى ماتعرض له من تشرذم وتفتت وتصادم واحتلالات، ولأن لكل واحد منهم لديه توجهات تختلف كليا او تتناقض مع الآخر حتى مع من يلتقي معه في بعض الرؤى والاتجاهات فهو يحفر له في السر ويريد ايقاعه في أول مطب يصطدم به في قارعة الطريق، أما من يختلف معه فمصيره الويل والثبور!!
بل أن الطامة الكبرى ، انه لاتوجد في العراق مراكز بحثية حقيقية لصنع القرار ، بل لاتوجد دوائر حقيقية لصنع القرار أصلا ، وكل يعد نفسه من اصحاب الكتل السياسية الكبيرة المتحكمة بالمشهد العراقي أنه هو من يحق لها ان تكون له اداة لصنع القرار وقرضه على الآخرين ، أما ( البقية ) فهم مجرد ( فزاعات خضرة ) لاتقدم ولا تؤخر ، وما هو موجود من مراكز بحثية او مايسمى بدوائر صنع القرار حقيقة داخل هيئات القوى السياسية العراقية وحتى في بعض مؤسسات دولة ليس مراكز بحثية او مراكز دراسات في العراق وهي واجهات ( دعائية ) ليس الا، وهي أصلا لا تقترب من مهمة البحث العلمي لامن قريب أو بعيد، وكل توجهاتها طائفية ومذهبية وفي بعض منها عرقية ، وهي في كل مضامينها وتوجهاتها تكرس الانقسام والتشرذم والتفتت في الكيان العراقي، ومن الصعوبة ان تجد بين مضامين مايسمى ببحوثها مفردة منهج يقترب من المنهج العلمي او مقارباته، وهي دعاية سياسية لجهات معدة خصيصا للتغني بأمجاد هذه الجهة السياسية أو تلك، بل ويتفاخر البعض منها بأنها تعود لأجندة خارجية لاتمت الى مصلحة العراق لامن قريب او بعيد!!
إن واحدة من أسباب تدهور أوضاع البلد وتدني مستوى حضوره المحلي والاقليمي والدولي وانحدار ثقافته الأصيلة وانحطاط القيم هي هذا التعدد المفرط حد القيء ، في توجهات قوى سياسية عراقية يصل تعدادها الى مالايزيد عن مائة وخمسين حزيا وحركة وجمعية سياسية تعود لشتات مختلفة متنوعة الاهداف والتوجهات لكنها طائفية ومذهبية في الأصل ، ومن النادر جدا ان لم يكن من المستحيل ان تجد قوة سياسية اعتمدت مركزا بحثيا مرموقا لديه اساتذة ومختصين في شؤون البحث العلمي وتحليل المضمون ، وكل مايقدمه البعض حتى من المحسوبين على الاكاديميين هو انه لابد وان تكون بحوثهم مرضية لطموحات واهداف الجهة السياسية التي يعمل لحسابها وتردد توجهاتها وما يشكل لها عملا دعائيا يضمن ترديد مقولاتها في الشارع العراقي ، ويتناغم معها في الافكار والرؤى والتوجهات ولا يخرج عنها بأي حال من الأحوال، حتى وان اتخذت من ( العلمية ) منهجا لتوجهاتها ، بل انه اذا ماكتب لها بحثا علميا او اكاديميا ربما يوجه لها الانتقاد لسياساتها او لأنه فقط يريد ان يوجه خططها في الاتجاه الصحيح فأنه لن يجد له مكانا في المستقبل لدى امثال تلك الحركات ان لم تعده عميلا او تابعا لجهة معادية بالرغم من انه يريد ان ينصحها الى أن الطريق الذي تسير فيه يحتاج الى توجهات من نوع آخر، وهو يريد ان يخلص للجهة التي يعمل لديها، لكن لا احد يريد ان يستفيد من خبراته، لان الخبرة لدى البعض تعد عملا زائدا، وعليه ان يبقى ضمن الحدود التي رسمت له ولا يخرج عنها بأي شكل من الاشكال!!
مشكلة العراق المستعصية هي هذه الفوضى الضاربة في اعماق الواقع السياسي العراقي ، فوضى تعددية سياسية عارمة، لايجمع بينها رابط ولا مصلحة، كل يغني على ليلاه كما قلنا، وكل يتمنى للآخر ان يغرق في منتصف الطريق، لكي يبقى هو يتسيد المشهد، وكل سقوط للآخر يعده ( البعض ) نجاحات لهم، حتى وان كانوا من الفصيلة نفسها التي ينتمي اليها هذا الكيان السياسي او الحركة السياسية، فما بالك في الذي يختلف معك اصلا او انت تختلف معه في الصيغة والمنهج ، بل ان بعضها يرفض مبدأ مراكز البحوث اصلا ، بل هي لاتوجد لديه مثل هذه التوجهات، وهو يفضل ان يجد شخصية غارقة في بحور الفساد حتى الثمالة ، لمجرد انها تشكل موردا لحركته السياسية ، وهناك من تلك النماذج الكثير وهم اصحاب ( حظوة سياسية ودعائية ) لايمكن لتلك القوى الاستغناء عنها، بل ان من لايميل الى الفساد ويغرف من مناهله ما يشكل لهذه القوى موردا يسيل له اللعاب فأن هذه الشخصيات سيكون مصيرها السقوط والاستغناء عن خدماتها، أما استقامة البعض وسعيهم لتقديم خدمة جليلة لوطنهم وشعبهم، فهي مجلبة لأن يصبح مصير هؤلاء في طي النسيان ان لم يجدوا أنفسهم يغردون خارج السرب، هذا ان بقي لهم مكان اصلا!!
والظاهرة الاكثر خطورة انه حتى في مؤسسات دولة يفترض انها تهتم بالبحث العلمي ويكون أحد ادواتها الاساسية ليس في التعرف على وجهات نظر الرأي العام فحسب ، بل في الخطط والتوجهات والانماط والسلوك الامثل ، الذي يهدف الى اعداد دراسات وبحوث تغور في اعماق المشكلات المراد بحثها ، وبخاصة تلك التي تعنى بمصالح البلد العليا وما يسمى بالأمن الوطني والقومي،وبخاصة دوائر وزارتي الدفاع والداخلية وجهات أخرى ذات طابع تحليلي ، تكاد تلك المؤسسات ذات صبغة دعائية ونمطية لاتقترب من مضامين البحث العلمي في شيء، وهي أقرب الى استبيانات وملاحظات ترضي تلك الجهة السياسية ولا تغضبها ان كانت لا تتوائم مع منهجها وتوجهاتها، وكان المفترض ان تكون مراكز بحوثها بنفس القدر الذي تتبعه دول جوار ودول في المنطقة تعطي للبحث العلمي قيمته، لا ان تكون مجرد واجهات ( دعائية ) لتحقيق مصالح ضيقة لتلك القوى، أما ( مصلحة العراق ) فهي ( الغائبة ) دوما، ويكاد مستقبل العراق يدور في حلقة ( مفرغة ) من التوجهات والاهداف لها أول وليس لها آخر، ما أضاع علينا امكانية ان نجد حلا لمشكلات بلدنا وهي كبيرة وعميقة، وتشكل جرحا غائرا في الجسد العراقي، وبدلا ان تبحث عن العلاجات تزيد هذا الجرح إيلاما، ليبقى العرقيون يكتوون بنيران الازمات، ولا يوجد ( مخرج ) لهم في مستقبل قريب!!