23 ديسمبر، 2024 10:09 ص

مساهمة المجتمع المدني في ترسيخ مباديء الديمقراطية

مساهمة المجتمع المدني في ترسيخ مباديء الديمقراطية

مؤسسات المجتمع المدني هي تلك الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية الحية والفاعلة والنشطة في المجتمع والتي إذا ما نظرنا إليها نظرة موضوعية باعتبارها الرائدة في القيادة والتحديث والتطوير للمجتمع فإنه يمكن القول أن لها دوراً غير عادي في خلق مجتمع أكثر وعياً وأكثر عطاءًا .. لأن منها ما يعمل في الحقل الخدمي ومنها ما يعمل في الحقل الإنتاجي .. في الحقل التوعوي .. في الحقل السياسي .. حقول متعددة ، وهذه الحقول كلها متى ما أخلصت كل جماعة وكل منظمة في موقعها فإنها لابد أن تثمر لمصلحة المجتمع في الإطار العام .. ثم من ناحية أخرى فإن طبيعة العمل الجماعي تختلف عن طبيعة العمل الفردي ، المجتمع المدني هو كيان مستقل عن الدولة منظمات غير حكومية و لا تهدف للربح(بعبارة اخرى هي ليس كالسوق لانها غير ربحية ,وهي ليس كالدولة لانها غير تسلطية) . معيار عدم  الربحية الذي يميز المجتمع المدني كفضاء منفصل نظريا عن السوق. إنّ القطاع غير الربحي يعمل كفضاء لنشاطاتٍ اقتصادية مختلفة تولد نتائج مفيدة بأشكال متعددة مثل إنشاء و تسيير البني التحتية كالمدارس و الجامعات و المستشفيات ، أو توفير خدمات فكرية مثل انجاز الاستشارات و الخبرات الضرورية لمواكبة و تأطير المجتمعات المحلية في إطار تنفيذ المشاريع و الأنشطة الصغيرة، إلخ… و العملية برمتها تؤمن دخلاً و وظائف و تؤسس تجربة و تراكم خبرة و تخلق قيمة مضافة للناتج القومي الإجمالي لكل بلد كما تفيد المجتمع برمته. والمجتمع المدني متمتع بحرية التنظيم الذاتي وفق أنساق من التشكيلات المؤسساتية الطوعية المتنوعة ذات الصفة والهدف السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري والقيمي ..الخ ، بعيداً عن هيمنة الدولة ، والملتزم بالأنظمة الدستورية والقانونية في البلاد. لذا فالمجتمع المدني هو المجتمع المتفاهم ذاتياً والمنتظم في تشكيلاته الهادفة لإقرار المصالح العامة التي تعود على مؤسساته وأفراده بالنفع المباشر ، وهو المجتمع الممتليء أصالةً وسيادةً ووعياً لذاته وأدواره ومسؤولياته ، وهو المُنتج للدولة والسلطة والمشرف والمراقب لها من خلال قواه ومؤسساته وتنظيماته الفاعلة والمتخصصة بألوان العمل المدني الشامل. و هنا يتخذ الفصل المفاهيمي للمجتمع المدني عن الدولة أهمية بالغة ليس لأنه يعبر بدقة، و لو نظريا، عن واقعٍ قانوني و مؤسسي، بل لأنه يجعل من الممكن حماية هذا الفضاء في وجه قمع الدولة. بينما طمس الجانب الأخر للمفهوم الذي يتعلق بالتناقض بين المجتمع المدني و السوق، رغم أن دور المجتمع المدني يستند إلى فرضية أن مهمته هي قبل كل شيء أن يكون صمام أمان لكبح جماح الدولة و السوق تجاه الهيمنة على المصالح الحيوية للمجتمع. و قد مكن نضج و تطور المجتمع المدني من تكوين قاعدة احتجاج عريضة لمقاومة طغيان رأس المال العالمي و تحميل الشركات المتعددة الجنسيات مسؤولياتها تجاه العواقب البيئية و الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة لأنشطتها التجارية، كجزء من عملية الضغط المتنامي من أجل تحسين نظام الحكم الديمقراطي و تأكيد احترام كرامة الإنسان وحقوقه و الحرص على سلامة بيئته عبر العالم. اليوم أصبح المجتمع المدني يشكل فضاء متمددا أكثر فأكثر ليشمل مجموعات مختلفة و ذات أهداف متباينة.لكن الحقيقةً هي أنّ العلاقات بين هذه الأطراف متداخلة و غير واضحة في العالم العربي. ولا يمكن لأي جماعة أن تحقق وجودها الفاعل إلا عن طريق خلق ثقافة التسامح والحوار وخلق العلاقات الديمقراطية فيما بينها ، ومن يمارس الديمقراطية في علاقاته الداخلية يشعر بالالتزام الأدبي وأنه لابد أن يتعامل بنفس هذا السلوك في علاقاته مع الأحزاب والمؤسسات الأخرى أو مع الجماعات الأخرى .. إذ أن هذه الأمور هي رهن الممارسة ومصداقية الانتماء ، إذا وجد الانتماء ووجد التفاعل الصحيح الذي يؤدي بالتالي إلى خلق روح التسامح والأخوة والتعاون والمودة .. ثم إن هذه النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية عندما تكون واعية ولديها شعور بالمسئولية تجاه الوطن وتقرأ التاريخ قراءة معمقة ستشعر بأن تاريخها كفيل بإرشادها إلى الطرق السليمة لبناء المستقبل .
و عندما  تستخدم الرأسمالية العالمية و المحلية المسيطرة على السوق بعض منظمات المجتمع المدني لتحمي مصالحها ليس فقط في وجه الدولة لكن أيضاً في وجه الحركات العمالية و أنصار البيئة و مناهضي الرأسمالية المتوحشة، تسعى منظمات غير حكومية أخرى لتأمين الرعاية الاجتماعية و النهوض بالتنمية المحلية لتأمين بعض الخدمات و تلبية بعض حاجاتٍ الفقراء و الضعفاء والمساهمة في تطوير الاستجابة للمشاكل الاجتماعية المطروحة على المجتمعات الحديثة.                        
وقد زاد الاهتمام بالمجتمع المدني من قبل رواد الحركات الاجتماعية ودعاة الديمقراطية في العديد من الدول لأسباب عدة منها؛ زيادة الوعي بحقوق الإنسان، ورغبة المواطنين في الحصول على المزيد من الحقوق والحريات، ولممارسة نوع من الرقابة على سلطة الحكومات، وتأكيد حق المواطنين في المشاركة في إدارة شئون المجتمع. ان كل انظمة العالم بما فيها الأنظمة الديمقراطية تعتمد على مزيج من الشرعية والقوة ولكن الدول غير الديمقراطية تزداد فيها كفة القوة على الشرعية بل ان هذه الدول لاتتحمل ان ترى قوى المجتمع تنظم نفسها بثقة وتطالب باحداث التغييرات المنشودة . أما في الدول الديمقراطية فان المجتمع بامكانه ان ينظم نفسه ويطالب بتغيير الحكومة واستبدالها بحكومة افضل . وفي محاولة لفهم الكيفية التي ينتقل بها المجتمع من مجتمع استبدادي الى آخر ديمقراطي هناك عدد من العوامل الداخلية التي تساعد في حصول التحول الى الديمقراطية . فبعض الأنظمة الأستبدادية تنهار بسبب التصدع الذي يحصل في وحدتها الداخلية مما يؤدي الى ظهور تيارات متضاربة في النظام لأن النظام أخفق في جوانب كثيرة أو ان قناعة تكونت لدى بعض اجنحته بعدم جدواه على المدى البعيد . اما العامل الثاني الذي اتضح من واقع تجارب كثير من الدول منها دول شرق آسيا فهو يتعلق بمستوى التنمية الذي وصل اليه المجتمع . فزيادة مستوى دخل الفرد ودرجة وعيه وتمكنه من وسائل الأتصال وما يواكب هذه التحولات من ظهور للطبقة الوسطى ومطالبتها بالحريات باشكالها المختلفة . اما العامل الثالث الذي له تأثير على التحول الى الديمقراطية فهو ظهور قيم الحرية ، فعندما يزداد دخل الأفراد ووعيهم فان شعور هؤلاء ألأفراد بقدرتهم على التأثير ورغبتهم في التعاون مع غيرهم وحرصهم على حقوق جميع شرائح المجتمع يزداد كذلك مما يمهد لتوسع هامش الحرية أي ان الأفراد تتحول قيمهم من “قيم البقاء” اي القيم المادية الى ” قيم التعبير” والرغبة في السلوك ألأستقلالي عن السلطة . اما العامل الداخلي الرابع والأخير الذي يؤثر على ظهور الديمقراطية فهو ظهور مؤسسات المجتمع المدني والذي قد يكون بسبب التطور الأقتصادي او بسبب تمادي النظام في ممارسة الأستبداد والأرهاب أو بفقدان النظام لتأييد كثير من الشرائح كرجال الأعمال وغيرهم ، وكذلك بسبب استقلال شرائح المجتمع من النظام لأن هذا الأستقلال ، خاصة الأقتصادي منه ، يساعد على ظهور الطبقة الوسطى ومعها كثير من منظمات المجتمع المدني . لذلك فانه مما يؤخر التحول الديمقراطي في الدول النفطية هو استغلال هذه الحكومات لأموال النفط من اجل شراء ولاءات كثير من شرائح المجتمع. هنلك عدة امور تتعلق بتعميق الديمقراطية في العالم من خلال بعض السياسات للتعامل مع الدول التي تهيمن فيها شريحة على مقدرات وقرارات المجتمع وذلك بايجاد مؤسسات قانونية فاعله وتوفير البيانات وقيام مؤسسات لمكافحة الفساد ولجان برلمانية ومؤسسات التدقيق والتنظيم والتقييم وتشجيع قيام مؤسسات المجتمع المدني واعلام مستقل وتشجيع وتنشئة مواطنين واعين ومطالبين بحقوقهم ومدافعين عنها . و أن من الأدوات التي يمكن استخدامها في تعميق مسار الديمقراطية النفوذ السياسي والمساعدات الأقتصادية واالسياسة الخارجية وتعبئة القوى والمؤسسات الأقليمية وتقنية المعلومات . و الفساد الذي لم يعد وباء خاص بالدول النامية وحدها وانما اصبح متفشيا وعلى نطاق واسع في الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.من كل ذلك يتضح لنا أهمية المجتمع المدني ودوره في عملية التحول الديمقراطي؛ كونه يشكل مدرسة لتدريب المواطنين على القيم الديمقراطية والمواطنة وثقافة حقوق الإنسان والتسامح والمحبة ونشر ثقافة التعاون الجماعي والرقابة على الحكومة، مما يتطلب تضافر كل الجهود من أجل تشكيل مجتمع مدني واعي والتأكيد على بناء إرادة المواطنة كونه صمام الأمان ضد أية فتنة؛ ويجب على جميع المؤسسات الرسمية والأهلية المعنية بالتنشئة ونشر الثقافات، سواءً كانت سياسية أو حقوقية أو اقتصادية أو اجتماعية، التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والاستفادة من الطاقات المبدعة داخل هذه المؤسسات للوصول إلى أكبر قدر ممكن من الفئات المستهدفة في عملية التنشئة، ودعم الممارسات الديمقراطية داخل هذه المؤسسات. لكن المجتمع المدني هو خليط غير منسجم ومتعدد الاتجاهات وقد يتناقض مع بعضه البعض حتى في الأمور المشتركة. فكل طبقة اجتماعية تعتبر مصالحها متطابقة مع المصلحة العامة. إن جمعيات المجتمع المدني تعكس وجهة نظر أعضائها فقط وليس لها أي تفويض عام كما هو الحال في الحكومات الديمقراطية المنتخبة من الشعب والمسؤولة عن تسيير دفة الدولة. تقوية المجتمع المدني يجب ألا يبقى لإمتصاص نقمة الشعب نتيجة المشاكل وألا ينوب عن العمل السياسي المباشر عن طريق الأحزاب. لأن العمل السياسي هو الوسيلة الأكثر نجاعة والأكثر ديمقراطية لإصلاح شؤون الدولة والمجتمع. في العالم العربي، نرى كل نخبة تصل إلى السلطة في هذه المنطقة من العالم، يكون همها الأول تقوية بنيتها السلطوية الذاتية , عبر توزيع المهام والسلطات و المنافع على أساس علاقات الولاء الضيقة، عوض الإلتفات إلى عامة الشعب و العمل على تنويره من خلال بناء المجتمع المدني الذي يمثل الدعامة الحقيقية لارتكاز العملية الإصلاحية و نشر و تثبيت ثقافة وقيم الحرية وحقوق الإنسان والعدالة و التضامن و التعاون والشراكة. كل ذلك أدى إلى تقويض أسس المجتمع المدني ودوره في تدبير المجال العام. لقد تم التلاعب بمفاهيم محورية مثل المواطنة والمصلحة العامة و التسامح والحرية والتعددية ضمن سياقات تعبوية مؤدلجة من أجل خلق هويات دلالية لمشاريع سياسية تدعي الاصلاح، بينما هي ترمي في أهدافها المبيتة إلى الوصول إلى السلطة ليس إلا. إن تأسيس الجمعيات بلا أهداف نفعية في المجتمعات الحديثة هو من أهم أركان ممارسة الديمقراطية المباشرة. هذه الممارسة تغني المجتمع المدني بأنواع لا تحصى من النشاطات السياسية والاجتماعية والفنية والرياضية… كل الدول الديمقراطية تحيط هذه الجمعيات بقوانين أساسية لكي تمارس فيها النشاطات بحرية سليمة. المبدأ الأساسي في أي جمعية بلا أهداف نفعية هو أن السيادة في إرادة أعضائها. هذه الإرادة تعبر عن نفسها وبشكل رسمي عن طريق اجتماعات الجمعية العامة. وقراراتها تعتبر كقانون لها وهي ملزمة لكل الأعضاء.                            
استندت الدول الغربية الرئيسة، ولبعض الوقت، على فرضية أن الديمقراطية هي الحل للصراع السياسي، وأن الهدف الاسمى لسياستها الخارجية يجب ان يكون تشجيع نمو الديمقراطية في البلدان التي لم تتمتع بفوائدها بعد. وما تزال هذه الدول ملتزمة بهذا الافتراض، حتى عند ما تتعامل مع الاحداث في الشرق الاوسط اليوم. حيث ان الديمقراطيات بشكل عام لا تحارب بعضها، كما انها، وفي العموم، لا تمر بحرب اهلية داخل حدودها. فحيثما يستطيع الشعب اختيار حكومته، فهناك صمام امان يمنع الخلاف.