23 ديسمبر، 2024 6:28 ص

مسؤولية العراق الشيعي..!

مسؤولية العراق الشيعي..!

من المستبعد، على المدى المنظور، فصل المواقف العراقية عن المؤثرات الخارجية. هذه الحقيقة التي تجعل العراق يستمر في طور تأسيسي شاق، يجب أن تواجه بصراحة لكي يتحدد المسار الوطني للخروج منها بأقل الخسائر.
مع ما لهذه الحقيقة من أثر واضح على العلاقات الوطنية، فهي أيضاً تُغذى من الداخل؛ بمعنى إنّ نصف الحل بيد القوى العراقية، فلو إجتمعت على بلورة موقف وطني سيتراجع تأثير الخارج. إنّ بلورة الموقف الوطني تفكك مشاكل وعقد المكونات وتفكيك تلك العقد هو الأساس الذي تبنى عليه عملية التصالح الوطني.
هل هناك حاجة لمصالحة؟..
إنّ المواقف السياسية النابعة من مشاكل طائفية أو عرقية، لا يمكن حصرها في أُطر قانونية أو دستورية جامدة تتعامل مع المشكلة على إنها حالة شخصيّة، وفي حقيقتها تشمل مكون يأخذ حيزاً جغرافياً متصلاً من أرض الوطن. الواقع هنا يخضع لحسابات المنطق الإنساني؛ فمن المستحيل السيطرة على تلك المساحة التابعة للوطن في ظل إستمرار العداء بين سكانها والدولة. المعروف إن الدساتير لا توفر حلولاً لتلك المشاكل أو الصراعات الإنسانية، رغم إنها تنظم العلاقة بين الناس من جهة والناس والدولة والدولة من جهة ثانية لينحصر بمفهوم يوحّد الجميع وهو مفهوم “المواطنة”، غير إن المشكلة هنا ليست قائمة على شرعية دستورية، بمعنى لا يوجد إعتراض على شكل الحكم أو نصوص الدستور بقدر الإعتراض على هوية من يحكم، أو أحياناً ممارسة الدولة أو الحاكم.
هذا الموضوع يقع فوق سقف الدستور، ويتطلب ممارسة سياسية محترفة قادرة على صناعة الحدث ومواكبة حركة التاريخ، بل موجّهة لتلك الحركة بما يخدم المصالح الوطنية، وبالتأكيد هذا العمل لا يحتاج الى إستعمال نصوص دستورية للجلوس مع الآخر؛ إنما الواقع هو الجلوس والحوار مع الآخرين لجلبهم إلى مظلة الدستور العراقي. أي إنّ النشاط الخادم لمصلحة الوطن والناس، بالمحصلة هو خادم للدستور.
فالعراق بحاجة أكيدة وماسة للجلوس مع المختلفين داخلياً وخارجياً، الجلوس معهم بثقة المقتدر وبإقتدار الواثق بنفسه. أما الركون للحل العسكري كحل مطلق، فلن يطوّر في المشهد شيئاً، وتجربتنا ما زالت قائمة، فضلاً عن تجارب دول عديدة مرت بظروف أقل تعقيداً.
ما قبل التصالح..
لتتحقق عملية التصالح، لا بدّ من توافر شروط رئيسية تَخَلق بيئة مناسبة، وإلا فليس من المنطقي التصالح مع جهة والصراع مع أخرى بسبب هذا الصلح!..
الأحداث أكثر تعقيداً من الكلام أو النظرية، فهناك معرقلات كثيرة تقف بوجه عملية التصالح أو حتى الجلوس مع المختلف، وهذه المعرقلات تتحدد حسب طبيعة المتبنيات المكوناتية والتي يحرص بعض الساسة على ترسيخها في المجتمع هروباً من المسؤولية حيناً وتغطية ملفات فساد أو فشل أحياناً. فبعض مرادفات الفوز الإنتخابي مرتبطة ببقاء مشاكل العراق قائمة. هناك أطراف أخرى تتبنى موقف حاسم من أي عمل سياسي محترف، وهي تقترب إلى درجة ما، من حالة إلغاء الآخر مهما كانت نقاط الإلتقاء معه كثيرة.
إنّ مصاديق كثيرة نجدها في الوسط الشيعي لتلك الدوائر، لكنّ مرحلة ما بعد ١٠ حزيران/ ٢٠١٤ أوضحت الخطوط الفاصلة بين فريقين شيعيين مهمين؛ الأول المرجعية الدينية والقوى المنسجمة معها وما تمثله من نهج الإعتدال الساعي إلى إطفاء الحريق بجميع الوسائل المشروعة المتاحة، والثاني فريق السيد المالكي الذي تقاطع علناً مع المرجعية وسار على نهج معرقل للحلول الكبرى التي يحتاجها العراق.
المرجعية الدينية واضحة بخطابها وطرحها، وهي ليست متحيزة لجهة دون أخرى، غير إنّ القوى السياسية هي التي تختار موقعها من المرجعية وهنا فالقوى (المرجعية) هي التي إختارت قربها من منهج المرجعية.
 فريق الأزمة يحاول إستخدام جزء من قوى الحشد الشعبي لشرعنة هذا النهج.
هذا التوصيف المختصر للساحة الشيعية الفاعلة، لا يمكن تجاهله في أي عملية تصالحية بين الدولة العراقية التي يديرها الشيعة وبين المكونات الأخرى، ومن باب أولى إنهاء الصراع أو التقاطع (الشيعي_الشيعي) قبل الشروع بتواصل مع الأطراف الأخرى.
إن المسؤولية التي يتحملها شيعة العراق مضاعفة، فهم من يحدد زمان ومكان الحوار إن هم أرادوا ذلك، وإذا لم تكن لديهم الإرادة السياسية التي تنهي أو تقلص أزمات البلد، فالخسارة ستكون بحجم المسؤولية وأعظم. ولعل تشكيل حكومة السيد العبادي، وتوجيهات المرجعية الدينية لها؛ إرتكزت بالأساس على حقيقة مهمة: المشاكل الكبيرة تحتاج إلى حلول من جنسها.
نظرة عميقة في الأفق الوطني تضعنا أمام صورة مرعبة ومشوشة لعراق (مابعد الشيعة).
 الكورد يبحثون عن إستقلال أو إنفصال، والسنة يبحثون عن فدرلة، ويبدو إنهم وصلوا مؤخراً إلى فكرة إندماج طائفي تجعلهم مع الكورد يشكلون قوام دولة، هذا ما كشفته رسالة موجهة من شخصيات سنية إلى مسعود برازاني..بالتأكيد لهذه الرسالة مخطط أو على أقل التقارير إستشارة خارجية. الكورد بتوجهاتهم، والسنة برغباتهم؛ يمتلكون مبررات يتحدثون بها مع الخارج الذي يمتلك سلطة وقوة تمكّنه من إنضاج أي مشروع إنفصالي أو وحدوي. أبسط تلك المبررات “التحالف الوطني الشيعي يرفض أي حوار وطني” والخارج لن يتعامل مع المفاهيم العراقية التي تخص الشيعة أو غيرهم بالطريقة التي يتعامل معها الجمهور الشيعي. فلن يلتفت الخارج للسؤال المطروح “مع من نتحاور؟”.
من المجحف جداً أن يفرط الشيعة بنقاط قوتهم، ويسلموا مشارط تقسيم بلدهم، إلى المشترك معهم في الوطن أو المنافس أو الداعم له من خلف الحدود.
إذن لا بد من حرق الأوراق التي يستخدمها الآخر لإضعاف التجربة الشيعية. فالحوار والجلوس مع الآخر، لم يعد ترفاً سياسياً أو تسويقاً إعلامية؛ إنما هو مسؤولية تاريخية وشرعية ووطنية، يتحملها شيعة العراق. إن هوية الآخر، لا يمكن تحديدها من قبل الشيعة، فعندما يُطلب شكل أو توجه سياسي واحد يجب التحاور معه، فهذا يعني أن لا حوار، سيما بعد ما وصلت إليه الأمور..في السابق كانت هذه الإمكانية متاحة، غير إن تدويل القضية العراقية بمكوناتها؛ وصلت مرحلة متقدمة ويجب وضع حداً لهذا التدويل قبل غرق السفينة. بذات الوقت، لا يمكن قبول كل الأصوات المعارضة للعملية السياسية وتلبية رغبة الحوار معها أو الرضوخ لمطالبها، بل هناك محاذير لا يمكن التقرب منها..هنا يأتي دور الذكاء السياسي وإستطاعته في تفريق أهواء جمعها عداء التجربة الشيعية.
الذكاء هنا يأتي إبتداءاً من لملمة البيت الشيعي، لكسر حالة الجمود المرافقة للوضع والتي أوصلته حد الإختناق، ومن ثم تطويق مصادر التأزيم التي تستهدف الآخر وبالتالي تزيد من تعقيدات المشهد، وبعدها خلق البيئة المناسبة للحوار الشّامل.
إنّ منهج الإعتدال المتمثل بالمرجعية الدينية وقوى سياسية أخرى، أخذ هذه المسؤولية على عاتقه وأعلن عن ضرورتها في مناسبات عديدة، غير إن المعرقلات ما زالت تعمل في طريق هذا التوجه، وهنا لا بدّ من إزالتها لخلق الأجواء الملائمة للتصالح.
لقاءات كثيرة تدخل في هذا الإطار، غير إنّها تفتقد دينامية وإستمرارية  كفيلة بنقلها من الحالة البروتوكولية إلى واقع ومسيرة ناضجة.
قد تقرأ هذه الحالة التقاربية على إنها حالة طبيعية ترافق العملية السياسية أو ربما إزدواجية، وهذه قراءة سطحية للحدث؛ فالعمل السياسي يفهم بالمنهج وليس بالشخصنة، وطالما منهج الحوار إستطاع جلب منهج التصعيد لمنطقته، فهذه هي الخطوة الأولى والتي سجلت نجاحاً لرواد الحوار. بينما لو تعامل دعاة الحوار مع دعاة التصعيد بقطيعة، فهذا دليل على كسب الأخير للجولة.
المنطقة الزمنية التي دخلها العراق، تحتوي على معادلة معقدة جداً وحساسة جداً، فمن ناحية الداخل هناك نزوح سني مستمر صوب التطرف أو الخارج أو أي عنوان مختلف مع بغداد، وقد تصل عدوى ذلك النزوح إلى البقية السنية المشتركة في العملية السياسية، وهناك أيضاً إصرار كردي على التقاطع مع بغداد، ففي تقاطعه يحقق مصالح كثيرة منها تعاطف دولي وكسب لمكوّن مشتت مختلف مع بغداد ويتوق للتحالف مع كل من يتخلف معها. في الإقليم والعالم هناك إختلال واضح والملفات متشابكة، وهي ليست بمصلحة بغداد. وبغداد منشغلة في حملات تسقيط داخلي لكل من يدعو لحل شامل للأزمة!..الحكومة لم تتغير كثيراً في لعب دور مسؤول عن سيادة الدولة، لذلك فأنّ فريق المرجعية الدينية توجيهاً وتنفيذاً، سيبقى يمارس دور الراعي لعملية تسيّد الدولة على حدودها وإحتوائها لمواطنيها، لكن المعرقلات تؤخر الوصول لنتيجة مقبولة، لذا يجب العمل على إزالتها.