الصحافة العراقية اليوم مدانة من قبل الكبير والصغير، المثقف والمتعلم، اشباه المثقفين واشباه المتعلمين، فهذه الصحافة عندهم: صحافة كذب، وخداع، وتضليل، وتزييف للحقائق، طائفية مذهبية مناطقية عشائرية، غير موثوقة، ولاموضوعية… الى آخر الموبقات…
اود ان اقول بداية، بحكم تجربتي المهنية التي مازالت قريبة من عمل الصحافة، ان الحقيقة في هذا العالم الذي نعيش، مستحيلة، وواهمون الذين ينشدون الحقيقة في الصحافة. عليهم ان يبحثوا عنها في الشعر، والقصة، والفن، والحوار، والثقافة..فالصحافة، أية صحافة، ليست عندها الحقيقة الكاملة لكي تقولها، وحتى اذا كانت تملكها فهي لن تقولها كلها، لان الحقيقة الساخنة المرتبطة بالحديث القريب اشبه، اذا ما اطلقت، بجحيم دانتي او اعصار تسونامي. لذلك فالحقيقة هي بنت التاريخ البعيد عندما تتبدد الهزات السياسية وتهدأ، ويصبح هؤلاء الاقوياء العتاة من افراد ودول ومؤسسات في ذمة هذا التاريخ لا يملكون من امرهم وامر غيرهم ضراً او نفعاً، ولا يستطيعون حجب الحقيقة عن الصحافة او منعها من ان تنقلها الى الرأي العام.
ذلك كله لا يلغي مسؤولية الصحافة العراقية. فمن السخف ان يتهرب الصحافي العراقي من قول الحقيقة او مواجهتها، ملقياً المهمة على التاريخ. فالشعوب لا تنتظر، والرأي العام يطالب صحافته ولو بجانب من هذه الحقيقة، ليشكل رأيه وقناعاته، ويحدد مساره، لذلك فالصحافة التي لا تنشد الحقيقة لا تستحق ان تعيش، فوجودها في الاساس هو حاجة الناس لان يعرفوا وان يفهموا، فحق المعرفة في تاريخ الانسان المتمدن هو جزء لا يتجزأ من حق العيش والحياة في كرامة وحرية ورفاهية، واذا لم تعرف الحقيقة فمن الصعب ان نستوعب العصر الذي نعيش. والشعوب التي تجهل عصرها لا تعرف اين تضع اقدامها في عالم خطر حافل بالمزالق القاتلة.
ازمة الصحافة العراقية اليوم هي من ازمة المجتمع العراقي ككل. المجتمع الذي لا ينشد الحقيقة او يواجهها، يستحيل على مؤسساته، ومنها الصحافة، ان تنشد الحقيقة او تواجهها. هؤلاء الذين يوبخون الصحافة ويتهمونها، ماذا فعلوا هم انفسهم من الحقيقة؟ هؤلاء المتشدقون الكسالى من مثقفين واكاديميين وتكنوقراط… الملتصقين بحضن السلطة، اللائذين بجدارها، ماذا فعلوا من اجل الحرية والحقيقة في مجتمعهم؟ قد يجيبون: انه الخوف الذي يمنعهم، الخوف من الاذى، او الخوف على لقمة العيش.
ايضا الصحافة، وبساطة متناهية، تخاف من الاذى، وتخاف على لقمة العيش… ذلك كله لا يلغي مسؤولية الصحافة عندنا في العراق امام الحقيقة والحرية. انها هي ايضا لائذة بحضن السلطة الى حدود الاستسلام، وملتصقة بجدارها الفولاذي الى حد (الاستخذاء…). لكن ماذا تفعل صحافتنا غير ذلك؟
الصحافة العراقية التي تصدر بمال الحكومة او بمعونتها وتسهيلاتها….. تخضع لتوجيه ومصلحة خطها السياسي الذي يحكم البلد. والمحررون والكتّاب من شريحة السلطة، هؤلاء يعبرون عن ارادتها ومنطقها وفكرها ومصلحتها، وبغياب الحرية والديمقراطية، وبغياب الرأي الآخر، فهم يقدمون الحقيقة من جانب واحد وبعُد واحد. وهذا هو سبب الرفض الاساسي الذي تلقاه الصحافة العراقية الصادرة بالداخل لدى رأي عام عراقي متعطش للحقيقة. ولاطائل من وراء مطالبتها في ان تكون موضوعية ولا منحازة طالما ان الحكومة هي المالكة او هي الموجهة بسلطتها الابوية في المجتمع والسياسة والاقتصاد والفكر والثقافة…..
الصحافة العراقية الصادرة في الخارج، هي ايضا بدورها غير مؤهلة في امتلاك الجرأة بذكر الحقيقة. فهي في غالبها صحافة افراد (رؤوس اموال) تبغي الوجاهة والمكانة الاجتماعية، لا احد يقدرها الا المتملقين المنتفعين. فحريتها نسبية لم تسمح لها الظروف المحيطة بها ان تكون صحافة مؤسسية تنشد الحقيقة الموضوعية انما جاءت بسبب تراجع صحافة الداخل وتحجيم الحرية والديمقراطية في عراقنا.
ان قيمة الصحافة يجب ان تقوم على قدرة القارئ العراقي الواعي على استخلاص الحقيقة من خلال المقارنة والمفارقة والتناقض في عرض الاخبار ووجهات النظر في هذه الصحيفة او تلك المحسوبة على هذه الجهة او تلك.
حتى حكومات العراق المتعاقبة (9/ نيسان- الآن) بانغلاقها وعزلتها وعدائها للوطنية العراقية وانتمائها العروبي، توجس خيفة من البعد الوطني العراقي العروبي في جانبه الصحفي. وهذه الحكومات للاسف لم تدرك ان هذا البعد هو قوة للعراق الآن، الضعيف بجيشه وانقساماته الداخلية… فلم تقدم لصحافة العراق التسهيلات ما يساعدها على التحرر من اغراء المال الخارجي، وما يؤهلها لخدمة الحقيقة وقضية الحرية والديمقراطية في هذا الظلام الذي نسميه المحيط العربي/ الاسلامي/ الاقليمي.
لماذا لم تخدم الصحافة العراقية الصادرة في الخارج الحقيقة، حقيقة الاوضاع بالكامل في الداخل، وقضية الحرية في العراق؟
السؤال يستدعي سؤالاً آخر: وماذا لو جندت هذه الصحافة نفسها لخدمة الحقيقة وقضية الحرية، ثم لم يُسمح بالدخول الى الداخل؟ ما الفائدة من ذلك كله اذا لم تصل هذه الصحافة الى القارئ والرأي العام الموجهة اليه؟
السؤال الثاني، ليس من عندي انه دائماً قشة الخلاص التي تتعلق بها الصحافة العراقية في الخارج عندما تواجه بالسؤال الاول.
في ظني، انه حتى لو سمحت الحكومة بدخول صحافة تتبنى قضية الحقيقة والحرية، فصحافة الخارج غير مؤهلة ولا قادرة ولا راغبة في القيام بهذه المهمة، وذلك راجع الى التركيب العضوي لبنية صحافة الخارج، فاغلب محرريها وكتابها وموجهيها ينتمي الى التفكير المذهبي الطائفي العشائري المناطقي، بعضهم –صحيح- على جانب مهم من الثقافة، ولكن هذه الثقافة من (الموبقات الوطنية) في اصولها واهتمامها… بحيث تلقيان بالقضايا والازمات الحقيقية للمجتمع العراقي الى دائرة الوعي الخلفي للمحرر او الكاتب بل هو بالكاد يعرف عنها شيئاً.
والقلة من هؤلاء التي تعرف، تؤثر بحكم اعتبارات وحسابات عديدة، عدم الخوض في قضايا بالغة الحساسية، كقضايا الحرية والحقيقة،التي هي في حسابها قضايا من صميم اهتمام واختصاص الاغلبية السياسية والشعبية المتنفذة في الداخل من بيدها زمام الامور……..
الصحافة المحترفة، ليست ايديولوجيا، ليست التزاماً حزبياً، وبالتالي ليس مطلوباً من الصحافي المحترف ان يكون مناضلاً سياسياً، لكن الصحافة الوطنية الموضوعية ليست ايضا شاهد زور. نشدان الحقيقة وخدمة المبادئ الاساسية والعامة لحقوق الانسان في مقدمة مهام الصحافة الوطنية السياسية التي اخذت في ظل (كاتم الانفاس) تؤثر السلامة؟!
لماذا تؤثر السلامة؟! الامر بعيد عن الشاعرية. انه يتعلق بسلوكية الحكومة تجاه مواطنيها ومعارضيها…. العقلية السياسية للحكومة اقرب ما تكون الى عقلية اسقاط قيم الشهامة والمروءة، لم يعد السياسي المعارض فحسب معرض للاغتيال، سواء في الداخل او في المنفى، فـ (كواتم) الحكومة تطارد اليوم في شوارع العراق ومدن العالم الوف المعارضين العاديين من طلبة وشباب وكسبة ومثقفين ورجال اعمال…. تصفيهم بلا رحمة وبلا هوادة، وجهراً، وبلا اعتذار لرأي عام متمدن يحترم الحياة الانسانية، ويقدس الرأي الاخر.
ضعف التربية والثقافة في طبقة الحكومة ينعكس بالازدراء والتعالي على مهن الثقافة والاعلام. ليس هناك منطق او حوار بين الجانبين. فالكلمة تقابل الرصاصة. وهناك دائما لدى الاجهزة الحكومية من هو مستعد لاطلاق الرصاص ثم يرفع اصبعيه ببلاهة ووحشية امام المصورين ليرسم علامة النصر على الكلمة المعارضة وعلى الحرية والكرامة الانسانية. ربما هناك من يقول ان الصحافة العراقية اليوم، اما ان تصمت وتسكت واما ان تكون قاسية ومبالغة وغير معقولة في نقدها ومعارضتها.
قد يكون. فما زالت المؤسسة الصحفية العراقية في مرحلة التطور على الرغم من صدور اول صحيفة عام 1869م. انها الجانب الاكثر تعبيرا عن العقل العراقي في افتقاره الى المنطق، الى المعلومات، الى تقليب الرأي، الى العودة الى الخلفيات والتاريخ، الى سبر القضايا الحساسة بعمق وامانة وموضوعية. لكن ليست المؤسسة السياسية الحاكمة هي الجانب الاكثر تعبيراً عن تخلف العقل العراقي وعجزه القاتل والمميت امام المنطق والحوار بشكلهما العاطفي الأثاري الصحافي او بشكلهما العقلاني والموضوعي؟
ما جرى لبعض الصحفيين عندنا… ممن توهموا بـ ليبرالية الحكومة وتقبلها للرأي الآخر كان تربية للآخرين… وكان هذا هو الهدف والمغزى السياسي لارهاب الصحافة. فاقصى درجات المواجهة الصحفية الآن، ان تتجرأ مطبوعة فتنتقد جانب حكومي ثم تطلب شرطة النجدة للحماية!! واعلى درجات المعارضة الصحفية ان تدعي اية مطبوعة انها تنبأت بسقوط الوزير الفلاني بينما كانت نعمته وعطاياه وهداياه تنساب بانتظام والى آخر لحظة في حياته الرسمية وبشكل يشوش على سماع انات من يستوزرهم الذين يتضورون من سلوكياته…..
الاداء الصحفي الحرفي والمهني اهترأ ايضاً باساليبه التقليدية المتبعة. فالصحافة الاسبوعية على محدوديتها تدخل في منافسة عبثية مع الصحافة اليومية الاسرع والاسهل وصولاً الى القارئ. انها هي ايضا تحاول ان تكون صحافة حديثة واخبارية، تنسى ان مهمة الصحافة الاسبوعية تقصي خلفيات وغوامض الحدث اليومي وترك توصيفه للصحافة اليومية… فهي عاجزة عن تقديم اي جديد حدثي مثير تضيفه على ما تنقله وترويه الصحافة اليومية.
العرض الصحفي كف عن اجتذاب القارئ السياسي. التحليل والتجريد والتنظير حل محل المشهد في الساحة الحديثة بدلاً من يكملا بعضهما بعضاً. الصحفي في بغداد مثلاً ينظر بالنيابة عن زميله خارج بغداد او العراق ليتنبأ بما ستفعله الحكومة او امريكا المحتلة، بينما يكون الحدث الضخم عنده فلا يراه. واذا عالجه فهو ينسب تأويلاته الشخصية تارة الى مصدر عراقي ثم يرد عليه بمصدر امريكي وفجأة يدخل على الخط مسؤولاً كبيراً لينقل عنه حديثاً مزعوماً في مجالسه الخاصة.
ما من صحفي عراقي حتى الان فكر في ان ينتزع من مآسي وفواجع الحياة اليومية لوحة وصفية لمعاناة ذاتية لشخص او طفل او اسرة او حي بكامله… هذه هي ايضا مهمة الصحافة الاسبوعية، فلديها الوقت لكي تتوقف عند الحدث وتبحث عن الجانب الخلفي والانسان فيه.
التحقيق الصحفي المصور في موقع الحدث مهمة اخرى من مهام الصحافة الاسبوعية. ويمكن ان يصل الى قمة كماله السياسي والمهني اذا ما تحول الى استقصاء وتحقيق نقديين فعلاً.
المصور الصحفي بات كمصور الافراح والليالي الملاح، فما من لقطة معبرة او طريقة او ذات مغزى. المجلة الاسبوعية (السياسية) اذن ليست معملاً كئيباً للتحليل والتنظير، انها تستطيع ان تكون فيلماً سينمائياً ناطقاً بتحقيقاتها وريبورتاجاتها المصورة.
حتى الخبر في الصحافة العراقية الآن يفقد مضمونه وغايته عندما يفقد بعض عناصره الاساسية. بعض محرري ومترجمي الصحف اليومية يبتر الخبر، يأخذ منه الجانب الملتهب ويقذف في سلة المهملات بخلفيته او يكتفي بالقول ان فلاناً قابل فلاناً، وان فلاناً وفلاناً حضر المقابلة، ثم لا شيء عن مضمون المقابلة او اسطر جافة لا تشفي الغليل تقيداً بالنص الرسمي.
الصحافة الاخبارية اليومية تنسى هي ايضا انها لا تستطيع ان تنافس لحظات الاذاعة والفضائيات في سرعة عرض الاخبار ولكنها تستطيع ان تستعيد منها القارئ اليومي عندما تقدم له هذه الخلفيات والتفسيرات السريعة للاخبار. وهذا ما تفعله كبريات الصحف اليومية العالمية الجادة مستعينة احياناً بخرائط وبتحليلات خاصة يقدمها محرروها المختصون.
المقابلة الصحافية تحولت في الصحافة العراقية الى علاقات عامة للشهرة او للدعاية للمسؤول. الصحافة العراقية تعطي الاجوبة التي يريدها المسؤول ولكنها لا تطرح الاسئلة التي تجول في ذهن القارئ والرأي العام.
الصحافة العراقية مازالت عاجزة عن طرح او فرض حدث او قضية ما على الرأي العام. انها قدرية مسيرة تسلس قيادتها للاخبار والاحداث دونما اي تدخل من جانبها.
العناية بالكلمة وجمالية الجملة الصحافية يتهاوى وينهار رويداً رويداً لدى جيل صحافي جديد يحمل شهادات ولكنه لا يملك ناصية اللغة التي يكتب فيها. معظم الصحافيين الجدد لم يسمع بصحافيين عرب وعراقيين كبار ممن ابتكروا وطوروا اللغة الصحافية العربية والعراقية، فما زال اسلوبهم بالكتابة الصحفية متقدماً على عصرهم، ويجب ان يدرس في كليات الاعلام ليس للطلبة فحسب وانما ايضا للاكاديميين الذين يدرسون الصحافة ويخرّجون جهلة في المعرفة الصحفية واللغة الصحافية.
الصحافة العراقية ربما تستطيع ان تفعل الشيء الكثير للتخفيف من ازمتها الراهنة، وحتى لو لم ترغب في خدمة الحقيقة في قضايا تمس مباشرة المصالح الضيقة لرموز الحكومة، فهي غير معذورة في اهمالها لقضايا اجتماعية واقتصادية ليست على هذا القدر من الحساسية. اين مثلاً الصحافة العراقية من ازمة البطالة والعوز الذي تلف المجتمع العراقي كله؟ لماذا لا تطرح مشكلة التصنيع الذي يوفر الآف الوظائف…؟ لماذا لا تطالب هذه الصحافة باعلان ميزانيات حقيقية لصرفيات الحكومة ووزاراتها… يكون للرقم فيها قداسته ومصداقيته؟ لماذا لا تكشف هذه الصحافة ميزانية الامن والدفاع بدل ان تكون سراً مكتوماً لا عن الشعب وانما حتى عن اقرب المقربين من دائرة صنع القرار السياسي؟ لماذا لا تعالج حقيقة ارتباطات التيارات الدينية في العراق بالاجندات الاجنبية التي عانى منها المجتمع العراقي الاهوال كثيراً ومازال…؟
نعم، الصحافة العراقية اليوم تعيش ازمة حقيقية، وهي تسير من سيء الى اسوأ، ولكن ازمتها هي من ازمة المجتمع العراقي. اننا نعيش مرحلة انتقالية بكل ما تحمله من مظاهر الاضطراب والبلبلة والتردد والخوف والفوضى والهزات السياسية والاجتماعية… ولا بد ان الصراع سيحسم الازمة اما لصالح الحرية والعقلانية في هذا المجتمع، واما لصالح قوى الظلام والجمود في الداخل والخارج… ومع الحسم الاجتماعي ستحسم ايضا ازمة الصحافة، فاما صحافة حرة متحررة وناضجة واما صحافة مترددة وخائفة ولاهية…
[email protected]