تولي الدول المتقدمة ذات الأنظمة الديمقراطية أهمية كبيرة لكل صغيرة وكبيرة لها علاقة بإرث وتاريخ شعوبها، بأعتبارها مسؤولية وطنية تقع على عاتق حكومات هذه البلدان، حيث تُنفق مئات الألوف وربما ملايين الدولارات للأهتمام بهذا الجانب. فعلى سبيل المثال هنا في أستراليا، وقبل بضع سنوات، وعن طريق القمر الصناعي، وعلى بقعة معينة في أرض تعود لكنيسة مار زيا الطوباوي التابعة للكنيسة الشرقية القديمة عُثر على بقايا عظام تحت الأرض يُعتقد إنها تعود الى السكان الأصليين لأستراليا ( الأبوريجنيس )، وعلى أثرها تحركت السلطات المختصة على الفور لتسوية الموضوع مع الكنيسة لحماية هذه البقعة من الأرض والحفاظ عليها لأهميتها التاريخية والعنوية. وإذا ما حاولنا البحث والتقصي فسنجد العديد من الأمثلة المشابهة لهذا الحدث وقعت في العديد من دول العالم، ولن نخوض فيها بل نكتفي بهذا المثل المذكور أعلاه.
ما يحز في نفوسنا ويشعرنا بالحزن والألم، هو الأهمال الكبير من لدن الحكومة العراقية والجهات المختصة تجاه الأرث التاريخي في العراق. وهنا أيضا لن نخوض في التفاصيل لتلافي الأبتعاد عن موضوع مقالنا هذا والذي سنركز فيه على الكرسي الجاثليقي لكنيسة المشرق.
غالباً ما نقرأ للعديد من أبناء أمتنا الآشورية مناشدات لعودة الكرسي البطريركي لكنيسة المشرق الآشورية الى العراق، لسنا هنا بصدد الوقوف بالضد من هذه الدعوات الصادقة، بل بالعكس فنحن جميعا تواقين لرؤية اليوم الذي يعود هذا الكرسي المقدس الى الوطن. ولكن لا بدّ لنا أن نشير الى الأسباب التي غرّبته!، وقبل الولوج في هذه الأسباب نرى من الضروري أن نمر ولو بشكل سريع على فترات تاريخية محددة تجنباً لإطالة المقالة، للإشارة الى الدور الوطني الكبير الذي لعبه أبناء كنيسة المشرق.
تعتبر كنيسة المشرق من الكنائس الأولى في تاريخ المسيحية، حيث تأسست في ساليق قطيسفون جنوب بغداد ( سلمان باك الحالية )على يد تلميذ مار توما “مار ماري” ومار أدي في القرن الأول الميلادي، حيث كان لهذه الكنيسة دوراً رائداً في نشر الديانة المسيحية وتعاليمها في منطقة الشرق الأوسط والشرق الأقصى. وتجدر الإشارة الى “ططيانوس الآشوري” الذي كان قد وصل الى روما في بداية القرن الثاني الميلادي، فله يعود الفضل في جمع الأناجيل الأربعة ( الدياتيسرون) في كتاب مقدس واحد، وفي نفس الوقت فقد تتلمذ على يده القديس كليمنت في روما بحسب ما يشير إليه هذا القديس نفسه.
ليس بخافياً على أحد الدور الرائد الذي لعبه أبناء هذه الكنيسة عبر القرون، خاصة في زمن الأمويين والعباسيين، حيث كانت لغة الكنيسة ( اللغة الآشورية ) هي السائدة، وكانت لغة الدواوين والتخاطب حتى القرن الثالث عشر الميلادي في ما بين النهرين. وقد برزت شخصيات كبيرة كأسحاق النينوي وأيليا الحيري في مجال ترجمة الأدب اليوناني، منها مؤلفات أرسطو وأفلاطون الى اللغة العربية. حيث أزدهرت الترجمة بين عامي 750 و900 ميلادية، وأيضا في عهد هارون الرشيد، ونخص بالذكر حنين بن أسحاق المعروف بـ( الطبيب النسطوري ) بالإضافة الى أبنه إسحاق، وحبيش بن الأعسم، وغيرهم من الذين كانوا أشهر المترجمين في تلك الفترة، بالإضافة الى خدماتهم الجليلة في مجال العلم والأدب.
من اللافت للإنتباه إن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بنى بطريركية كنيسة المشرق عندما شرع ببناء بغداد (وعلى أثرها أنتقل الكرسي البطريركي من ساليق قطيسفون الى بغداد)، لما كان لأبناء هذه الكنيسة من دور مؤثر في مجال الترجمة والعلم والطب والأدب، هنا أيضاً يجدر الإشارة الى أفراد أُسرة بختيشوع الذين كانوا أطباء الخلفاء العباسيين. وقد بلغ تأثير هذه الكنيسة حتى على الموسيقى العربية بشكل كبير، كما إن الخليفة نفسه قد أشرف على بناء مدرستين لهذه الكنيسة في بغداد.
أتسمت فترة الخلفاء العباسيين بنوع من الهدوء والسكينة لكنيسة المشرق، الى أن بدأت الأولى بالضعف، وسقطت على ايدي المغول في القرن الثالث عشر الميلادي. وعلى أثر أجتياح المغول للعراق تعرض أبناء هذه الكنيسة الى مذابح ومجازر كبيرة في بغداد وتكريت وأربيل وغيرها من المدن والقرى الأُخرى، خاصة عندما تولى تيمورلنك قيادة المغول، لذا أضطر آباء الكنيسة الى الأحتماء في المناطق الجبلية هرباً من حملات تيمورلنك الدموية، فتسبب ذلك في تنقل الكرسي البطريركي لكنيسة المشرق من منطقة لأخرى الى أن أستقر لقرون في بلدة ألقوش ” القلعة الآشورية العريقة”.
في القرن السادس عشر عاودت الأرساليات الغربية التبشير في منطقة الشرق الأوسط ، وقد لعبت هذه الأرساليات دورا رئيسياً في تمزيق كنيسة المشرق، بعد أن تركوا مهمة التبشير بين الشعوب الغير مسيحية وألتفتوا الى كسب ما يمكن كسبه من أبناء كنيسة المشرق متجاهلين المعاناة التي ستلحق بأبناء هذه الكنيسة من جراء تصرفهم هذا، وتوّجت محاولات كنيسة روما برسم مار يوخنا سولاقا بطريركا تابعا لها في عام 1552 وأسبغت عليه في البداية لقب (بطريرك الآشوريين الشرقيين) متجاهلة بهذه الرسامة كل القوانين والأعراف الكنيسة، كونها رسمته رئيساً دينيا في كنيسة كان لا زال لها بطريرك شرعي يجلس على كرسيها المقدس في ألقوش. وتعاقبت المحاولات إثر أغتيال البطريرك الجديد مار يوخنا سولاقا بعد ثلاثة سنوات من رسامته، فبرزت سلسلة البطاركة الشمعونيين التابعين لكنيسة روما وبعدهم سلسلة البطاركة اليوسفيين. بعد أن باءت بالفشل محاولات روما لتقسيم كنيسة المشرق، أستقرت الأمور بتواجد بطريركين مستقلين لكنيسة المشرق أحدهما في قوجانس ( جبال هكاري داخل الحدود التركية الحالية ) أبتداءً من عام 1670م، والآخر في ألقوش،الى عام 1838 عندما أستغلت من جديد كنيسة روما الخلاف الذي كان قائما داخل العائلة البطريركية، وعلى أثرها رسمت من جديد مطران نينوى مار يوخنا هرمز أبونا بطريركاً جديدا تابعا لها.
كما ذكرنا أعلاه، فقد تنقل مقر الكرسي البطريركي لكنيسة المشرق من منطقة أو مدينة الى أُخرى في الوطن، فبعد أن أنتقل من ساليق قصيسفون الى بغداد أيام الخليفة المنصور، تغرب لأول مرة إثر رسامة مار يهبالاها المغولي جاثاليقاً على كنيسة المشرق عام 1281م في كنيسة ساليق أيام الأليخان أباقا المغولي، ولكن بعد وفاة مار يهبالاها عام 1317م تم رسامة مار طيماثيوس عام 1318 جاثليقاً على كنيسة المشرق، وهكذا أُعيد الكرسي البطريركي الى الوطن. أختار مار طيماثيوس مدينة أربيل لتكون مقراً للكرسي البطريركي إثر الحملة الدموية المغولية على المسيحيين بعد وفاة آرغون خان المغولي وتولي أبنه قازان خان الحكم.
بعد وفاة مار طيماثيوس، جلس مار دنخا الثاني بطريركا على كرسي كنيسة المشرق في كرمليس، ومن ثم أنتقل الكرسي البطريركي في عهد خلفائه الى نينوى ( الموصل )، هكذا الى أن أستقر في النهاية لقرون في ألقوش، وإثر سيطرة الكنيسة الرومانية على منطقة سهل نينوى وكثلكة أبناء شعبنا الآشوري في هذه القرى والقصبات تحديداً بعد عام 1838م، أصبح كرسي الجاثليق مار شمعون في قوجانس الوريث لكنيسة المشرق يتمتع بأستقلالية كاملة دون وصاية.
هكذا وأبان الحرب العالمية الأولى، تعرض آشوريوا المنطقة الواقعة “جنوب شرق تركيا اليوم” الى المذابح على يد القوات التركية المدعومة بالعشائر الكردية، تم أجتياح المنطقة بكاملها ونهب وتدمير القرى الآشورية، وأُجبر سكان هذه القرى للنزوح الى أيران ومنها الى بعقوبة، حيث أستقروا في مخيمات أستشرت بينهم الأوبئة والأمراض القاتلة التي توفي على أثرها الآلاف بعد أن كانوا قد فقدوا بطريركهم، وأكثر من نصف عددهم في المذابح خلال أعوام 1915-1918م.
لم يسلم الآشوريون من محاولات التطهير العرقي والإبادة على أساس الهوية القومية والدينية طوال عقود من الزمن في التاريخ المعاصر، الى أن توّجت هذه المذابح في سميل في الفترة 7-11 آب من عام 1933، بتخطيط من السلطات الأنكليزية في العراق وتنفيذ من قبل الحكومة العراقية في حينها، وعلى أثرها وبقرار جائر من الحكومة العراقية في نفس العام تم نفي رئاسة كنيسة المشرق بشخص بطريركها مار أيشاي شمعون بالإضافة الى عائلته الى جزيرة قبرص، ومنها أنتقل الى أنكلترا، ثم الى الولايات المتحدة وأستقر هناك الى يومنا هذا.
أشتداد الأزمة والأقتتال بين الحكومة في بغداد والقيادات الكردية طوال عقد الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي من جهة، وتأثير الصراع العربي الأسرائيلي من جهة أُخرى وضع الحكومة العراقية أمام الأمر الواقع بعد أن شابها الضعف خاصة في المجال العسكري دون أن تتمكن من أحتواء الأزمة الكردية، مما أضطرها لمنح الحكم الذاتي للأكراد في 11/3/1970، ولغرض إفشال هذه الأتفاقية ألتجأت الحكومة الى جملة من الأمور، منها أستغلال الآشوريين لما يتمتعون به من شجاعة وقدرات قتالية عالية لمواجهة الأكراد، عليه تم توجيه دعوة للبطريرك للقدوم الى العراق بعد أن قررت إعادة الجنسية العراقية له.
وصل البطريرك مار أيشاي شمعون الى العراق في نيسان من عام 1970 في زيارة رسمية تلبية للدعوة الموجهة لقداسته، أستمرت زيارته لمدة شهر، تجول خلالها في العديد من المدن والقرى التي كان يسكنها الآشوريون وعاد بعدها الى الولايات المتحدة، وفي عام 1972 كررت الحكومة العراقية دعوتها مجددا للبطريرك ولكن هذه المرة وجهت الدعوة الى الأتحاد الآشوري العالمي أيضاً بأعتباره أكبر تنظيم قومي آشوري في المهجر ويتمتع بشعبية واسعة بين الآشوريين، فوصل البطريرك يرافقه وفد من الأتحاد الآشوري العالمي الى العراق عام 1972، ولكن هذه المرة عرضت الحكومة على البطريرك والوفد المرافق له تشكيل وحدات قتالية آشورية لمحاربة القوات الكردية. رفض البطريرك هذا العرض مبينا بأنه رجل دين من جهة، ولا رغبة له في إقحام الآشوريين في هذا الصراع من جهة أُخرى بعد أن كان قد تيقن بأن الحكومة العراقية تحاول زرع القتنة وإشعال فتيل الصراع الكردي الآشوري من جديد. فلم تقف الحكومة عند هذا الحد، بل سارعت لتوجيه الدعوة الى مالك ياقو مالك أسماعيل الذي يعتبر واحداً من القادة الآشوريين البارزين، بغية أستدراجه لتنفيذ المخطط، لكنه هو الآخر رفض ذلك. وحسب ما تدعي بعض المصادر فقد تم تسميمه من قبل الحكومة العراقية وتوفي في كندا عام 1974 بعد أن كانت قد فشلت الحكومة في تسميم البطريرك مار أيشاي شمعون الذي كان قد علم بالأمر وعليه كان قد عجّل سفره الى الولايات المتحدة الأميركية.
بالرغم من إعادة الجنسية العراقية الى بطريرك كنيسة المشرق الآشورية، وإصدار العفو عن الآشوريين المتهمين في أحداث سميل، ولكنها كانت مؤامرة من قبل حزب البعث العربي الأشتراكي لإشعال فتيلة حروب وأقتتال بين أبناء العراق بالأخص الآشوريين والأكراد، ولم تكن دعوة صادقة مبنية على النوايا الحسنة والحس الوطني الصادق، وعليه فقد سقطت مشروعيتها، أساساً أصبحت مجرد مقررات على ورق تنصلت الحكومة عنها مثلما كانت تفعل دائما مع كل ما لا يتفق ومشاريعها العنصرية الشمولية. وعليه وأنطلاقا من المصلحة القومية العليا وأيمانا بمفاهيم الديمقراطية والمساواة والعيش المشترك التي تدعي الحكومة العراقية الحالية أنها تنتهجها، نرى من الواجب والضرورة توجيه دعوة رسمية الى القيادة الروحية لكنيسة المشرق الآشورية وليس لشخص البطريرك نفسه، لإعادة الكرسي البطريركي لهذه الكنيسة من الأغتراب الى الوطن، بإعتباره إرثا وطنياً لا يقاس بثمن كونه الوريث الشرعي لكنيسة المشرق المقدسة الرسولية الجامعة، والتي هي أقدم كنائس العالم، وفي نفس الوقت فهذه الخطوة الجريئة تعتبر مسؤولية أخلاقية وتاريخية ووطنية تقع على عاتق الحكومة العراقية الحالية، ولما سيكون لهذه المبادرة من تأثير أيجابي على كافة الأصعدة سواءً كانت وطنية عراقية أو دينية وقومية آشورية، وما ستلعبه من دور بارز في الحفاظ على الوجود القومي والديني للآشوريين التابعين لهذه الكنيسة في العراق، ونحن جميعاً على أمل أن تتمكن الحكومة العراقية من أن تخطو هكذا خطوة جريئة أيجابية تحتسب لها وتؤكد بذلك صدق نواياها في بناء عراق ديمقراطي تعددي يعيش فيه جميع أبنائه بسلام وأمان يتطلعون الى غد مشرق.