23 ديسمبر، 2024 10:32 ص

مزرعة الهابيانكو – قراءة في تجربة محمود جنداري : رواية (الحافات)اختياراً

مزرعة الهابيانكو – قراءة في تجربة محمود جنداري : رواية (الحافات)اختياراً

كل شيء في هذا العالم الكئيب يعيش على الهامش، على حافة الكآبة، الروح، الحب، الحياة، المجتمع، التفكك، التشظي؛ فلا يوجد شيء ثابت في هذا الكون سوىالخوف الذي تتشبث جذوره  بمرور الزمن وتتضخم على حافةسم قاتلمبعثه العثور على متكأ  واهن يدعي الواهمون انهم يستطيعون من خلاله، استعادة النفس بعد كل هذه المتاعب، والرؤى المريرة المدمرة.((فالناس لا يتغيرون إلا بالموت)): بالسم المستورد من الداخل والخارج، السم الذي تنبت عشبتهفي مسافات الحروب.
كل هذه الأفكار تدفع للبحث عن شيء آخر يُصلح الفساد المتراكم على جميع الأصعدة، عن نهر يمنح النفس مقاومته وخلوده. فأي مجتمع هذا الذي يجعل أبناءه يعدّون علاقة بين طفلين:(علوان وجليلة)  مصدر خوف وتعب ووساوس خطيرة للطفلين  ولأهل البلدة جميعاً،  أخطر من وساوس الحرب القائمة منذ أربع حروب.
حروب تجعل طفلين بريئين يتبادلان الذعر، والقلق، والهوس على شاطئ نهر ينقل وساوسهما من الشمال الى الجنوب لتعم البلد الذي لا تشغله وساوس الحرب الرابعة. حرب استمرت 8 سنوات بين بلدين يفكران بطريقة  واحدة، يأخذ كل منهما طرفاً من أطراف السم.
وساوس تزرع في الأطفال لغة الصمت، والبكاء بصمت، والصبر، والمكابرة الحية، والتمسك بالألم والضغط عليه في القلب بشدة،تعلمهم كره مجتمعهم تاركين كلام الناس يدخل من تلك الأذن. ويخرج من الأخرى،تعلمهم كيف يقولون نعم للموت خوفاً من موت آخر حقير، أشد موتاً.
وساوس تدفع الاجيال القادمة باتجاه العزلة ليجدوا متكأ في أغوار النفس بعيداً عن ضوضاء المجتمعات الفاشلة المفككة التي يتأصل جهلها كلما سقطت قذيفة على مزرعة وأحرقت سنابلها الخضراء.
ولو أن ما نفوس هؤلاء الأطفال تسرب إلى نفوس كل الصبية لخرج أطفال البلدان الفقيرة كلهم من أعماق البيوت الطينية، ولاصطفوا على شاطئ النهر ليغسلهم من تخلف آبائهم كما غسل قلبَي (علوان وجليلة)، لكنهم سوف يستسلمون الى الصمت أيضاً وسينكفئون على ذواتهم وسيرفضون آباءهم ولكن بصمت أيضاً. فبراءة النهر ديانة جديدة كان يمكن أن ينشره الحب الطفولي البريء في زمن ما بعد الحرب: زمن الهابيانكو.
ذلك الزمن الذي يحاول أن يهزم حتى الأنهار ويغذي مساحة الرمل بالحرقة والضياع ويغذي الطفولة بترويض النفسوالقهر المتأصل، وحجب أهوائها المتوثبة دوماً، وإرغامها على الصمت، وعلى الركون.
((متى كان لي موطئ قدم في هذه الأرض غير هذا النهر ورمله))؟ يتسائل علوان، حينما رأى الخطر في الإنتماء الحقير الذي سيمزق التمزق.
((أربعين عاماً مضت سراعاً، وما انطوت قط على شيء من الرحمة)) ((لم يكن فيها غير الصمت المنفعل المهلك، الصمت المر بانتظار أن أعرف أي من هذه الرغبات ينبغي أن أتبع)).((لا أحد يقترب مني، لا أحد يبتسم لي، لا أحد يهمه أمري)) ((لقد عاصرت أربع حروب، أو خمساً، خرجت منها جلداً على عظم)).
حروب جعلت  دولاً ومجتمعات تتمزق  ((دول معتدية، وأخرى متحالفة مع بعضها وثالثة احتلت، أو تجزأت، وخرجت من الدويلة دولتان، ومن الإمارة أربع ممالك، ومن المقاطعة الصغيرة، والشريط الحدودي جمهوريتان، إحداهما ديمقراطية، والأخرى شعبية)). حروب تجعل الفرد يغوص بفرديته يبحث عن ((إنسان، أي إنسان يقول له كلمة واحدة، أية كلمة، يحمل عصا غليظة، ويهوي بها على رأس أكبر تلك الكلاب بقوة جنونية)) تلك الكلاب التي تحرس عشبة السم التي تُخضِع الأكثيرية فيكون فيهم الرافض ساقط من حساباتهم مثيراً للتقزز والرعب. فالكل يشعر بالذعر حتى الذي فقد كل شيء، ويخاف الآتي.
فالخوف من المستقبل يدفع الوعي إلى الإنتماء الى النهر. فالنهر ، هو الوحيد الذي ينتمي الى نفسه ويمثل وحدة البلد ((سأنتمي إلى النهر ما دام هؤلاء القوم جادين ومأزومين إلى هذه الدرجة)) يقول علوان الذي عاصر أربع حروب، كان طفلا في الأولى وجندياً في الثانية وهارباً في الثالثة وميتاً في الرابعة، حروب لا يعرف اسماءها، ولم يطلق فيها رصاصة واحدة باتجاه آخر لا يعرفه، ولكنه يعرف أنه يعاني مثله.  عاصر ملوكاً ((جفاهم النوم، واستنسخوا خطبهم من بطون كتب التاريخ، واستعدوا بها، وبالصولجانات لاعتلاء عروش هزيلة مغمسة بالدم)).
فالحرب تبدأ وتنتهي كما يريد الملوك ((والذين أطلقوا الرصاص أمامهم في جبهات أخرى حصدهم من الخلف رصاص آخر أكثر فتكاً)): رصاص الهابيانكو
((لقد انتهت الحرب، ومن بقي من الرجال أحياء لا سبيل أمامهم إلا مواصلة الانحدار))
حروب تجعل الناس ((تنفذ أي أمر دون مناقشة)) ، لكي يهيئوا أنفسهم ليكونوا وقوداً لحرب أخرى ويألفونها مثلما يألفون ((الشمس والهواء والنهر وحكمة الرجال الكبار المصنوعة من الدخان)).. حروب مملة وحروب لا نعرف متى ابتدأت ومتى انتهت
حروب تزيد الإنسحاق والذل والخراب الذي يمتد بين حرب وحرب ، وتشوه الرجال. وتمنح العقل الانقسام والتطرف.
تقول جليلة:إن حذاءً جميلاً أو قميصاً للنوم يتماشى مع نبض العصر لهو أفضل وأغنى لها من عِشرة رجل شوهته الحرب، رغم أن هذا الرجل الذي شوهته الحرب أجدر بأن أقضي حياتي بجانبه أتلمس فيه نبض التاريخ)).
حروب تبدأ قبل أن نتهيأ لها وقبل أن يكتمل ترميم انكسارات الحرب التي سبقتها. لكي تصنع لنا زمناً  يدور دورة معاكسة لا نعرف فيه أين نضع أقدامنا الحالمة بالحزن والبكاء والغم. فالحزن والبكاء والغم أهون من الحقارة.
زمن نحلم فيه بحرب مع دولة أخرى تخلصنا من هذا التمزق الذي تصنعه حربنا فيما بيننا، ورغم أنها تمنح الجنود العاهات، والفسق والنذالة؛ و يشيد ((العوران  قصوراً، ومعابد للآلهة، يرفعون فيها أدعيتهم عبر تراتيل مجنونة تنفذ من كوى صغيرة في تلك المعابد)).
لا بد من الإلتجاء للنهر ((فهو وحده القادر على حمل هذا الوجد والترفق بهذه الشكوى والتصبر على هذا الأنين حتى يبلغ بها أقاصي الدنيا. لا أحد يفعل هذا غير النهر.)) لاشيء غير النهر، ولا منقذ غير النهر، ذلك العملاق الذي عاصر كل الحروب ولم يتعب ولم يتندس ولم ينقسم، ومازال بطلاً يتحدى الأزمنة. سأقول أن النهر بطل يحلم به اليائسون الخائبون السائرون على غير هدى، الذين لا يعرفون بماذا يفكرون و تستعمرهم الكآبة وتزهر في أعماقهم رائحة الخراب والفوضى والغموض، يؤمنون بكل ما هو صحيح وكل ما هو غير صحيح، ويشعورون بأنهم
مخصيون  منذ أكثر من مائة قرن، يبحثون عن زاوية يظنون أنها  هادئة، زاوية تليق بمقامهم  وتحجبهم من أنفسهم ومن الآخرين. يلقون برسائلهم في البحر دون شعور بالخطأ.فكل شيء قد ينقلب الى الضد، حتى من تظنه قريباً، فربما يفرق الهابيانكو بين حبيبين أو بين زوجين لأن كلاً منهما يحمل بندقية من مصدر مختلف، بندقية رصاصها الأفكار الهزيلة التي تخلفها الحروب الكثيرة، كإجراء احترازيبسبب تسرب روائح الهابيانكو الذي تفتح كواه الحروب: التي حاولت التملص من سم الطائفية الى سم القومية.
((ـ نحن ندافع عن أنفسنا بقوة، وأعتقد أن هذا من حقنا. لماذا تلومون من يدافع عن نفسه؟ لقد أرادوا الحرب. وخططوا لها، وفي الحرب معجزات خارج المألوف)) يحاول ثامر وجدي أن يبرر حربه مع ايران للتركي الذي سأله :عن حربه مع الفرس. بالرغم من أن ثامر وجدي عسكري سابق أحيل  على وظيفة مدنية منذ عدة سنوات، بسبب نشاطاته السياسية، وهو يؤيد ضرب ايران بقوة، بينما يتحاشى علوان الإجابة على أسئلة قادمة من مزارع الهابيانكو.التي تجعل صبياً في الثالثة عشرة، يدفع قسراً، وكأنه مسحور أو منوم مغناطيسياً إلى حقل ألغام. فيتمزق أشلاء متناثرة، لكي يعبر الجند من فوق أشلائه، تلك الروائح التي تدفع (جليلة) للتفكير برمي نفسها على قنبلة غير منفجرة، بوعي كامل، وأن ترمي بهيجة نفسها على قنبلة أخرى بلا وعي.
إن علوان لا يخاف من الحرب بقدر خوفه مما بعد الحرب، من شيء أفضع من الحرب، أحقر من الحرب، يخاف من سم ما بعد الحرب الذي يجعل الفرد يغير قناعاته عن أسباب علاقته بالآخر.  ويغير خارطة العلاقات وأواصرها مبتدأ بالإنكفاء الطائفي، إلى الذاتي مروراً بتشرذم الطائفة الواحدة، حاملاً عشبةالهابيانكو بيد والبندقية بيد أخرى كما يفعل الآخر.
صحيح أن الحروب تنقل فايروس التفكك وتجعل الحبيب يغادر دون وداع، لكن ما بعد الحرب يفكك التفكك ولا يعيد بناءه، إلا بالموت.
في خضم الحرب رفض علوان البوح بما يفكر به لفضاعة افكاره، وقد مات وهو يكتم حرباً من نوع آخر ستحصد البشر، وستكسر في النفوس جذور الحياة وتطفئها، ستنتقل إلى الشوارع، والأطفال والنساء والناس العزل فهي حرب همجية قاسية، مدمرة، لا تنطوي على أية رحمة.
لأن الكل سيشم رائحة الهابيانكو: ذلك النبات السام والقاتل والخطير. كونه لا يلفت النظر، ينبت في حدائق البيوت كما في الحدائق العامة في ظل الأشجار الكبيرة وفي ظل الزهور البيتية ونبات الظل، يأخذ ألوانها، ويقترب إلى حد مفزع ليأخذ كل منها، ولكنه مع ذلك يشتد خطورة كلما أمعن في التخفي.إنه موجود في كل البلدان ولكنه في الحقيقة لا ينتشر إلا في البلاد الحارة، والعراق مليء بهذا النبات.
ماتت جليلة و انتحر علوان لئلا يحملا عشبة الهابيانكو بيد والبندقية بالأخرى كما نفعل الآن.
لقد فعلنا  ما لم تفعله الحروب… و قطعنا جسد النهر.